الشيخ عبد الله العقيل

د. عبد الله الطنطاوي

الرجل الإخواني الفذ

المستشار عبد الله العقيل

د. عبد الله الطنطاوي

[email protected]

لذلك تأخرت :

لم أتهيب ، في حياتي ، الكتابة إلا عن ثلاثة رجال ربانيين من الإخوان المسلمين : الإمام الشهيد ، والشيخ عبدالله المطوع (أبي بدر) ، والشيخ عبدالله العقيل (أبي مصطفى) ، رحمنا الله وإياهم ، ومدّ في عمر الرجل النقي الصافي ، ممثل الإخوان المسلمين حيث كان ، وفي سائر أحواله ، الداعية المنافح عن الدعوة والدعاة ، الباذل من حر ماله ، ووقته ، وجهده ، وراحته ، لها ولهم : الأستاذ أبي مصطفى .

تعارف

أول ما سمعت بشيخنا الجليل سنة 1970 حدّثنا عنه أخ مصري نبيل كان هرب من ظلم مرسي الحكم الطاغوتي في هذا العصر : جمال عبدالناصر ، وأوى إلى إخوانه في حلب الشهباء ، مع عدد من قادة الدعوة : عبدالحكيم عابدين ، وسعيد رمضان ، وعز الدين إبراهيم ، وسواهم ، أولئك الذين أووا إلى إخوانهم في دمشق الفيحاء .

وقد أثنى الأخ سليمان المصري ، كما كنا ندعوه ، أثنى على أبي مصطفى ، ثناء حببه إلى قلوبنا ، ودعونا الله الرحمن الرحيم أن يحفظه ذخراً للدعوة والدعاة .

وكان أول لقاء بالأخ الحبيب أبي مصطفى عام 1978 في بيروت ، وكان من القلة القليلة التي لا يفجعك لقاؤك بهم ، كالمعيدي ، بل يفجؤك بما يتسم به من سمات تجذبك إليه ، وتحلّه في قلبك ، أخاً حبيباً عزيزاً ، نقي السريرة ، وصفياً ودوداً ، ، عفّ اللسان ، قليل الكلام ، موطأ الأكناف ، يألف ويؤلف ، سخي اليد ، متوهج العواطف ، نديّها .

هذا ما أحسست به تجاهه في ذلك اللقاء الذي ضمّ من الدعاة : شيخنا القرضاوي ، وراشد الغنوشي ، وعدنان سعد الدين ، وسواهم من قادة الإخوان في البلاد العربية ..

ثم افترقت الأجساد ، واستمرت الأرواح في تلاقيها ، وكانت لقاءات متباعدة في الكويت ، وفي مكة المكرمة .. كنت في أثنائها أوثر الصمت في حضرة الكبار ، من أمثال الأخوين الحبيبين درتي الإخوان الكويتيين : ابي بدر ـ الرجل الروح ـ وشقيقه في ميادين الدعوة : أبي مصطفى.

إلى أن تقاعد أبو مصطفى من الوظيفة ، وصار يزورنا في وطننا الثاني ، في عمان ، التي ألجأنا إليها ظلم طاغية سورية : حافظ أسد ، من إحدى وثلاثين سنة ، لأبي مصطفى فيها بيت وأهل وولد ، وكثرت لقاءاتنا ، وتعمقت معرفتنا وأخوتنا ، وكنت ـ أشهد الله ـ أستفيد في كل جلسة من جلسات الأربعاء ، وغير الأربعاء .. أستفيد سلوكاً ، وأخلاقاً ، وعلماً ، ومعرفة بتاريخ الدعوة ورجالها في أقطار الدنيا ، وليس في بلاد العروبة والإسلام وحسب .. وأبو مصطفى صاحب خبرات بها وبهم ، وقد برزت هذه الخبرات في أحاديثه المقتضبة ، ثم صبّ الكثير منها في كتابه الدعوي البديع : من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة .

هذا الكتاب :

إنه كتاب بديع بامتياز في بابه ، وأزعم أنه بمئة كتاب ، بما حوى من فكر ، وتاريخ ، وتجارب ، وخبرات في ميادين الدعوة ، وفي علم الرجال .

