الناصر محمد بن قلاوون

محمد فاروق الإمام

سلطان الدولة المملوكية البحرية

السلطنة المملوكية بأوج عزها

محمد فاروق الإمام

[email protected]

ولد الملك الناصر ناصر الدين محمد بن قلاوون بـالقاهرة في عام (684هـ/1285م، وتوفى بالقاهرة في عام 741هـ/1341م). تاسع سلاطين الدولة المملوكية البحرية.لقب بـ(أبو المعالي وأبو الفتح). جلس على تخت السلطنة ثلاث مرات، الأولى من عام (693هـ/1293م إلى عام 694هـ/1294م)، والثانية من عام (698هـ/1299م إلى عام 708هـ/1309م)، والثالثة من عام (709هـ/1309م وحتى وفاته في عام 741هـ/1341م).

وكان من أبرز سلاطين الأسرة القلاوونية والدولة المملوكية. خاض حروباً ضد الصليبيين والمغول، وحروباً إصلاحية في الداخل ضد الفساد. وشهدت مصر في فترة حكمه الثالثة نهضة حضارية وعمرانية لم تشهدها في عهد أي سلطان آخر من سلاطين الدولة المملوكية.

كان ناصر الدين محمد أصغر أبناء السلطان المنصور قلاوون، والأخ الأصغر للسلطان الأشرف خليل. ولد بقلعة الجبل بالقاهرة في يوم السبت النصف من المحرم سنة (684 هـ/24 مارس 1285م). أمه " أشلون خاتون " ابنة الأمير المغولي " سكناي بن قراجين بن جيغان "، الذي وفد إلى مصر مع أخيه " قرمشي بن قراجين " في صيف سنة (675هـ/1276م)، في أيام السلطان الظاهر بيبرس، وقد تزوجها السلطان قلاوون في عام (680 هـ/1281م)، بعد وفاة أبيها وأنجب منها آخر أبنائه ناصر الدين محمد، وكانت زوجته الوحيدة في يوم وفاته.

في عام (692هـ/1292م) احتفل السلطان خليل بـختان أخيه الأمير ناصر الدين وعدة من أولاد الأمراء، ونصب القبق بالقرب من باب النصر ووزعت الأموال على من أصاب في رميه ونثر الذهب.

نشأ الناصر محمد في قلعة الجبل، مقر السلاطين بالقاهرة، محاطاً بالأمراء والنبلاء وأرباب الدولة، فهو ابن السلطان المنصور، وأخو السلطان الأشرف، وأمه بنت أمير من أمراء المغول. تلك البيئة التي نشأ فيها الناصر كانت لها أثراً على شخصيته وطباعه بعدما كبر، حيث توسع في الإنفاق على البنايات الفخمة والمشاريع الحيوية، كما استهواه الغزو والفتح.

بعد اغتيال السلطان الأشرف خليل في كانون الأول من عام 1293م اتفق الأمراء على تنصيب أخيه الصغير ناصر الدين محمد، و على إخفاء نبأ الاغتيال لبعض الوقت إلى أن تستقر الأمور. فأرسلوا إلى الأمراء في الشام، بتدبير من الأمير سنجر الشجاعي، مكتوب على لسان الأشرف مضمونه: "إنا قد استنبنا أخانا الملك الناصر محمداً وجعلناه ولى عهدنا حتى إذا توجهنا إلى لقاء عدو يكون لنا من يخلفنا" وطُلب من أمراء الشام تحليف الناس للملك الناصر محمد، وأن يقرن اسمه باسم الأشرف في الخطبة. فجمع الأمير عز الدين أيبك الأموي، نائب السلطان في دمشق، الأمراء و أرباب الدولة وخطب باسم الملك الأشرف والملك الناصر ولي عهده. و استمر الأمر على هذا النحو إلى أن وصل "مرسوم ناصري" يأمر بالخطبة للملك الناصر وحده والترحم على أبيه المنصور وأخيه الأشرف.

