سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (22)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (22)

بدر محمد بدر

[email protected]

لقد أحببت هذا الرجل.. أحببت تواضعه وتسامحه وثقافته, وأحببت أكثر أنه يرفض العنف ويرفض التطرف.. كانت جلسة طويلة ـ ووحيدة ـ جمعتني مع الداعية الإسلامي الكبير الأستاذ عمر التلمساني, ولكنها كانت كافية جداً لإقناعي بهذا الرجل العظيم وبهذا الداعية الكبير, وبهذا الوطني المخلص الذي تحمل في سبيله إيمانه ما لم يتحمله بشر.. رجل مثل الأستاذ عمر التلمساني يجب أن تعامله الدولة معاملة تفوق ما عاملت به غيره, ممن نالوا تكريمها الذي يستحقونه, واعترفت لهم بأفضال فاقت جهادهم ووطنيتهم وتضحياتهم.. رحم الله الفقيد العظيم, الذي كان صمام أمن الجماعة ولدولة ولشعب". (أخبار اليوم 24 / 5 / 1986) عقب وفاة الأستاذ عمر بنحو عشرة أيام.

أرايت كيف نجح الداعية الرباني في أن يكسب قلوب خصومه, وعقول منتقديه, بحسن الخلق ورقة الطبع وبساطة الحديث وصدق الكلام, وهكذا كان دائماً ـ رحمه الله ـ.

الانفتاح الإخواني على المجتمع المصري العام لم يقتصر على دخول مجلس الشعب, بل سبقه وتبعه مشاركة واسعة للإخوان في انتخابات مجالس النقابات المهنية, ولم تمر عدة سنوات حتى كان الإخوان المسلمون يديرون, ويشاركون في إدارة, معظم النقابات المهنية وعلى رأسها نقابات: الأطباء والصيادلة والمهندسين والعلميين والمحامين والتجاريين والزراعيين والصحفيين, وأيضاً ساهوا في إدارة عدد من النقابات العمالية, ولكن بصورة أقل تتناسب مع تبعيتها للسلطة.

أيضاً شارك مرشحو الإخوان في قيادة الحركة الطلابية في مختلف الجامعات, عبر الترشح والفوز في انتخابات الاتحادات الطلابية, والمشاركة في الأنشطة العامة في الجامعات..

لقد نجح الأستاذ عمر التلمساني بتوفيق الله له وحسن بصيرته وإخلاصه في توظيف طاقات الإخوان المسلمين في الانفتاح السلمي على المجتمع المصري, وبالتالي إدماج هذه الطاقة المتوقدة الفتية في بناء مؤسسات المجتمع, وتحسين إدارته وإعطاء نموذج عملي للأخ المسلم الملتزم الذي يسعى لخدمة دينه ووطنه, وهذا الانفتاح السياسي والنقابي أفاد المجتمع المصري كثيرا, مثلما أفاد الإخوان المسلمين.

فكرة الحزب السياسي

وعقب تجربة التعاون مع حزب الوفد الجديد في انتخابات مجلس الشعب المصري (أبريل / نيسان 1984), وتجاوب الإخوان ـ إلى حد كبير ـ مع هذا الانفتاح السياسي, أعلن الأستاذ عمر عن نية الإخوان لدراسة تشكيل حزبهم السياسي, وهو ما أكده بقوله: "إنني آمل أنه إذا لم يكن من قيام الحزب بد, فمن العجز الفكري أن نقف حائرين, بل نسلك كل طريق مشروع يمكننا من نشر دعوتنا في كل الأوساط, أما إذا كان قدر الله أن نعود كما كنا "جماعة الإخوان المسلمين".. الهيئة المسلمة العامة الشاملة, فذلك عندنا خير وأفضل.."

ويوضح الأستاذ التلمساني رؤيته لدخول الإخوان البرلمان بقوله ".. وليعلم الناس جميعاً أن دخول البرلمان ليس هدفاً من أهداف جماعة الإخوان المسلمين, إنما هو وسيلة من وسائلنا لنشر دعوتنا, ويوم أن يتحقق هذا الأمل الذي يحتل مكانه الأسني في عقولنا وجهودنا, نستطيع أن نقول: لقد بلغنا مانهدف إليه, ووصلنا إلى الغاية التي ما بعدها غاية, وحينذاك لايهمنا من يحكم, ولايهمنا أن تبقى الجماعة أو لا تبقى, فالأمر عندنا لاعلاقة له بالشخصيات على الإطلاق, ولكنه أمر عقيدة, إن عمل بعض المسلمين لها فقد نجوا جميعاً, وإن تركها الجميع فقد أثموا جميعاً.."

كانت فكرة إنشاء حزب سياسي للإخوان المسلمين تهدف إلى توفير وضع قانوني للعمل الإخواني المطارد أمنيا, والذي يتعرض أيضا لهجوم إعلامي متواصل, والإعلان عنها كان يهدف أيضاً إلى توصيل رسالة إلى الجهات الرسمية والأمنية, تقول بأن الإخوان يرغبون في العمل العلني وإعطاء الإطار الشرعي لمؤسساتهم الشورية والتنفيذية, التي كانت أمراً واقعاً تعرفه السلطة لكنها لا تعترف به, وهذه الإشكالية ـ عدم وجود غطاء قانوني ـ عانت منها الجماعة منذ ما قيل إنه صدر قرار بحلها في أكتوبر عام 1954 من مجلس قيادة الثورة (لم تقدم السلطة أية قرارات بهذا الخصوص أمام القضاء حتى الآن), واستمر ذلك في الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات.

ومع الظهور السياسي الكبير والعلني في عام 1984م بات الغطاء القانوني أكثر أهمية وإلحاحاً, خصوصاً بعد المشاركة الانتخابية مع حزب الوفد, وحصوله على نصيب الأسد في ترتيب القوائم وفرض الشروط, واستفادته الكبيرة من الحضور الإخواني وسط الجماهير, حتى إنه في عام 1987 تحالف الإخوان مع حزبي العمل والأحرار, ونجح لهم 36 نائباً, بينما كاد الوفد أن يخرج من السباق, بعد حصوله بصعوبة بالغة على نسبة 8% التي سمحت له بالبقاء تحت قبة مجلس الشعب, لكنه فقد زعامة المعارضة التي انتقلت إلى حزب العمل, وإذا أضفنا إلى ذلك أن أجهزة الأمن نشطت في القبض على أفراد وكوادر الإخوان, بحجة حظر الاجتماعات التنظيمية, وبالتالي أصبحت الضرورة أكثر إلحاحا لوجود غطاء سياسي لمثل تلك الاجتماعات واللقاءات التربوية.

سر يذاع لأول مرة

كان الأستاذ عمر يأمل في أن تتجاوب السلطة مع فكرة إعادة الصفة القانونية للجماعة, باعتبارها كياناً سياسياً شاملاً, أكبر من الحزب السياسي وأكبر من الجمعية الخيرية, وهنا  أذيع سراً وهو أن الأستاذ عمر كان قد حصل على وعد من مسئول سياسي كبير بعودة الجماعة بشكل قانوني, وفي أحد الاجتماعات ـ وكنت حاضراً ـ قال: أبشروا بخبر مهم سوف تسعدون به كثيرا خلال الأيام القليلة القادمة, وعندما سألت أحد القريبين منه قال: سوف نعلق لافتة عليها: "المركز العام للإخوان المسلمين" على هذا المقر, لكن الأمر توقف بعد ذلك, ولا أدري بالضبط ماذا حدث.