إنه كتاب دعوي قلّ نظيره في عصرنا هذا .. قد يحسبه بعض الناس كتاب تراجم ، أو موسوعة في التراجم ، وهو كذلك ، وهو أكبر من ذلك .. إنه ـ أي الكتاب ـ أبو مصطفى الرجل الإخواني الفذ ، إنه كتاب الدعوة والدعاة ، بلا منازع ، ولا يستغني الدعاة عنه ، كما لا يستغني عنه الدارسون لتاريخ الدعوة والدعاة ، وسوف يكون مرجعاً فريداً لهم .. للباحثين المصريين ، وللدارسين العرب والمسلمين ، وللمستشرقين والمستغربين .. فالفائدة من هذا الكتاب أكبر مما ينثال على الخاطر .. إنه أبو مصطفى .. أعني أن هذا الكتاب هو أبو مصطفى .. إذاأردت أن تعرف أهمية هذا الكتاب ، فاجلس إلى أبي مصطفى ، وإذا أردت أن تعرف أي رجل أبو مصطفى فاقرأ هذا الكتاب قراءة الباحث الدارس المتعمق ..

كتبه أبو مصطفى ولم يتكلف في كتابته ، ولذلك كان من أهم الكتب الدعوية ، وكذلك كتب الدعاة ، وما ينبغي لها إلا أن تكون هكذا ..

في كتابه أمثلة عن قدوات حقيقية ، قدمها لقرائه كما عرفها وخبرها ، بلا تزويق ، ولا مبالغة ، وعندما تقرأ عن محنة الإخوان في مصر ، على أيدي طغاتها ورأسهم العبد الخاسر ، وما فعلوه بصفوة الصفوة من علماء الكنانة ومجاهديها وشبابها ، وبنسائهم الطاهرات العفيفات ، لا تملك دمعاتك ، فتسيل غزاراً حراراً ، وتتساءل :

ما هؤلاء الجلادون ؟

هل هم بشر ؟

هل هم وحوش جيء بهم من غاباتهم ، لينقضوا على الدعوة وأبنائها الداعين إلى الخير ، المجاهدين في سبيل الله ، من أجل النهوض بهذه الأمة ، وتخليصاً لها من الأوضاع التي ألحقها بها من لا يخاف الله ، ولا يحسب حساباً للتاريخ ، ولا يهتم إلا بأهوائه وشهواته من الحكام المتخلفين حضارياً وإنسانياً ..

إنك تلاحظ أنهم ليسوا عرباً ، ولا مسلمين ، فليس من شيم العرب والمسلمين ما فعله ويفعله أولئك الأوباش ، بهؤلاء الأبرار الأطهار الأحرار .

أقرأ في ثنايا كتاب العقيل عن محنة الإخوان فتنهمر الدموع ، بعد مرور أكثر من نصف قرن على تلك المحنة التي ماتزال حية في قلوبنا ، نحن الذين قرأنا عنها في طفولتنا وفتوتنا ، وحفرت في خدودنا أخاديد ، وتركت في قلوبنا ندوباً هيهات أن تندمل إلى يوم الحساب ، يوم يُلقى الطغاة في قاع الجحيم .

من صفات هذا الرجل الكبير :

ـ الثبات على المبدأ ، فهو إخواني قلباً وقالباً ، وحتى العظم ، نشأ في أحضان هذه الجماعة الراشدة ، ونما في مياديها ، وخاض معامعها منذ يفاعته ، وحتى شيخوخته النشطة .

ـ ورد في الأثر : رحم الله امرءاً عرف زمانه واستقامت طريقته ، وكذلك الأخ الحبيب أبو مصطفى ، فهو يعي ما كان ، وما هو كائن ، يشرح ويحلل ويستشهد ويستنبط ، ويستشرف المستقبل ، وينصح ، ولا يفرض رأيه على محدثه ، بل يدعه لعقله وقلبه ووعيه وإخلاصه ، ليأخذ ما يأخذ ، ويترك ما يترك ، في أريحية ، وتسامٍ متواضع . إنه يصغي لمحدثه ، ولا يتكلم إلا إذا اقتضى الأمر ذلك ، كتوضيح مشكل ، أو تصحيح خطأ ، أو رد على افتئات على الإسلام أو على الإخوان ..