أحضر الأمراء الناصر محمد، وكان في التاسعة من عمره، ونصبوه سلطاناً على البلاد ومعه الأمير زين الدين كتبغا نائباً للسلطنة والأمير سنجر الشجاعي وزيراً ومدبراً للدولة، وبيبرس الجاشنكير أستادراً. أصبح السلطان الصغير مجرد دمية في أيدي الحاكمين الفعليين للبلاد كتبغا والشجاعى. لكن كتبغا، وهو مغولي الأصل، والشجاعي كانا في واقع الأمر غريمان متنافسان، وراحت علاقتهما ببعضهما البعض تزداد سوءًً و تدهوراً مع مرور الأيام وتطور الأحداث، فالشجاعي لما رأى أنه قد صار مهيمناً على أمور الدولة في وجود طفل على تخت الملك، راودته نفسه على سلطنة نفسه، فراح يرمى الفتن بين الأمراء وكتبغا، وصار يغدق على المماليك البرجية ويغريهم بقتل الأمراء والنيل من كتبغا. فلما علم كتبغا بمخطط الشجاعي جمع بني جلدته من المغول المقيمين بالقاهرة والأكراد الشهرزورية وحاصر القلعة وقطع عنها الماء.

نشب نزاع دموي بين فريق الشجاعي و فريق كتبغا، انتهى بهزيمة الأمير الشجاعي (الذي لعب دوراً رئيسيا في تحرير الشام من الصليبيين) بعد أن أكد كتبغا لأم السلطان الناصر وهي تحدثه من فوق السور، أن الصراع الدائر هو نزاع بينه وبين الشجاعي وليس بينه وبين ابنها الملك الناصر مؤكداً لها: "والله لو بقي من أولاد أستاذنا - أي السلطان قلاوون - بنت عمياء، ما خرجنا المُلك عنها، وإنما قصدنا مسك الشجاعي الذي يرمى بيننا الفتن". فاطمأنت أم الناصر وأغلقت أبواب القلعة ليجد الشجاعي نفسه محصوراً بين أبواب القلعة المغلقة وقوات كتبغا. وبدأ مماليك الشجاعي يفرون منه وينضمون لفريق كتبغا.

طلب الشجاعي الأمان من كتبغا فلم يعطه، فذهب إلى القلعة لإيجاد حل للنزاع الدائر ولكنه قُتل عند دخوله القلعة. أو بعد خروجه من عند السلطان الصغير الذي نصحه قائلاُ : "يا عمى، أنا أعطيك نيابة حلب، اخرج روح عنهم واستريح من هذا الحال كله". بعد مقتل الشجاعي فتحت أبواب القلعة ودخل كتبغا وأمراءه وأطلقوا سراح أتباعهم الذين كان الشجاعي قد أسرهم وقت النزاع أو قبض عليهم من قبل. وأبعد كتبغا المماليك البرجية التي آزرت الشجاعي إلى ثكنات بعيدة عن القلعة وسجن بعضهم، كما سجن بعض الأمراء من عصبة الشجاعي، و كان بيبرس الجاشنكير من ضمنهم. أقيم الأمير تاج الدين بن الصاحب وزيراُ محل الشجاعي، و سُلبت أملاك الشجاعي و قُبض على نوابه في الشام.

فجأة ظهر في القاهرة حسام الدين لاجين الذي فر واختفى مع الأمير قرا سنقر بعد اشتراكهما في قتل السلطان الأشرف. ثارت المماليك البرجية، وهي مماليك الأشرف خليل التي أبعدها كتبغا من القلعة، وخرجت إلى الشوارع هائجة تطالب بمعاقبة حسام الدين لاجين على اشتراكه في قتل أستاذهم. وانتهى الأمر بالقبض على المماليك الأشرفية الغاضبة ومعاقبتهم بالسجن والإعدام.

بمقتل الشجاعي و إخماد ثورة الأشرفية توطد وقوي مركز كتبغا فأصبح الحاكم الفعلي للبلاد بلا منازع. وأقنعه لاجين بضرورة إزاحة السلطان الناصر والاستيلاء على العرش قبل أن يقوم مماليك الأشرف، أو الناصر ذاته بعد أن يكبر ، بالانتقام منه.

جمع كتبغا الأمراء في دار النيابة وقال لهم: "قد انخرق ناموس المملكة، والحرمة لا تتم بسلطنة الناصر لصغر سنه" فوافقه الأمراء و حلفوا له، فتسلطن بلقب الملك العادل كتبغا ومعه حسام الدين لاجين نائباً للسلطنة، وأبعد الناصر محمد مع أمه إلى إحدى قاعات القلعة، منهياً بذلك فترة حكمه الأولى التي لم يفعل فيها شيئاً يذكره التاريخ سوى الجلوس على تخت السلطنة وبلوغه سن العاشرة. ثم قام حسام الدين لاجين بعد أن تسلطن بإبعاده إلى الكرك.

