سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" (13)

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا" (13)

بدر محمد بدر

[email protected]

حسن البنا شاعراً:

وعندما حان وقت مغادرة الشيخ حامد عسكرية مدينة الإسماعيلية لتسلم عمله الجديد في "شبراخيت" أقام إخوان الإسماعيلية حفلاً لوداعه، حضره حشد كبير من الإخوان والمناصرين, وتحدث فيه عدد من الإخوان, كما خطب فيهم الأستاذ حسن البنا, ويذكر الشيخ عبد الرحمن حسب الله, في مقابلته الصحفية في عام 1988, أن الأستاذ البنا قدم إليه قصيدة من الشعر من تأليفه, كي يلقيها في الحفل, وكان من عادة الأستاذ البنا ـ كما يقول الشيخ عبد الرحمن ـ أن يكتب الخطب لبعض المتحدثين في اللقاءات والمؤتمرات, ورغم تقدم سن الشيخ عبد الرحمن عند إجراء الحوار الصحفي (تعدى الثمانين), ورغم أن الحفل مر عليه قرابة الستين عاماً, إلا أنه كان يحفظ الشعر في ذاكرته القوية, وربما كانت هذه الأبيات النادرة هي الوحيدة التي تعرف "حسن البنا" بأنه كان شاعراًَ, ولم أجد ـ من بين من كتبوا عن الإمام ـ من تطرق إلى قرضه للشعر, تقول الأبيات متحدثة عن الجو العام وقتها:

أخي هل رأيت الخطب كيف ينوب          وكيف بنا هذا الزمان يهيــب

تنقلنا الأيام حتى كأنـــــــما         على رقعة الشطرنج نحن كعوب

أمنا من الأيام غضبة حــــانق           ولله فينا قدرة وغيـــــوب

وشوا ما وشوا, يا خيب الله سعيهم            وإن مساعي السوء سوف تخيب

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا             سوى أن يقولوا مخلص وأديب

دعوت لدين الله أكرم دعـــوة            تسدد سهم الحق فهو يصيــب

وكنت إذا ما تســمو يوماً لمنبر            هززت نفوساً وارتعتك قلـوب

فسر في حمى الرحمن لا تخش لومة         ومهما تكن بعد, فأنت قريــب

انتهى حفل وداع الشيخ حامد عسكرية, وازدادت حماسة "الإخوان" لتنفيذ مشروع بناء المسجد والدار, ويسر الله للمشروع أحد وجهاء الإسماعيلية وهو الشيخ محمد أبو حسين الزملوط ـ شقيق والدة المهندس عثمان أحمد عثمان مؤسس المقاولون العرب ـ الذي تبرع بمبلغ كبير في ذلك الوقت (500 جنيه) وتولى أيضاً أمانة الصندوق الذي يجمع التبرعات, مما أعطى الثقة والاطمئنان في نفوس المتبرعين, وبحث الإخوان عن قطعة أرض أخرى, فلم يجدوا إلا قطعة في آخر حي العرب, يملكها محمد أفندي سليمان, حيث أكرم الإخوان في ثمنها, لكن الشهور مرت, دون أن يرى الناس أثراً للبناء فوقها, وبدأ الكلام يكثر حول أسباب تأخر البناء, وعندما تيسر بعض المال, أعلن الإخوان عن إقامة حفل لوضع حجر الأساس يوم 5 من المحرم 1348 هـ ـ الموافق 12 من يونيو 1929م, أي بعد 14 شهراً من انطلاق هذه الدعوة المباركة, وفي الموعد المحدد أقام الإخوان سرادقاً فخماً, حضره الجميع على اختلاف مستوياتهم وطبقاتهم, وكان اجتماعاً حاشداً, وتفاءل الإخوان خيراً, وأعلنوا أنه لن يمضي شهر رمضان من ذلك العام (1348 هـ) حتى ينعم الله عليهم بافتتاح المسجد والدار.

