سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (1)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (1)

بدر محمد بدر

[email protected]

سمح لي العمل في مجلة الدعوة أن أقترب أكثر من الأستاذ الكبير عمر التلمساني, وألمس أخلاقه الكريمة وحياءه الجم وإخلاصه العميق لدينه ولدعوته, وحبه الفياض لإخوانه وتلامذته, ورفقه الكبير بالناس عموما والمدعوين خصوصا, وغيرته الشديدة على كل ما يمس الإسلام أو دعوة الإخوان المسلمين من أذى, وصدره الواسع لكل من حوله أو من يكتب ضده, فكنت أتعلم من كل موقف, وأتأمل في كل تصرف, وأنظر في كل خاطرة, وأترقب كل إشارة أو لفتة.

لقد كان الرجل ـ رحمه الله ـ غزير المعرفة, عميق النظرة, واضح البيان, صادق المشاعر, رقيق الطبع, طلق المحيا, جميل المظهر, بهي الطلعة, منسق الهندام, شديد اليقين بنصر الله لهذا الدين, وكان الإخوان يطلقون عليه "البرنس" أي الأمير.. نعم كان الأمير.. ونعم الأمير.

لقد أكرمني الله عز وجل بالاقتراب من هذا الرجل العملاق, وعشت معه أسعد أيام عمري حتى الآن, وهي الأيام التي تشكلت فيها قناعاتي بمنهج الإخوان المسلمين, وأسلوب الدعوة إلى الله, وغاية المسلم في هذه الدنيا.

وكلما مرت بي الأيام عجافا جدباء من دون ارتواء, ونالني من الأذى ممن لا يعرفون, واستوحشت الطريق من بعض السالكين, وغابت عني وجوه كانت لي نعم السند والمعين, أعود فأرتمي في أحضان تلك الفترة من حياتي, الثرية والغنية بالإيمان والخلق والصدق والبساطة والإخوة والتجرد والحب الصادق, عسى أن تعيد لي بعض توازني.

لقد كنت وقتها في مقتبل العمر, وفي سن الانطلاق والحماسة والعاطفة المتوقدة, وكنت أحتاج إلى الأب الحاني, والأستاذ الموجه, والداعية المربي, والأخ الناصح, والمثقف الواعي, فكان هو كذلك وأكثر..

وهاأنذا أكتب سطورا من حياته المضيئة, وفاءً لهذا الرجل الصالح والداعية الرباني, أقدمها للأجيال الناشئة من العاملين للإسلام, والباحثين عن القدوة الصالحة والنموذج الرباني, ليعلموا أن هذه الدعوة المباركة, غنية برجالها الذين صنعوا التاريخ, وأقدمها أيضا قربى إلى الله عز وجل, وعسى أن يحشرني الله مع الأستاذ الكبير عمر التلمساني في زمرة العاملين المخلصين لهذا الدين, والباذلين من أجل نصرته, وإن كانت المسافة بيني وبينه كبيرة والبون شاسع, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المرء مع من أحب, وأنا أشهد أني أحبه في الله, رحمه الله رحمة واسعة, وأجزل له العطاء والثواب, ورزقه أعلى الدرجات في الجنة, إنه نعم المولى ونعم النصير.

قصتي مع الإخوان

في الشهور الأولى من عام 1977م,  كنت أتابع إحدى محاضرات مادة "النظم الدستورية", التي كانت تتناول نشأة وتطور النظام السياسي في مصر, ابتداءً من مجلس شورى النواب الذي تأسس عام 1866م, ثم أول نظارة (وزارة) مصرية في عهد الخديوي اسماعيل ورأسها نوبار باشا في عام 1878م, وحتى حركة الضباط في يوليو 1952م, ضمن مقرر السنة الأولى في كلية الإعلام جامعة القاهرة, وكانت المحاضرة تتناول جماعة "الإخوان المسلمين" ونشأتها على يد الإمام حسن البنا, باعتبارها جماعة دينية سياسية, ومدى انطباق شروط الحزب السياسي عليها من عدمه, وانفعل الدكتور المحاضر "عليّ الدين هلال" ـ القيادي بالحزب الوطني بعد ذلك ـ مبدياً شدة إعجابه بالشيخ حسن البنا مؤسس دعوة الإخوان المسلمين, وكتب على "السبورة" كلمة "كاريزما" وتعني الشخصية الفذة أو الآسرة أو القيادة النادرة, وظل المحاضر يتحدث عن بعض جوانب الإبهار في هذه الشخصية, منها: قوة شخصيته وسرعة بديهته, وحدة ذاكرته التي تجمع آلاف الأشخاص من كل محافظات مصر, وجهده الذي لا يهدأ في نشر فكرته من خلال السفر والترحال وسعة أفقه وعمق رؤيته, فهو الأفندي والشيخ والداعية والواعظ والباحث والعالم والمربي والأستاذ..إلخ..

لم أكن أعرف عن حسن البنا والإخوان المسلمين سوى القليل, الذي لا يروي الظمأ ولا يشفي الغليل، ولا يكون صورة واضحة المعالم في ذهني, وزادتني محاضرة الدكتور عليّ الدين إعجاباً بهذا الرجل, وشغفاً للتعرف على المزيد عنه وعن جماعته, ومن خلال متابعتي لمحاضرات المادة, لاحظت شدة إعجاب الدكتور المحاضر بشخصيتين تاريخيتين في مصر الحديثة, الأولى: محمد علي باشا والي مصر ومؤسس الدولة الحديثة, والثانية: الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس كبرى الحركات الإسلامية في العصر الحديث, وبالفعل كان امتحان آخر العام تعبيراً عن ذلك, إذ ضم سؤالين أساسيين عنهما.

تأثرت كثيراً بالمحاضرة وبشهادة أستاذ جامعي في حق داعية, استشهد قبل أكثر من ربع قرن وقتها, وعدت لأبحث بين زملائي الطلاب عمن يعرف أكثر عن حسن البنا والإخوان المسلمين, فوجدت ضالتي لدى صديقي وزميلي وجاري في المدينة الجامعية "إبراهيم عبد الحميد", الذي كان يدرس معي في السنة الأولى بكلية الإعلام.. وجدت لديه الكثير والكثير مما أذهلني من حكايات عن السجون والتعذيب والاعتقال في عهد عبد الناصر, وأمدني بكتاب صدر حديثاً (وقتها) للدكتور عبد المتعال الجابري أحد قيادات الإخوان المسلمين بعنوان: لماذا اغتيل الإمام الشهيد حسن البنا؟!.. والتهمت سطور الكتاب التهاما, ولم أنم ليلتها حتى انتهيت من قراءته قبيل صلاة الفجر بقليل.