حكم العادل كتبغا البلاد نحو سنتين ثم اضطر في عام (696هـ/1296م) للفرار إلى دمشق والتنحي بعدما حاول الأمراء، وعلى رأسهم نائب السلطنة حسام الدين لاجين، قتله في دهليزه أثناء عودته إلى مصر من الشام. ونصب لاجين سلطاناً وأبعد الناصر محمد إلى الكرك قائلاً له "لو علمت أنهم يخلوك سلطاناً والله تركت الملك لك، لكنهم لا يخلونه لك. أنا مملوكك ومملوك والدك، أحفظ لك الملك، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرع و ترتجل ( أي تصبح رجلاً ) وتتخرج وتجرب الأمور وتعود إلى ملكك " مشترطاً على الناصر بأن يوليه دمشق عند عودته واشترط الناصر عليه أن لا يقتله فتعاهدا وغادر الناصر مصر إلى الكرك. و في عام (698هـ/1299م) قتل لاجين ونائب سلطنته منكوتمر بعد حكم دام نحو سنتين وشهرين.

بعد مصرع لاجين اجتمع الأمراء، ومعهم الأمير بيبرس الجاشنكير، واتفقوا على إعادة الناصر محمد من الكرك وتنصيبه من جديد سلطاناً على البلاد ومعه الأمير طغجي نائباً للسلطنة. إلا أن الأمير كرجي ( قاتل لاجين ) عاد بعد يوم وأعترض على إحضار الناصر محمد قائلاً للأمراء: "يا أمراء أنا الذي قتلت السلطان لاجين وأخذت ثأر أستاذي ( أي الأشرف خليل )، والملك الناصر صغير ما يصلح، ولا يكون السلطان إلا هذا - وأشار لطغجي - وأنا أكون نائبه، ومن خالف فدونه". فأيدته المماليك و الأمراء الأشرفية ( البرجية )، بينما قرر الأمراء الذين يؤيدون إعادة الناصر انتظار عودة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح إلى مصر.

في غضون ذلك كان أميران قد وصلا إلى الكرك وأخبراً الملك الناصر وأمه بأنه قد تقرر إعادة الناصر إلى منصب السلطنة، وتبع ذلك وصول البريد من مصر يستحث الناصر على الحضور، ففرح الناصر وأمه وقررا المسير إلى مصر.

في (4 جمادى الأولى 698هـ/7 شباط 1299م) دخل الناصر القاهرة، وكان عمره حينذاك أربعة عشر عاماً، واحتشد الناس لاستقباله في فرحة عارمة واحتفلوا بعودته. جددت البيعة للناصر فصار سلطان البلاد للمرة الثانية ومعه ألأمير سيف الدين سلار نائباً للسلطنة، وبيبرس الجاشنكير أستادراً.

كما حدث للناصر في سلطنته الأولى تكرر في سلطنته الثانية. أصبح دمية في أيدي سلار وبيبرس الجاشنكير اللذان صارا الحاكمان الفعليان للبلاد. تزعم بيبرس الجاشنكير، وكان شركسي الأصل، المماليك البرجية. وتزعم سلار، وكان أويراتي من المغول الوافدية، المماليك الصالحية والمماليك المنصورية. أما المماليك الأشرفية فقد تزعمها الأمير برلغي. كان بيبرس الجاشنكير بمماليكه البرجية أقوى الأطراف، وراح سلار وبرلغي يتنافسان معه على المفاسد وجمع الأموال عن طريق فرض مكوس كانت تعرف باسم "الحمايات". و هي إتاوة أو رشوة كان الأمراء يفرضونها على الأفراد والتجار في مقابل حمايتهم و تقديم العون لهم في منازعاتهم.

