سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" ( 12 )

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا" ( 12 )

بدر محمد بدر

[email protected]

انتهى إذن العام الدراسي, وفي الإجازة الصيفية, مارس "حسن البنا" لوناً جديداً من وسائل نشر الدعوة, وهو الكتابة في المجلات الإسلامية, مثل مجلة "الفتح" التي أدارها ورأس تحريرها الكاتب الإسلامي السيد "محب الدين الخطيب", ونشر فيها أول مقالاته في العدد رقم 100 الصادر في 25 من ذي الحجة 1346 هـ ـ 14 من يونيو 1928 م, وكان تحت عنوان: "الدعوة إلى الله", ثم تصدر مقاله الثاني الصفحة الأولى من العدد رقم 103 بعنوان: "الدعوة إلى الله.. على من تجب؟" ثم استكمل الموضوع في مقاله الثالث المنشور في العدد رقم 111, والذي صدر في 15 من ربيع الأول 1347 هـ ـ 30 أغسطس 1928م, تحت عنوان "الدعوة إلى الله: سبيل الدعوة".

وقد تناول في هذه المقالات الثلاث: منزلة الدعاة في الأمم, وحاجة الأمم في دور انتقالها إلى قادة حكماء ومرشدين أدلاء, ثم تحدث عن وجوب القيام بالدعوة وتعميمها, وأوضح أن الدعوة إلى الله فريضة واجبة معلقة بأعناقنا.. ونلمح ـ في هذا المقال ـ آثار حركته في الإسماعيلية, من تفاؤله بنهضة الشباب, التي خلقت منهم دعاة صادقين, كما تحدث "حسن البنا" في مقاله عن أهم الطبقات المكلفة بالدعوة والقادرة عليها, كما تحدث عن وسائل الدعوة الخاصة وكيفيتها, وعن مكتبه المنزل, واقترح خمسين كتاباً تصلح أن تكون نواة لها.. كما نشرت له "الفتح" أيضاً محاضرة, كان قد ألقاها في نادي "جمعية الشبان المسلمين" بعنوان "أضرار المقامرة ومشروع ساحل الفيروز" ويستنكر فيها الدعوة إلى إقامة ملهى ليلي "كازينو" عالمي للقمار على أطلال مدينة قديمة, بالقرب من "أبو صوير" بالإسماعيلية, وذلك في أعدادها أرقام: 105, 106 , 107, ثم واصل الكتابة فيها بعد ذلك على فترات متباعدة نوعاً ما.

ومع بداية العام الدراسي الجديد (28 ـ 1929)م انشغل "حسن أفندي" قليلاً بموضوع جديد, كان يمكن أن يؤدي ـ لو تحقق ـ إلى احتمال وفاة الدعوة في مهدها, أو تمزيقها وتشتيتها في أحسن الأحوال, وهو سفره إلى الأراضي الحجازية للتدريس في مدارسها, على سبيل الإعارة من وزارة المعارف المصرية.. كانت الأراضي الحجازية قد خضعت في ذلك الوقت لحكومة جديدة, وهي حكومة الملك عبد العزيز آل سعود, مؤسس المملكة العربية السعودية, وكان "حسن البنا" يرى نفسه صاحب فكرة, يرجو لها أن تجد مجالها الصالح في دولة ناشئة, هي أمل من آمال الإسلام والمسلمين, شعارها العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وتحرى سيرة السلف الصالح وهي حكومة السعودية.. لكن حكمة الله اقتضت ـ ولله الفضل والمنة ـ أن ترفض الحكومة المصرية طلب الإعارة, بالرغم من تدخل بعض أصدقاء الأستاذ البنا, بدعوى أنها لم تعترف بالحكومة السعودية الجديدة, وربما كان الغرس الجديد في مدينة الإسماعيلية, في حاجة أكثر إلى الرعاية والحماية والصقل, حتى ينمو ويكبر ويشتد عوده, ويقوى على مواجهة الصعاب والعراقيل, وما أكثرها في تلك الفترة, وربما كان سفر "حسن البنا" نهاية لمرحلة ودعوة لم تزل في خطواتها الأولى..

