سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" (14)

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا" (14)

بدر محمد بدر

[email protected]

 وقد بعث افتتاح هذا المسجد, همة أهل الخير من أبناء الإسماعيلية, لإنشاء المساجد, فازداد عددها, وكثر روادها, وهكذا كان مسجد الإخوان ودارهم, بداية مشروعات طيبة, في هذا البلد الطيب, وكان اهتمام الإخوان ـ في تلك الفترة ـ ببناء المساجد وأداء الصلوات فيها, وإقامة الدروس والحلقات واللقاءات, هو جزء من سعيهم إلى إحداث تغيير حقيقي في نفوس الناس وفي سلوكهم, وبالتالي كان "معهد حراء الإسلامي" الذي أنشأه الإخوان مع افتتاحهم للدار, فرصة للتربية, والتوجيه والتعليم والتأثير, ولا شك في أن التعرف على أهداف هذا المعهد التعليمي الجديد, سوف يلقي الضوء على مفاهيم وتوجهات الإخوان المسلمين منذ بدايتهم, ونظرتهم إلى وسائل هذا التغيير.

معهد متميز:

كان هذا المعهد, الذي بُني أعلى المسجد, متميزاً عن المعاهد الأهلية في ثلاث نقاط وهي: الشكل والجوهر والأسلوب.. فمن حيث الشكل: اشترطت الإدارة زياً خاصاً, عبارة عن جلباب ومعطف (جاكت) وطربوش أبيض وصندل (حذاء خفيف) وكل ذلك من الصناعة الوطنية وحدها, أما الدراسة فتبدأ في وقت مبكر من النهار, وتتوافق إلى حد كبير مع أوقات الصلاة, فتنتهي الفترة الأولى قبيل صلاة الظهر, حتى يؤدي التلاميذ جميعاً الصلاة في جماعة في المسجد, ثم يعودون بعد الغداء وقبيل العصر ليؤدوا الصلاة في جماعة كذلك.. ومن حيث الجوهر: انقسم منهج الدراسة إلى ثلاثة أقسام: الأول: يتوافق مع منهج المدارس الأولية (أقرب إلى المدارس الابتدائية الآن), ليعد التلميذ للأزهر أو المعاهد الدينية, والثاني: أقرب إلى المدارس التأهيلية (التعليم الفني الآن), فهو تعليم أولي في النهار, وفي آخره تعليم صناعي عملي في المصانع والورش الأهلية, التي يديرها منتمون إلى الإخوان, والثالث: يتوافق مع منهاج المدارس الابتدائية الأميرية (أقرب إلى المدارس الإعدادية والمتوسطة الآن), ليجهز التلميذ للمدارس الثانوية ثم العالية.. واهتم الإخوان بالعملية التعليمية اهتماماً كبيراً, فأحضروا لها نخبة من المدرسين المؤهلين تأهيلاً عالياً, أما من حيث الأسلوب, فقد كانت طريقة التعليم في المعهد مبتكرة, تتوافق مع أحدث نظريات التربية في تلك الفترة, حيث كان "حسن البنا" حديث عهد بدراسة مناهج التربية في "دار العلوم", فكثير من الدروس والمحاضرات كان يلقي في الهواء الطلق, في حدائق الإسماعيلية الغناء (مازالت الإسماعيلية إلى الآن تشتهر بكثرة الحدائق، ويقصدها الزوار من مختلف الأماكن للاستمتاع بجوها وحدائقها), والحروف الهجائية ومبادئ الحساب يدرسها التلاميذ بالمواد المحسوسة من الطين أو الصلصال, وكان للتلاميذ حرية واسعة في أن يصارحوا المدرسين, بما يدور في أذهانهم من تعب أو إرهاق أو سوء فهم, وبالتالي كانت العلاقة بين التلاميذ والأستاذ, وبين المدرسة والمنزل على أفضل ما تكون, من التعاون والتكامل والتوجيه.

كان "معهد حراء الإسلامي" بمصروفات دراسية مناسبة, ليس فيها إرهاق لأولياء الأمور, وزيدت نسبة المجانية بحسب ظروف الآباء (كان التعليم في مصر في تلك الفترة بمصروفات), لكن العقبة الأساسية التي قللت ـ بعض الشئ ـ من نجاح المعهد نجاحاً كاملاً ـ كما يأمل الإخوان ـ أن المدرس الذي يعتبر نفسه صاحب رسالة, لا طالب وظيفة, كان نادراً, وبالتالي أدرك الأستاذ "حسن البنا" أهمية التربية الإيمانية والدعوية للأفراد, كي تؤدي المؤسسة ـ أي مؤسسة ـ رسالتها بنجاح كما يرجو ويتمنى..