في سنة (699هـ/1299م) وردت إلى القاهرة أنباء عن زحف مغولي على الشام يقوده محمود غازان إلخان مغول فارس ( الإلخانات ) فتوجه الناصر إليها. وفي ( 8 ربيع الأول 699هـ/4 كانون الأول 1299م) اصطدم جيش الناصر بجيش غازان المتحالف مع أرمن كيليكيا Cilicia (مملكة أرمينية الصغرى) عند حمص في معركة عرفت باسم معركة وادي الخزندار أو معركة حمص الثالثة. انهزم جنود الناصر وفروا مما أحزنه وأبكاه. و دخل المغول دمشق و سيطروا على الشام، و خطب لغازان على منبر دمشق ثم غادر غازان دمشق بعد أن أقام الأمير قبجق ]. نائباً عليها تحت حماية نائبه قطلو شاه، وعاد جنود الناصر إلى مصر ومعهم عوام من الشام في أسوأ حال. و كان من ضمن الفارين إلى مصر السلطان المخلوع العادل كتبغا الذي عينه السلطان لاجين نائبا على قلعة صرخد. دخل السلطان الناصر قلعة الجبل في (12 ربيع الأول/8 كانون الأول) و قد أصابه حزن بالغ وتألم ألماً شديداً لهذه الهزيمة الشنعاء ولكنه بدأ ينظم الجيش ويجهز لأخذ الثأر من المغول. وخرج قبجق من دمشق متوجهاً إلى مصر، فاستولى الأمير أرجواش على دمشق وأعاد الخطبة باسم الملك الناصر بعد انقطاعها مائة يوم. في أثناء فترة إعداد الجيش وصل إلى القاهرة وفد من غازان بطلب الصلح ووافق الناصر. إلا أن طلب غازان للصلح كان، كما يبدو، مجرد مناورة منه لكسب الوقت للتعرف على استعدادات وتحركات الملك الناصر.

بعد أن حرر الأشرف خليل ساحل الشام في عام 1291م فر بعض فرسان المعبد (الداوية) وبعض الصليبيين إلى جزيرة أرواد القريبة من طرطوس، فتحولت الجزيرة إلى قاعدة صليبية لشن الهجمات على سفن المسلمين وبؤرة تربص بطرطوس و ساحل الشام. في أواخر عام 1300م طلب غازان المغولي من أرمن قليقية ( مملكة أرمينية الصغرى ) وصليبيي جزيرة قبرص القيام بعملية مشتركة ضد المسلمين، فقام الصليبيون في قبرص بشحن مقاتلين من فرسان المعبد والاسبتاريه، وقوات يقودها " امالريك أوف لوزيان " ابن ملك قبرص هيو الثالث، إلى أرواد.

وصلت الأنباء إلى القاهرة فقرر الناصر بناء شواني (سفن) لغزو الجزيرة. وفي أيلول عام 1302م أبحر الأمير كهرداش من مصر إلى الشام وحاصر أرواد وفتك بالحامية الصليبية وأسر عدداً من فرسان المعبد وفر غيرهم إلى قبرص. في يوم 26 أيلول 1302م استسلمت أرواد التي كانت آخر جيب للصليبيين في الشام ودقت بشائر النصر في القاهرة. وكان يوم دق البشائر هو نفس اليوم الذي عاد فيه الأمير بكتاش منتصراً على أرمن قليقية. فالأمير بكتاش كان قد خرج، في عدة من الأمراء من بينهم كتبغا، إلى مملكة قليقية الأرمنية بسبب تحالفها مع غازان. انتشرت قوات بكتاش في أرجاء كليكليا وحرقت المحاصيل وأسرت أعداداً من الأرمن وحاصرت عاصمتهم سيس وعاد إلى القاهرة غانماً بينما كانت بشائر لتحرير أرواد تدق.

كان طرد الصليبيين من أرواد وتوجيه ضربة لمملكة قليقية انتصاراً هاماً للمسلمين على فكرة التحالف الصليبي- الأرميني - المغولي التي كان الصليبيون وأرمن قليقية يسعون بكل كد وجهد لتحقيقه. في تلك الفترة ذكر هيتوم الأرميني في كتابه مخاطباً بابا الكاثوليك عن أهمية التعاون مع المغول قائلاً: "هذا هو الوقت المناسب لاستعادة الأرض المقدسة بمساعدة المغول ومن الممكن احتلال مصر بدون مصاعب أو مخاطر". ويشرح في فقرة أخرى: "يجب طلب شيئين من ملك المغول: أولاً أن لا يسمح بمرور أي شيء عبر مناطقه إلى أراضي الأعداء، و(ثانياً) أن يرسل رجاله ورسله لإشعال حرب في أراضى ملاطية ويدمر ويخرب منطقة حلب. و عندها نقوم نحن الحجاج وقوات قبرص وأرمينيا بغزو أراضي الأعداء بحراً و براً. وعلى قواتنا المسيحية أن تحصن جزيرة أرواد إذ أنها تحتل موقعاً رائعاً لضرب سفن الأعداء وإحداث أضراراً جسيمة بهم ".

