سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (4)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (4)

بدر محمد بدر

[email protected]

الميلاد والنشأة

ولد عمر عبد الفتاح عبد القادر التلمساني في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1904م في حارة "حوش قدم" بحي الغورية, التابع لقسم شرطة الدرب الأحمر في القاهرة الفاطمية, وفي الثالثة من عمره انتقلت الأسرة الكبيرة (الجد والأب والعائلة) إلى قرية "نوى" التابعة لمركز شبين القناطر ـ محافظة القليوبية, وتبعد القرية نحو 22 كيلو متراً شمال القاهرة, وكان جده (عبد القادر) - رحمه الله - متزوجاً من اثنتين, وكان والده أيضاً.

كان الجد (عبد القادر باشا التلمساني) من مدينة "تلمسان" وهي إحدى المدن الرئيسية في الجزائر, وتقع إلى الشمال الغربي باتجاه المغرب, وعندما دخل الفرنسيون الجزائر واحتلوها في عام 1830م, كانت "تلمسان" آخر مدينة تم احتلالها, رغم وقوعها على شاطئ البحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل فرنسا, وذلك لأن أهلها دافعوا عنها دفاعاً بطولياً مستميتا حتى سقطت بأيدي الغزاة, الذين يمتلكون القدرة العسكرية الفائقة, واعترف الفرنسيون لهم بهذه البطولة, وأفردوا جناحاً خاصاً في متحف "اللوفر" الشهير, للأسلحة التي دافع بها أهل مدينة تلمسان عن بلدهم.

وفي العام الذي أطبقت فيه فرنسا على كامل التراب الجزائري (1830م), هاجر والد (عبد القادر) ومعه عائلته إلى مصر, وكان يشتغل بتجارة الحبوب والأقمشة بين مصر والسودان وسنغافورة, وعندما توفي قام ابنه (عبد القادر) بتصفية أعماله التجارية, واقتصر في دخله على ثروة كبيرة تركها والده, عبارة عن 180 فدانا في قرية "نوى" بالقليوبية, و120 فدانا أخرى في قرية المجازر التابعة لمحافظة الشرقية, إضافة إلى سبعة منازل في القاهرة.

كانت "السراية" أو القصر الذي يقيم فيه الجد "عبد القادر" والأب "عبد الفتاح" والعائلة الكبيرة, فيه الكثير من العبيد والجواري (وكان هذا طبيعياً في ذلك الوقت) وتحيط بالسراية خمسة فدادين (نحو 21 ألف متر مربع) مزروعة بالبرتقال واليوسفي والمانجو والعنب والتفاح والموز والليمون والمشمش والبرقوق والنخيل, وغيرها من الفواكه المعروفة وقتها, بالإضافة إلى مختلف أنواع الورود والزهور, مثل السوسن والياسمين والفل والقرنفل وغيرها.

وكان الجد سخيا كريماً بطبعه, وفي يوم السبت من كل أسبوع (يوم السوق في قرية نوى), كان يشتري من اللحم ما يكفي لإعداد وجبة عشاء لكل فلاحي العزبة, ويجلس هو بينهم يتناول طعام العشاء, وبسبب هذا الكرم وأمثاله أنعم عليه السلطان العثماني "عبد الحميد" برتبة "الباشوية", لأنه أيضا كان عندما يذهب لأداء فريضة الحج, يتأخر حتى يجمع كل من عجز مالياً عن العودة إلى بلاده, من فقراء المسلمين في جنوب شرق آسيا وفي اندونيسيا, ويستأجر لهم أماكن في المراكب لعودتهم إلى بلادهم.

أحب الجد "عبد القادر" الشيخ محمد بن عبد الوهاب, وطبع الكثير من كتبه على نفقته الخاصة, وكان عالماً يلبس العمامة, وكل أصدقائه من علماء الأزهر الشريف, وكثيراً ما كان يدعوهم لقضاء يوم بكامله في العزبة, فيقضون الوقت في النقاش والحوار العلمي في قضايا الدين والفقه, وهذا الجو العلمي والفكري أتاح الفرصة للحفيد "عمر" أن يقترب أكثر من قضايا الدين وعلومه, وأن يستمع ـ وهو لايزال في طور الطفولة والصبا ـ إلى الفقه والتوحيد والسيرة والحديث والتفسير, وأقوال العلماء والمجتهدين في الكثير من القضايا المطروحة والشائكة, مما وسع مداركه وأنار بصيرته وساهم في تكوينه العقلي والعلمي والمعرفي والسلوكي, الذي استفاد منه كثيرا في حياته بعد ذلك.

أحب "عمر" العلم والتعلم, وقرأ الكثير في كتب الدين ـ وهو لا يزال صغيراً ـ مثل: تفسير ابن كثير والزمخشري والقرطبي وسيرة ابن هشام وأسد الغابة والطبقات الكبرى ونهج البلاغة والعقد الفريد وصحيح البخاري وصحيح مسلم, ومن كتب الأدب قرأ للأديب مصطفى لطفي المنفلوطي وقصص عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي سلامة وسيف بن زي يزن, ومن الأدب الأجنبي قرأ رواية "غادة الكاميليا" لإسكندر ديماس و "الأرض" لإميل زولا, وكان يعزف على آلة العود.

التحق "عمر" بكُتاب القرية, كتاب "سيدي علي" وواظب على حفظ القرآن الكريم, وأحب حياة أهل الريف.. أحب البساطة ولون الزرع الأخضر والهواء النقي والطير السابح في الفضاء الممتد إلى مالا نهاية, وكان يحب السباحة في المياة الجارية.. كان يحب الجمال والبهاء والحسن في كل شئ.. جمال الإبداع الكوني, وجمال الطير الذي يسبح في السماء, وجمال الغزلان في رقتها ونحافة سيقانها, وجمالا الأفيال في ضخامة أبدانها, وجمال الأسود والنمور في بريق عيونها, مثلما كان يحب خرير الماء, وحفيف أوراق الشجر, وهدوء الليل, وزقزقة العصافير, والشمس عند شروقها وعند الغروب, وهذا هو السر في شخصيته الرومانسية الحالمة الرقيقة.

كان بيت "التلمساني" متديناً.. كل من فيه يصلي الفرائض ويصوم شهر رمضان, حتى إن "عمر" لا يتذكر أن وقتا للصلاة ضاع منه طوال حياته, وقبل أن يتعرف على دعوة الإخوان المسلمين كان يذهب إلى دور السينما, وفي وقت الاستراحة كان يصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً في أحد أركان القاعة, ولايجد حرجاً في ذلك, إنما الحرج في ضياع الوقت الذي تصح فيه الصلاة.