النقيب الشهيد جميل قسوم

من أسرة الشهداء

يحيى بشير حاج يحيى

[email protected]

انتهى المكلف بالإشراف على التنفيذ ، من تلاوة نص القرار /23/ الذي قضى بإعدام عشرة عسكريين من مختلف الرتب و مدني واحد ، و هو يتلكأ في القراءة ،و يغص بالكلمات ، و أعقب ذلك فترة من الصمت ، فاستدار محاولا إخفاء دمعات واجفة ، و أحس بأنه يكاد أن يتمزق...

وقف النقيب جميل في منتصف الكوكبة ، شامخ الرأس ، منتصب القامة ،و كأن أربعة أشهر من التعذيب في أقبية (سرايا الدفاع) و زنزنات (الآمرية الجوية ) عجزت عن أن تمحو ابتسامة رقيقة ارتسمت على شفتيه ، و خفق القلب خفقات ، وفاه الفم الذي لم يـَـن ِ عن ذكر الله: (( الحمد لله . بعد قليل أكون في جوار الرحمن ))

و تمرّ بخاطره ذكرى آخر خطبة سمعها في مسجد بلال بحلب ، يوم أجهش المصلون بالبكاء ، و الخطيب يحدثهم عن ( خبيب) في ساعة كهذه الساعة : ((اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك ، فبلغه الغداة ما يصنع بنا اللهم أحصهم عددا ، و اقتلهم بددا ، و لا تغادر منهم أحدا ...))

كانت هذه الذكريات ومضة لم تلبث أن تبددت على صوت الجلادين : ماذا تريد قبل تنفيذ الحكم ؟

ابتسم النقيب ساخراً : من سماه بالحكم ؟ إنه لظلم !! لا أريد شيئا ً إلا ماء أتوضأ به ، ثم أصلي ركعتين .

و رفع كفيه في آخر صلاة له : يا رب ، يا رب .. و عجلت إليك ربي لترضى .

و لم يمهلهم حتى ينطلقوا به إلى الخشبة ، بل انطلق و هو يكبر ، بصوت كأنه الرعد !! و ذهل الجلادون لرباطة جأشه ، و تماسكه في لحظة تنحني لها ظهور الرجال ، ثم صاح بأعلى صوته ( تسقط الطائفية ، لا ذنب لنا إلا أننا كشفنا الطائفية على حقيقتها ، و قلنا ربنا الله )

و انهمر الرصاص ، لينفجر الأحمر القاني ، و تصعد الروح إلى بارئها فتتلقاها ملائكة الرحمة .

وحفّت الملائكة ، و دَعت له في كل سماء ، و شيّعته و تساءل أهل الأرض ، و قد نعي إليهم : من هذا الشهيد ؟

إنه النقيب [ جميل قسوم ] من [ الجانودية] قرية شمالي مدينة جسر الشغور ، ولد سنة 1950 لأبوين كريمين ، و أنهى دراسته الابتدائية في قريته ، و قد لفت نظر المعلمين مخايل الذكاء و النباهة التي تبدو على التلميذ الصغير ، فأوصوا والده بأن يكمل له دراسته .

و يكمل الشهيد دراسته ، و يقف - رحمه الله- على مفرق جديد من حياته ، إما أن يمضي إلى الجامعة ، و إما أن يتطوع في الجيش ، و لا تطول به الحيرة ، فينطلق إلى الكلية الحربية ، و يوفد في بعثة إلى مصر ثم يعاد مع بضعة عشر آخرين ، لأنهم غير مؤهلين أن يستمروا بعدما أشارت التقارير إلى استقامتهم !!

و يتخرج الشهيد ملازماً باختصاص [ رادار صواريخ] عام 1973 م ، و تأتي حرب تشرين ، فيبدي الملازم المؤمن بسالة مع خيرة المقاتلين ، و يبدو عُوار المزايدين، و تنكشف حقيقتهم ، و يأبى الشهيد أن يذل و تبدأ السلطة المجرمة تمارس عليه ضغوطا ً شتى ، فتارة تحتجزه ، و تارة تستدعيه للتحقيق ، و أخرى تأمر بنقله في أنحاء القطر ما بين دمشق و حمص و طرطوس ، تتبعه بوصف لا يرتاح له المجرمون ، و يكون آخر تحقيق معه في طرطوس ، إذ يستدعيه (...) إلى مكتبه، بتهم عدة ، أقلها الصلاة في الثكنة في أثناء الدوام الرسمي.

و في حملة هستيرية مذعورة يتم اعتقاله مع عدد من ضباط و أفراد الجيش الأباة في 1980/3/27م

و يسقط الرجال عن صهوات الجياد ، و قد طعنتهم الحراب في الصدور !

و يعود المجرمون إلى دمشق الثكلى، ملطخة أيديهم ، مسودة وجوههم ، تلاحقهم لعنة الله و الأمة ، و تصل البرقيات إلى شعب التجنيد و دوائر الأحوال الشخصية، لتسقط من سجلاتها أحد عشر كوكبا ً ، و يأتي الخبر إلى قريته ، و تعيش أحزان ليال ثلاث ، ويبقى قلب الأب الصابر ، و الأم الثكلى معلقا ً بالله ، وقد قدما قبله شقيقه المساعد يوسف في حرب الاستنزاف.

و لحق به شقيقه الأصغر الطالب في كلية الهندسة بجامعة حلب ( جمال) الذي اغتالته السلطة الآثمة قرب قرية الشاتورية ، بمنطقة جسر الشغور .