شهدت البلاد في فترة حكم الناصر محمد الثانية اضطرابات وقلاقل كان من أخطرها "وقعة أهل الذمة"، ومشاغبات بعض العربان في البحيرة وصعيد مصر.

بدأت "وقعة أهل الذمة" في شهر (رجب 700هـ/آذار1301م) عندما توقف وزير ملك المغرب بالقاهرة وهو في طريقه إلى مكة للحج. هال الوزير المغربي رؤية أهل الذمة من الأقباط واليهود يعيشون في ترف ويزينون خيولهم بالحلي الفاخرة في القاهرة، فبكى و اشتكى للأميرين سلار وبيبرس الجاشنكير وأثر على نفوس الأمراء ببكائه وطول كلامه. فاجتمع القضاة ببطرك الأقباط وأكابر القساوسة ورؤساء اليهود، وتقرر ألا يستخدم أحد منهم بديوان السلطان ولا بدواوين الأمراء، وألا يركب المسيحيون واليهود والسامرة الخيول والبغال، وأن يلتزموا بعدم ارتداء العمم البيض في مصر والشام. ثم تطور الأمر حين امتدت أيدي العامة إلى كنائس الأقباط بفتاوى تحريضية لبعض الشيوخ. وأغلقت الكنائس نحو عام في مصر إلى أن توسط ملك نيقيا البيزنطي وبعض الملوك ففتحت الكنائس. وقد لعبت الحروب الصليبية دوراً أساسياً في إشعال نار الفتنة بين المسلمين والمسيحيين المحليين في مصر والشام.

في ذات الوقت وقع في البحيرة صدام دموي بين طائفتين عربيتين هما طائفتا "جابر" و"برديس"، فخرج إليهما الأمير بيبرس الدوادار في عشرين أميراً وطاردهما واستدعى شيوخهما ووفق بينهما. أما في الصعيد، فقد انتهز بعض العربان فرصة انشغال الدولة في حربها مع غازان فأمتنعوا عن دفع الخراج فسير إليهم الوزير سنقر الأعسر الذي قتل عدد من المتمردين وأخذ الإبل والأسلحة وكل خيول الصعيد. إلا أن ذلك لم يؤد إلى الاستقرار بالصعيد حيث استخف العربان بالولاة، وامتنعوا مرة أخرى عن دفع الخراج، وقاموا بفرض إتاوات على التجار في أسيوط ومنفلوط، وتسموا بأسماء الأمراء وأقاموا عليهم كبيرين أحدهما سموه بيبرس والآخر سلار، وأطلقوا سراح المساجين. فاستفتى الأمراء الفقهاء والشيوخ في جواز قتالهم، فأفتوهم بجواز ذلك. فقام الأمراء بمنع السفر إلى الصعيد، وأشاعوا أنهم مسافرون إلى الشام ثم حاصروا الصعيد من عدة جهات وأنقضوا على المتمردين وقضوا عليهم.

في (رجب عام 702هـ /شباط 1303م) قدم البريد إلى القاهرة من حلب بأن غازان على وشك التحرك إلى الشام، فخرج إلى دمشق الأمير بيبرس الجاشنكير على رأس ثلاثة آلاف من الأجناد. أرسل غازان قائده ونائبه قطلو شاه إلى الشام بجيش قوامه 80 ألف مقاتل. ولما عرف قطلوشاه أن الناصر لم يخرج من مصر بعد، وأن ليس بالشام غير العسكر الشامي، توجه تواٌ إلى حماة.

