سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" (15)

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا" (15)

بدر محمد بدر

[email protected]

وفي الأربعينيات تقدم نواب في البرلمان بطلب إلغاء بيوت البغاء, واستجابت الحكومة للإرادة الشعبية, وألغت التراخيص الممنوحة لها, وبالتالي انتهت المشكلة التي كانت وصمة عار في مصر الأزهر, وساهمت جهود الإخوان المسلمين حتى ذلك التاريخ, في الحد من آثارها المدمرة في المجتمع المصري.

استقرت الدعوة نوعاً ما في مدينة الإسماعيلية, ورأينا كيف أن مدينة "شبراخيت" التي نقل إليها الشيخ حامد عسكرية, باعتباره واعظاً في الأزهر الشريف, كانت أول مدينة تصلها دعوة "الإخوان المسلمين" بعد الإسماعيلية, وكيف أن "حسن البنا" رغم حزنه على فراق أخيه وصديقه وساعده الأيمن الشيخ حامد, استبشر خيراً بخروج الدعوة إلى منطقة أخرى, واعتبرها مرحلة جديدة لابد منها, وبالفعل بدأت الدعوة تنمو وتنتشر وتتمدد وتؤتي ثمارها هنا وهناك, ورغم الصعوبات والعراقيل التي واجهتها في الإسماعيلية منذ يومها الأول, إلا أن إيمان وطموح "حسن البنا" لم يكن له حدود, حتى أنه كان يبشر إخوانه ومحبيه ومريديه, بأن هذه الدعوة سوف تنتشر وتزدهر ليس في مصر فقط, بل في كل بلاد الدنيا, لأنها دعوة عالمية, وكأنه ـ في تلك المرحلة المبكرة من عمر الدعوة ـ كان يقرأ في لوح الغيب المستور, وما كتبه الله لهذه الدعوة المباركة من الذيوع والانتشار والتأثير في كل بلاد الدنيا.

كانت قرية "أبو صوير" هي أولى المحطات الدعوية بعد ذلك, وتبعد عن مدينة الإسماعيلية خمسة عشر كيلو متراً, ويسكنها عدد كبير من العمال, الذين يعملون في معسكرات الجيش الإنجليزي ومدرسة الطيران, بالإضافة إلى بعض التجار والمزارعين, ويبدو أن "حسن البنا" ـ بعد أن استقرت الدعوة إلى حد ما في مدينة الإسماعيلية ـ كان شديد الحرص على الانطلاق بها إلى خارجها, إلى الدرجة التي جعلته يزور القرية مرات عديدة, يتجول في شوارعها وطرقاتها, ويتفرس في وجوه الناس, ويذهب إلى أحد المقاهي الذي يتجمع فيه الناس, ويلقي درساً مؤثراً, ثم يواصل زياراته إلى "أبو صرير" حتى يتمكن من افتتاح شعبتها, واختيار الشيخ عبد الله سليم ناظر المدرسة الأولية بالبلدة رئيساً لها, ثم يرسل لها الشيخ عيد الأزهري, الذي يقرأ القرآن ويحسن الصلاة والخطابة, دعما وتثبيتا للفكرة, على أن يأخذ راتبه من الإسماعيلية باعتبارها مهد الدعوة, لفترة حتى تستقر الدعوة في نفوس أهالي "أبو صوير", وكانت هذه هي القاعدة عند افتتاح فروع أو شعب جديدة, ألا يحملها الإخوان أية تكاليف مادية, حتى تستقر ويقوى عودها.

الدعوة في بورسعيد:

