الدكتور محمد ضياء الدين الريس

أستاذي الغائب الحاضر

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 يرحمه الله ؛ فقد كان بحق عالما معلما عظيما : إنه الدكتور محمد ضياء الدين الريس ابن المطرية دقهلية الذي كان يدرس لنا مادة " التاريخ الحديث " ، في السنة النهائية من كلية دار العلوم سنة 1956 – 1957 . وكان منهجه في تدريس هذه المادة يجمع بين حرارة الإيمان ، والتوهج العقلي ، و الانتظام الفكري ، والقدرة الفائقة على التصدي للمفتريات التاريخية التي يثيرها أعداء الحق والإسلام ، و كذلك أكاذيب من ساروا علي درب المستشرقين والمبشرين والصليبيين بحجة التجديد الديني والفكري .

 أنا أكتب هذا المقال وكأني أنظر إلي أستاذنا العظيم وهو جالس على منصة التدريس في المدرج الكبير يجذب قلوبنا وعقولنا بصوته الهادئ ، ونبره العميق .

 وتقول سيرته ... وهي ما يسمى بصحيفة أحواله :

- من ابرز اساتذة التاريخ الاسلامى في مصر في عهده .

- ولد في 17 من يناير 1912 ، حفظ القرآن الكريم كاملا ، حصل على دبلوم دار العلوم العليا 1935 وكان ترتيبه الاول ، واختير ضمن بعثة دار العلوم لدراسة التاريخ بانجلترا 1938 ، ونجح في امتحان جامعة لندن الخاص 1939 ، كما نجح في امتحان شهادة الأدب المتوسط في التاريـخ و الأدب الانجليزى والترجمة و الفلسفة الأدبية 1941 ، نال شهادة البكالوريوس مع مرتبة الشرف من جامعة لندن في التاريخ و العلوم السياسية ، و اذنت له الجامعة بالتقدم للدكتوراه مباشرة ، وأتم رسالته 1945 ، و كان موضوعها { فكرة الدولة كما تصورها النظريات السياسية الاسلامية } .

- حصل على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة ، وعين مدرسا للتاريخ الاسلامى بكلية دار العلوم

- من أبرز كتبه ( كتاب النظريات الاسلامية – عبد الملك ابن مروان موحد الدول العربية – في التاريخ الإسلامى الحديث – الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية – الإسلام و الخلافة في العصر الحديث ... )

- رقي حتى وصل إلى رئيس قسم التاريخ الإسلامى بكلية دار العلوم .

- - كان الدكتور أحمد هيكل زير الثقافة الأسبق واحدا من تلاميذه .

 ـ توفى في 26 من ابريل 1977

**********

 و يطول بنا المسار لو قدمنا كل الحجج التي فند بها المفتريات والأكاذيب ، و نكتفي في هذا المجال بخلاصة مركزة لما نقض به كتاب" الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق .

لقد أصدر استاذنا الدكتور الريس كتابه" النظريات السياسية الإسلامية " سنة 1952 ، فند فيه آراء علي عبد الرازق. وفي سنة 1976 أصدر كتابا بعنوان " الإسلام والخلافة في العصر الحديث " نقد فيه الكتاب السابق ، و الجديد أنه شكك فيه بأدلة قوية أن يكون الكتاب من تأليف الشيخ علي . ومن هذه الأدلة :

ــ لم يعرف عن الشيخ قط أنه كان باحثا، أو مفكرا سياسيا ،أو حتى مشتغلا بالسياسة .

ــ لا يعقل أن يقصد قاض شرعي مسلم من عائلة محافظة الهجوم علي الإسلام ، وينكر ما فيه من سياسة و حكم ، وجهاد وقضاء .

ــ لا يعقل أن يكون هذا الشيخ الأزهري قد تعلم قي الأزهر ما يورده في كتابه " من أحاديث عن " قيصر " و" عيسي " و" متي " و" الإصحاح" و" الإنجيل" .

ــ يتكلم الكتاب عن المسلمين بضمير الغائب . ككقوله : ذلك الزعم بين المسلمين ... غير مألوف في لغة المسلمين ... الخلافة في لسان المسلمين ... الخ .

ــ الكتاب يدافع عن المرتدين ، و ينتقد أبا بكر .

ــ شهادة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية في أحد كتبه ، وهو كعلي عبد الرازق ينتسب إلى حزب الأحرار الدستوريين ، يقول الشيخ بخيت " ... علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس له فيه إلا وضع اسمه عليه فقط ، فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه ــ من غير المسلمين ــ ضحية هذا العار " .

ــ قدم الدكتور الريس كتابه الذي اصدره سنة 1952 وهو " النظريات السياسية الإسلامية " قدمه لعلى عبد الرازق وطلب منه الرد على ما جاء فيه من تفنيد لكتاب " الإسلام وأصول الحكم " . ولم يرد علي عبد الرازق .

ــ رفض على عبد الرازق أن يعيد طبع كتابه بعد أن ألحت عليه " دار الهلال " في إعادة طبعه

ويخلص الدكتور الريس ــ رحمه الله ــ إلى ترجيح أن يكون المؤلف الأصلي لهذا الكتاب أحد المستشرقين الإنجليز .

**********

 ولا أنسى أنه قبض عليه خطأ في عهد الوزار السعدية في أواخر الأربعينيات ، والسبب أنهم وجدوا ورقة في جيب عبدالمجيد حسن ( الذي قتل النقراشي باشا رئيس الوزراء) ،وهذه الورقة مكتوب فيها كلمة واحدة هي " ضياء " ، فألقت الحكومة القبض على كل من يحمل اسم " ضياء " ، وكان منهم أستاذنا ، مع أن اسمه الكامل " محمد ضياء الدين الريس " . وأودع معتقل الطور .

 ولا انسى أنه في حديثه عن الدولة الإسلامية ــ بعد خروجه من المعتقل ــ قال : " لقد اعتقلوني مع عدد كبير من الإخوان ، وفي المعتقل رأيت فيهم الدولة الإسلامية مصغرة ، فالعلاقة بينهم تقوم في المعتقل على النظام ، والتعاون ، والإيثار، والحب العميق ... كان الواحد منهم يزوره أهله في المعتقل يحملون إليه صفيحة كبيرة جدا وقد غصت بما فيها من كعك ، فيوزعها على الإخوان ، ولا يُبقي لنفسه إلا كعكة واحدة، مما يذكرني بقوله تعالى : "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" . (الفتح 29)

**********

واعترافا بفضل عالمنا الجليل كذلك أكمل هذه الصورة بما ذكره الدكتور محمد عمارة ــ أكرمه الله ــ في كتاب صدر له سنة 1985 باسم " معركة الإسلام وأصول الحكم " . وألحق به كتابا آخر سنة 1995 باسم " الإسلام بين التنوير والتزوير " . و في فصل طويل كامل " ص 38 ــ ص 96 " تحت عنوان " علمنة الإسلام والعمران " فضح كتاب علي عبد الرازق بمعلومات و بيانات جديدة موثقة ، خرج منها بترجيح تأليف طه حسين للكتاب ، أو قسمه الثاني بأبوابه الثلاثة على الأقل .

 رحم الله أستاذنا المعلم العظيم الدكتور محمد ضياء الدين الريس ، لما قدمه من مجهود للإسلام والحق والفكر السليم . وأطال الله في عمر الأخ العزيز الأستاذ الدكتور محمد عمارة ألذى سار على الدرب ، وقدم من الجديد الرصين كثيرا وكثيرا.