ـ ذو ابتسامة عذبة لا تكاد تفارق محياه ، إلا في حال الغضب على دعيّ ظلوم جهول ، فهو عندئذ ، الغضوب لله وللحق ..

ـ وفيٌّ لدعوته ، ولإخوانه ، ولأصدقائه ومعارفه ، ولكن وفاءه لجماعة الإخوان المسلمين لا يساميه وفاء ، فهو منها ، ولها ، ويا ويل أعدائها من هذا الهزبر الهصور ..

ومن أروع ما رأيت في الوفاء ، وفاؤه لشقيق روحه ،الشيخ عبدالله المطوع (أبي بدر) رحمه الله رحمة واسعة ، وحُق له هذا الوفاء لهذا الرجل الذي ندر مثيله في هذا الزمن ، وعندما توفي هذا الرجل الرائع ، خشيت على أبي مصطفى ، وحزنت عليه ، ولن ازيد ..

وكتابه الموسوعي أكبر دليل على وفائه لدعوته ، ووفائه للدعاة ، وللأصدقاء الذين تحدث عنهم بحب وود ، وأسعفته ذاكرته الحية ، وتوفيق الله ، ليكون أبو مصطفى أبا الوفاء والأوفياء في هذا العصر الذي طغت المادة على كثير من ناسه ، من العلماء والمثقفين والدعاة وسواهم ..

أبو مصطفى مسكون بالإسلام ، والإخوان والوفاء .

ـ أبو مصطفى عفّ اليد والعين ،والأذن ، واللسان .

ـ أبو مصطفى يقول بخيرية الشعوب الإسلامية ، ويرى أو أنا أرى ، أن أعدى أعداء هذه الشعوب حكامها الفاسدون المستبدون المتخلفون عن ركب الحضارة والمدنية والإنسانية ، ناهيك عن قيم العروبة والإسلام .

ـ ولهذا تراه متفائلاً بالمستقبل ، برغم كل هذا الظلام والمآسي والكوارث التي ينزلها الحكام بالأوطان أرضاً وشعوباً .

ـ أبو مصطفى متواضع ، يهرب من الأضواء .. رشحته لحفل تكريم ، فاعتذر ، حتى هذا التكريم ، جرى في الخفاء ، وكنا نتواصى ألا يصل إلى مسامعه ، فيأباه .. وكذلك تمّ هذا الحفل بفضل الله .

ـ أبو مصطفى سخي الدمع ، سخي اليد ، ولو أراد أن يكون من كبار الأثرياء لكان ، ولكنه ينفق ولا يخشى الإقلال ..

ومن أجمل سخائه المعلن : (كيس حبّ الهال) الذي يوزعه على مرتادي ديوانية الأربعاء ، في عمان ، وعندما كان يسافر إلى الرياض ، تتساءل نساؤنا : متى يعود الشيخ أبو مصطفى ؟ وعندما نسألهن : ما شأنكن بحضوره ، يقلن ببساطة وصدق : الهال . وقد دأب على هذه الهدية الجميلة لمرتادي ديوانيته منذ سنوات .

وأنا العبدلله ، أعترف أن أبا مصطفى ما زارني يوماً في بيتي ، إلا ومعه : هالٌ ، وتمر ، وكتاب ..

ـ ولهذه الشمائل ، ولسواها ، أحبّه كل من عرفه .. بل كل من التقاه من الأسوياء ، وحرص على صداقته والتواصل معه .

ـ وهذه إضاءات تؤكد ما قلته :

1 ـ أردت الكتابة عن رجل ، فاستشرته ، فقال : ولكنه عدوٌّ للجماعة فأمسكت .

2 ـ امتدحت أحد الدعاة ، فقال لي : سمعته يغتاب فلاناً من مشايخ الجماعة ، فاستغفرت .

3 ـ انتقدت أمامه شيخاً من مشايخنا ، وقلت : إنه ظلمنا بتصريحه ، فقال : لعله نُمي إليه .. اعذر أخاك ، ووضح له الأمر . ففعلت .

وأخيراً :

أين طلاب الدراسات العليا ليكتبوا عن المستشار العقيل ؟ أليس هذا خيراً من هذه الأطروحات والرسائل التي .. والتي .. ؟

أبا مصطفى .. سلام عليك في الخالدين ..