مدينة "بورسعيد" كانت هي المحطة التالية للدعوة, بعد أن قيض الله أحد شباب المدينة وهو الأخ أحمد المصري, الذي عمل لفترة في الإسماعيلية وتأثر بدعوة الإخوان وآمن بها, ثم عاد إلى بلدته وتجمع حوله نفر من أصدقائه, وتأثروا به, وشرح صدورهم, ورغبوا في زيارة "حسن البنا" لهم, فاستجاب لهذه الرغبة, وفي إحدى الزوايا الصغيرة المتواضعة, تمت البيعة من شباب "بورسعيد" على الجهاد في سبيل نصرة هذه الدعوة, ثم استأجر الإخوان بعد ذلك, شقة متواضعة في شارع "المنيا" كانت مقراً لأول شعبة "بورسعيدية", وفي غرة المحرم 1349هـ ـ الموافق 28 من مايو 1930م, أقام الإخوان أول احتفالاتهم العامة, ووجهوا الدعوة للأستاذ "البنا" لحضور الحفل وافتتاح الشعبة, لكنه أصيب فجأة بحالة احتقان شديد في اللوزتين, حذره طبيب المدرسة على إثرها من السفر إلى بورسعيد والمشاركة في الاحتفال, لكن صاحب الرسالة صمم على السفر, بعد أن استعرض موقف الإخوان وانتظارهم له, وسعادتهم إذا شاركهم حفلهم, وما بذلوه من أجل ذلك, ودعا الله سبحانه أن يفرج ما به من ألم, وأن يصرف عنه الاحتقان ـ الذي يمنعه بالطبع من الكلام ـ وسافر مضطجعاً من الإعياء, ووصل إلى مقر الاحتفال وصلى المغرب قاعداً, حتى إذا جاء وقت العشاء, شعر ببعض التحسن وشيء من النشاط, ووقف في الحفل خطيباً لا يكاد يسمع نفسه, وسرعان ما شعر بقوة ونشاط ونقاء في الصوت, وانتهى الحفل على خير حال, بعد أن تحدث لأكثر من ساعتين بفضل الله ورحمته، ثم بفضل صدقه وإخلاصه, وإخلاص الداعين له.

كان وصول دعوة "الإخوان المسلمين" إلى "بورسعيد" بداية لانتشارها في مناطق أخرى, ففي إحدى الحفلات العامة لإخوان "بورسعيد" حضر أفراد من منطقة "البحر الصغير" من "الجمالية" و"المنزلة" دقهلية, من باب حب الاستطلاع, لكنهم سرعان ما تأثروا بالدعوة, وبعد فترة تأسست أول شعبة هناك برئاسة  الطالب الأزهري ـ وقتها ـ الشيخ مصطفى محمد الطير, وكان ذلك على الأرجح في عام 1349 هـ ـ 1930م, كما تأسست شعبة أخرى في "ميت مرجا سلسيل" بعد ذلك بفترة قصيرة برئاسة الشيخ أحمد المدني, وقبيل انتهاء فترة تواجده بالإسماعيلية زار "حسن البنا" شعبة المنزلة, ثم توالت زياراته بعد ذلك إلى المنطقة, وافتتح فيها الكثير من الشعب منها: المطرية وميت خضير وميت البصراط وميت سلسيل وبرمبال القديمة وميت عاصم والكفر الجديد وغيرها.

وفي أحد الأيام زار الأستاذ "البنا" مدينة السويس زيارة عابرة, لمقابلة بعض الأصدقاء والزملاء, وتكررت زياراته ولقاءاته وجلساته التي يشرح فيها أهدافه وأسلوبه, حتى تكونت أول شعبة للإخوان المسلمين في حي الأربعين, ورأسها الشيخ عفيفي الشافعي عطوة, المأذون الشرعي لحي الأربعين, ثم تكونت شعبة أخرى في المدينة نفسها ورأسها الشيخ عبد الرزاق البحيري باشكاتب المحكمة الشرعية, وكانت "السويس" تحظى في نفس "حسن البنا" بمكانة خاصة وذكريات طيبة..

ونلحظ هنا أن قرية "أبو صرير" ومدينة "السويس" كانتا المنطقتان الوحيدتان في تلك الفترة, اللتان ذهب إليهما "حسن البنا" بنفسه, يبحث عن الأنصار والأعوان, وينشر رسالته وفكرته, أما بقية المناطق (بورسعيد ـ البحر الصغير ـ جباسات البلاح بالإسماعيلية ـ ثم القاهرة بعد ذلك), فقد ذهب إليها الأستاذ البنا, بناء على دعوات من أنصار, وصلتهم الفكرة وتأثروا بها, ويحتاجون إلى إعلانها للناس, وإقامة مؤسستها (الشعبة) وكذلك اعتمادها من قبل القيادة في الإسماعيلية, وهذا يعني أن دعوة "الإخوان المسلمين" لم تكن في حاجة إلى وقت طويل, حتى بدأ الناس يعرفونها في المناطق المجاورة, وتنتشر من خلال النشاط العام لها في مدينة "الإسماعيلية".