الإنجليز ومسجد الإخوان:

وقبيل الانتهاء من بناء المسجد, تصادف أن مر البارون "دي بنوا" مدير شركة قناة السويس, فرأى البناء وأخذ بعض المعلومات عنه, ثم أرسل لحسن البنا, يدعوه لمقابلته في مكتبه, فذهب إليه, وعلم منه أن الشركة تود تقديم المساعدة المالية للمشروع, ولهذا تحتاج إلى رسم هندسي ومذكرة عنه, فشكره حسن البنا وانصرف, وبعد عدة شهور دعاه ثانية, وأخبره أن الشركة اعتمدت مبلغ (500 جنيه مصري), فشكره وأفهمه ـ كما يقول البنا في مذكراته ـ أن هذا المبلغ قليل جداً, ولم يكن منتظراً من الشركة تقديره, لأنها في الوقت الذي تبني فيه على نفقتها كنيسة نموذجية تكلفها خمسمائة ألف جنيه مصري، أي نصف مليون جنيه, تعطى المسجد خمسمائة جنيه فقط (أي واحد على ألف)"!

وانطلقت شائعات المغرضين ـ حين علموا بهذه المقابلة ـ قائلين: إن الإخوان يبنون المسجد بمال الخواجات!, وتساءل البعض: كيف تصح الصلاة في هذا المسجد الذي سيبنى بهذا المال؟!.. وكان رد "حسن البنا" على هذه الأقاويل حاسماً: إن هذا مالنا لا مال الخواجات, والقناة قناتنا, والبحر بحرنا, والأرض أرضنا, وهؤلاء غاصبون في غفلة من الزمن.. وشاء الله ـ جلت حكمته ـ أن يكون بناء المسجد قد تم, فوضع التبرع في دار الإخوان المسلمين التي بنيت فوق المسجد, فسكنت الشائعات وهدأت النفوس بعض الوقت!

وهذا هو "فقه" حسن البنا, الذي يرى أن إدارة شركة قناة السويس, هي إدارة محتلة, وبالتالي فهي تعطي من "مالنا" لا "مالها", ولا يزال العلمانيون واليساريون والشيوعيون, الذين يأكلون على كل الموائد, يروجون لمقولة: إن الإخوان تلقوا تمويلاً أجنبياً, وبالتالي فهم عملاء للإنجليز! رغم وضوح هذا الموضوع ـ موضوع التبرع ـ ووضوح "الفقه" الذي تم قبوله على أساسه, لكنه الخلط والتزييف والتزوير, الذي يمارسه البعض, ممن يقبلون بل ويطلبون التمويل من أي جهة!.. ورغم ذلك فإن كانت هناك "شبهة" في إدخال هذا المال, الذي تبرعت به إدارة شركة قناة السويس, في بناء المسجد, فإن المسجد كان قد اكتمل, ودخل التبرع في بناء دار الإخوان المسلمين.

وتم افتتاح المسجد ودار الإخوان المسلمين ليلة السابع عشر من شهر رمضان المبارك عام 1348هـ ـ الموافق 14 من فبراير 1930م, وكان افتتاحه في حفل ضخم, حضره إخوان شبراخيت (كانت شُعبتهم, التي يرأسها الشيخ حامد عسكرية, قد افتتحت في شهر المحرم من نفس العام, في حفل بهيج حضره "حسن البنا" ومعه عدد من إخوان الإسماعيلية). بالإضافة إلى أهل البلدة, وفاجأ الأستاذ البنا الجميع, بتقديم أخيه وصفيه الشيخ حامد عسكرية, ليكون إماماً لأول صلاة جماعة في مسجد "الإخوان المسلمين", كما قص الشيخ أحمد السكري, أخوه وصفيه أيضاً, شريط الافتتاح إيذاناً ببدء الاحتفال المبارك, وهنا نتأمل في سلوك هذا الداعية المخلص, الذي ذابت نفسه في دعوته فلم ير لها حظاً في مقدمة أو شهرة أو في مشهد أمام الناس!