وقد استمر معهد حراء الإسلامي عامين دراسيين أو ثلاثة, ثم تحول إلى مدرسة ابتدائية تتبع وزارة المعارف العمومية المصرية, بعد فترة قصيرة من انتقال الأستاذ البنا إلى القاهرة.

وبعد أن انتظمت الدراسة في "معهد حراء الإسلامي" للبنين, استأجر الإخوان داراً فسيحة مناسبة, وأطلقوا عليها اسم "مدرسة أمهات المؤمنين" ووضع لها "حسن البنا" منهجاً دراسياً عصرياً إسلامياً, يجمع بين أدب الإسلام, وتوجيهه السامي للفتيات والأمهات والزوجات, وبين مقتضيات العصر ومطالبه من العلوم النظرية والعملية, واختار لها مدرسات من فتيات الإسماعيلية اللاتي تخصصن في التدريس, كما تولي الشيخ أحمد عبد الحميد إدارتها, وقد أدت المدرسة رسالتها, حتى تسلمتها ـ بعد فترة أيضاً ـ وزارة المعارف العمومية, وكان قد التحق بها ـ في فترة عملها ـ أكثر من خمسمائة فتاة.. وكانت "مدرسة أمهات المؤمنين" هي الأساس, بعد ذلك لقسم "الأخوات المسلمات", والذي تألف من زوجات الإخوان وقريباتهم, وكان يعرف هذا القسم ـ الذي ظل تحت الإشراف المباشر للأستاذ البنا ـ باسم "فرقة الأخوات المسلمات" ووضع له لائحة داخلية خاصة به.

ويتجلى حرص الإخوان المسلمين على الإسراع بافتتاح "مدرسة أمهات المؤمنين" بعد أن انتظمت الدراسة في معهد حراء, كدليل على موقع المرأة من اهتمام هذه الدعوة الوليدة, بل إن دعوة الإخوان تكاد تنفرد, بين الدعوات الحديثة, باهتمامها بالمرأة منذ بواكير نشاطها وخطواتها الأولى, فرسالة الإسلام ـ كما فهمها الإخوان ـ هي للرجل والمرأة معاً, والأوامر والنواهي والتكاليف الشرعية, والحقوق والواجبات, كل ذلك نزل للرجل والمرأة، وهي مسئولة مثل الرجل تماماً عن تقدم الأمة أو تخلفها, وعن نهضتها أو ضعفها, وتأتي أهمية هذه النظرة الإخوانية للمرأة في تلك الفترة, إذا علمنا أن الفتاة لم تكن قد حصلت على حقها الطبيعي في تلقي العلم، والدراسة في المدارس والمعاهد المختلفة, حتى إن بعض شيوخ الأزهر الشريف, كانوا يرفضون مبدأ تعليم الفتاة في المدارس..

ملجأ التائبات:

لكن جهود الإخوان في مجال توعية وتوجيه وتربية وتهذيب المرأة المسلمة, لم تقف عند هذا الحد, بل امتدت لتشمل إيجاد حل عملي لإحدى مشكلات المجتمع المصري وقتها, وهي بيوت الدعارة (البغاء) الذي كان مسموحاً به من الناحية الرسمية, فافتتح الإخوان "ملجأ التائبات" واستأجروا مبنى مستقلاً, تلتحق به كل من تتوب إلى الله تعالى من النساء المخطئات, وبالفعل توافد عليه كثيرات ممن تاب الله عليهن, وقد وفق الله الكثيرات منهن في حياتهن بعد ذلك, فتزوجن, وأصبحن ربات بيوت صالحات, أو احترفن مهناً كالخياطة والطهي وتربية الأولاد, وكان لهذا العمل الجليل أكبر الأثر في نفوس أبناء الإسماعيلية جميعاً, وكان الشيخ على الجداوي ـ رحمه الله ـ هو الذي يتولى شئون الملجأ والإنفاق عليه, وترتيب الدروس الدينية فيه.