الشهيدة غنية حمدو
من أوائل حرائر سورية في انتفاضة الثمانين
يحيى بشير حاج يحيى
هل سمعت ( بمرج الخوخة ) تلك القرية الغائرة في تلافيف الجبال و الذاكرة فلا يكاد يعرفها غير أهلها و من حولهم من سكان منطقة( الحفة ) في جبال اللاذقية.
من تلك القرية المغمورة المجهولة و أمثالها تفجرت ينابيع العقيدة بالبطولة و الأبطال . و في تلك القرية المغمورة المجهولة ولدت ( غنية ) لأبيها الذي لم يرغب عن قريته ، فعاش للشقاء و الكدح في سبيل تحصيل لقمة العيش لأولاده ..
و تدخل ( غنية ) مع أبيها مدرسة الأرض ، و تحصل على شهادة الكدح ، و تنال مكافأة الرضا .
و تعلو صيحة الجهاد تملأ السهل و الجبل : فيا خيل الله اركبي ، و يلبي شباب ريف اللاذقية النداء ، و ينطلقون يثأرون لشرف الأمة ، و يذودون عن حمى العقيدة ...
هنا و على قمة الجبل امرأة جاوزت السبعين ، تسترجع ذكرياتها أحداثا واقعة حية ، تنظر إلى حفيدتها( غنية ) تروح إلى الجبل و تغدو تحمل إلى الأبطال الزاد و الخبر ، فتبتسم من وراء عينيها الغائرتين ، فها هي صبية من جديد، تتحرك بقلبها و نفسها مع حفيدتها ، تود لو أسعفتها القوة لتنضم إلى الركب ... ركب الجهاد..
و تحتمي ( غنية ) ببسمة جدتها من أراجيف المرجفين ، و تحذير المحذرين ، فتكون بسمة العجوز الغائرة أقوى في نفسها من كل الدعاوى و الأراجيف .. كانت إذا هددها المشفقون أجابت : لن يصلوا إلي إنني أريد الشهادة !!
أنت يا ابنة الريف ... من أغراك بهذا ؟! من روى لك حديث الشهادة ، و من أين سمعته ؟!!
و تسترجع ( غنية ) آيات من كتاب الله حفظتها من تلقين جدتها و أبويها : (( و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ))
و تمضي ( غنية ) بنت الثامنة عشرة ، كما مضت من قبلها ( أسماء ) تحمل على عاتقها الزاد و الخبر ، راضية بما تعمل ، مبتسمة للنتائج كلما لاحت لبالها ، و تتبعها عيون المخبرين ، ترصد حركاتها ...
فتاتان في الثالثة عشرة ، وصبية في الثامنة عشرة يتحركن على طريق الجهاد تمضي الفتيات الثلاث في أشرف مهمة تقوم بها امرأة ، في عصر الشهداء . و تحاصر الأعين الخائنة الفتيات ، و تشعر (غنية) أن ساعة الحصاد ، قد اقتربت و أن المجرمين لابد قادمون . فتنطلق مع صاحبتيها إلى مغارة بعيدة عن القرية .
و يشتد الطلب على ( غنية) ، و تمر سبعة أيام بلياليها و ( غنية ) تحرس نفسها و رفيقتيها في مغارة في الجبل ثم لا يلبثن أن يتحولن إلى بيت في مزرعة قريبة .
و في فجر أحد الأيام ، تتوقف عقارب الساعة ، لترمق عشرات الرجال المدججين بالسلاح ، يحيطون بالبيت ، و تصوب عشرات البنادق من زنود الرجال ( لتتصدى) لامرأة و ( لتصمد) لبندقيتها !!
و يرفع أحدهم صوته مطالبا بالاستسلام ، فترد (غنية) عليه بطلقات صائبة ، فلا خوف و لا وجل و لا اضطراب . و تحتدم المعركة و تطول . غنية ترمي ، و صاحبتاها تملآن المخازن . و تمضي ست ساعات كانت طويلة رهيبة في القلوب المتقطعة .
و تدور سخريات شامتة من أفواه أهالي القرى المجاورة ، الذين كانوا يرقبون المعركة مشدوهين لبطولة الفتاة و صمودها ، و لعجز الجبناء و خورهم .
و تبتسم (غنية ) للشهادة و تطبق أجفانها على الحلم و الأمل ، حين يخضب عنقها عقد عقيقي حلمت يوما أن يطوق عنقها في الجنة .
و تهوي اللبؤة ، و لا عيب فيها ، غير أن صمودها أذل الرجال ، يتوقف إطلاق النار ، و تستسلم الطفلتان ، و يدخل الجنود على جثث أصحابهم مزهوين بالنصر:
فليفخر الجيش العظيم بنصره و بكسرهنه
و ينطلق صناديد الأقبية ليبحثوا عن الرجال الذين كانوا يقاتلونهم طوال ست ساعات ، فلا يجدون أمامهم سوى جثة فتاة لا حراك فيها .
و تحمر الحدق ، و يشتد الغيظ ، هل يكفي أن تستشهد (غنية) ؟ لا بد من الثأر للشرف و الكرامة و لو من الكوخ الذي نشأت في (غنية) . و يهرع المدججون بالسلاح لينهبوا كل ما في البيت الريفي الفقير من أثاث و متاع .
و تمتد يد الأم الثكلى لتخفي في ثوبها الفضفاض منديلا كان آخر ما طرزته يد (غنية) ، و يصرخ بها عتل زنيم : ماذا سرقت أيتها العجوز ؟ فتجيب أم غنية العجوز بسخرية بالغة : لسنا لصوص لنسرق منكم ما أخذتموه منا ، هذا منديل طرزته (غنية) أشمه فهو من رائحتها . و ترفع المنديل إلى أنفها ، و تعبق منه ريح الولد ، و ريح الشهادة ، و ريح الجنة .
و تمتد يد الزنيم لانتزاع المنديل ، فتتشبث العجوز به : لن أعطيه لكم و لو وضعتموني إلى جوار (غنية) .
فيطرق الزنيم رأسه ذلا لا خجلا ، و تنسكب على المنديل من عيني العجوز دمعتان حارتان .