أول دار للإخوان:

ضاق مكتب الشيخ على الشريف بالعدد المتزايد من الإخوان المسلمين, فبحثوا عن مكان أوسع, واستأجروا شقة مكونة من ثلاث غرف, وصالة بمبلغ 120 قرشاً, في الشهر, بشارع "فاروق" وكتب عليها أول لافتة تحمل اسم "دار الإخوان المسلمين", لكن الآمال والمطوحات كانت أكبر من ذلك.. وانطلقت التساؤلات: لماذا لا يكون للإخوان دارهم ومسجدهم؟! وتحمس الجميع لهذا الهدف, وبدأوا بجمع التبرعات من أنفسهم, وكانوا قرابة العشرين في تلك الجلسة, وبعد أسبوع واحد بلغت التبرعات خمسين جنيهاً من جيوبهم (وهو رقم كبير في تلك الفترة). واعتبر "حسن البنا" هذا المبلغ فألاً حسناً في جدية هذا المشروع الضخم, وبدأ هؤلاء المتحمسون, يتحدثون مع الناس عن هذا المشروع, وبحثوا عن قطعة أرض مناسبة, حتى وجدوها ملك الشيخ على عبد الكريم, ووقعوا معه عقداً ابتدائياً بتنازله عن الأرض للمسجد والدار.. لكن العراقيل بدأت تظهر, وأشاع البعض أن أتباع هذه الجمعية الوليدة, يدعون إلى "مذهب خامس" غير المذاهب الأربعة, وأنهم "شباب طائش" وأنهم.. وذهبوا إلى الشيخ على عبد الكريم صاحب الأرض, وملأوا نفسه بالوشايات والدسائس, حتى تراجع الرجل عن الاتفاق, لكن هؤلاء الشباب المتحمسين انتهزوها فرصة, واستفادوا من تنبه الأذهان إلى هذا المشروع, الذي أذاع المغرضون فشله, فأخذوا يشرحون أهدافهم, وغايتهم من ورائه, والناس يستمعون ويتأثرون, ويتبرعون!

وفي تلك الفترة, كانت "جمعية الإخوان المسلمين" قد تشكلت, وحصلت على الوضع القانوني, وأصبح لها نظام أساسي ولائحة داخلية ومجلس إدارة وجمعية عمومية, وأوراق ومستندات واشتراكات وأنشطة وقرارات.. الخ, واختير الشاب النابه "عبد الرحمن حسب الله" السائق وأحد الستة الأوائل, كأول سكرتير لجمعية "الإخوان المسلمين".

واستمرت المعاكسات والشكاوى الكيدية في حق الجمعية الناشئة, وفي حق العاملين بها, ومنهم الشيخ حامد عسكرية, الواعظ الأزهري الذي عينته إدارة الوعظ والإرشاد بالأزهر الشريف, واعظاً للإسماعيلية, وهو أحد الأصدقاء القدامى للأستاذ "حسن البنا", وأحد أكبر المناصرين للدعوة والفكرة بكل ما يستطيع, وكان له دوره الكبير في تعريف أهل المدينة بالمشروع الجديد وبالدعوة نفسها, ومع الأسف نجحت هذه الشكاوى الكيدية في نقل الشيخ حامد إلى مركز شبراخيت التابع لمحافظة البحيرة.. ورغم أن هذا الانتقال ـ كما يصفه "حسن البنا" ـ كان فجيعة لإخوان الإسماعيلية, إلا أنه ـ ويا للمفارقة ـ كان خيراً وبركة على الدعوة, إذ تأسست أول شعبة للإخوان المسلمين خارج الإسماعيلية, بل وأقامت هذه الشعبة الوليدة, مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم, وأقامت مسجداً فخماً وعمارة ضخمة, أوقفت على المسجد والمدرسة!