في يوم السبت الموافق 2 رمضان 702هـ/ 20 نيسان 1303م ،وصل الناصر محمد إلى عقبة شجورا وبينما الأمراء يستقبلونه ويسلمون عليه وصل خبر بأن جيش قطلوشاه قد أقدم. فارتدى الجنود السلاح، وأتفق الأمراء على محاربته بشقحب تحت جبل غباغب. كان جيش الناصر يضم نحو 200 ألف مقاتل. اصطدم الجيشان وظن البعض أن جيش المسلمين قد هُزم بعد أن تجاوز بعض المغول خط ميمنة المسلمين، فانسحب قطلو شاه إلى جبل قريب وصعد عليه وفي ظنه أنه قد انتصر وأن قواته تطارد المسلمين، ولكنه أبصر ميسرة السلطان الناصر فتحير، فلما سأل أحد الأسرى المسلمين وعلم منه أنه من أمراء مصر، أدرك أن السلطان الناصر موجود بجيش مصر في ساحة القتال. في اليوم الثاني نزل قطلو شاه بمقاتليه فتصدت له المماليك السلطانية وأجبرته على التراجع إلى الجبل. وعلم المسلمون أن قوات قطلو شاه تعاني من العطش، فلما نزل المغول في فجر اليوم الثالث وساروا نحو النهر لم يتعرض لهم المسلمون، ثم حصدوهم عندما بلغوا النهر وقاموا بمطاردة الفارين منهم. لم يعبر الفرات مع قطلو شاه من جنوده إلا عدد قليل. أرسلت بشائر النصر إلى مصر ففرح الناس.

في 23 شوال/12 حزيران عاد الناصر إلى القاهرة عاصمة ملكه التي تزينت له من باب النصر ومعه الأسرى ورؤوس المغول، ثم زار قبر أبيه الملك المنصور، و صعد إلى قلعة الجبل على الشقق الحرير، وأنعم على الأمراء، وأمر بإحضار سائر مغاني العرب من كل أنحاء مصر، وأقيمت احتفالات كبرى في البلاد.

في سنة 703هـ/1304م سير الناصر جنوده من القاهرة إلى كليكيا الأرمنية تحت قيادة الأمير بدر الدين بكتاش وانضمت إليهم قوات في الشام، فهاجموا الأرمن وحرقوا مزارعهم و أسروا منهم أعداداً، ثم حاصروا قلعة تل حمدون التي تحصن فيها الأرمن وسلمت إليهم بالأمان. في نفس السنة نقل السلطان الناصر أمه من التربة المجاورة للمشهد النفيسي إلى التربة الناصرية بمدرسته التي أكمل بناءها وأضاف مئذنتها في سنة 1303م. وأنجبت له زوجته أردكين الأشرفية ولداً سماه علياً، ولقبه بالملك المنصور. ووفد إلى القاهرة نحو مائتي فارس مغولي بنسائهم وأولادهم، وكان من ضمنهم عدة من أقارب غازان وأم الأمير سلار. فأكرمهم الناصر وأنعم عليهم ببيوت للإقامة وإقطاعات. ثم قدم رسل المغول بكتاب وهدية من محمد خدابنده (أولجاتو) الذي جلس على عرش المغول بعد وفاة أخيه محمود غازان. وخاطب الناصر بالأخوة وطلب الصلح وإخماد الفتن وقال في آخر كلامه: "عفا ا لله عما سلف ومن عاد فينتقم ا لله منه". فوافق الناصر وأكرم رسله وأرسل إليه هدية.

في سنة 780هـ/1309م أحس الناصر أنه غير قادر على مواجهة سيطرة سلار وبيبرس الجاشنكير عليه وعلى أمور الدولة، فاخبرهما بأنه ذاهب إلى مكة للحج. ولكنه بدلاً من الذهاب إلى مكة ذهب إلى الكرك وبقي هناك. لم يقصد الناصر برحيله إلى الكرك التنازل عن العرش، لكنه كان يدرك انه لن يتمكن من الحكم كما يحلو له مادام بيبرس و سلار يسيطران على حياته وعلى شؤون الدولة. كما كان يدرك أنهما آجلاً أو عاجلاً سيسعيان للتخلص منه إما بالخلع أو بالقتل. فكانت خطته أن يبتعد عن مصر وعن عيونهما لبعض الوقت فيتمكن بذلك من الاتصال، بحرية وبدون مراقبة، بأمراء الشام ومؤيديه من أمراء مصر حتى يتمكن بمساعدتهم من التخلص منهما وفرض سيطرته على نفسه وعلى مملكته. كانت خطة الناصر صحيحة وتمكن من تنفيذها بنجاح فيما بعد.

عندما رفض الناصر محمد العودة إلى مصر قائلاً أن الكرك: "من بعض قلاعي وملكي، وقد عولت على الإقامة بها"، عرض الأمراء السلطنة على الأمير سلار فقال لهم : "والله يا أمراء أنا ما أصلح للملك، و لا يصلح له إلا أخي هذا"، وأشار إلى بيببرس الجاشنكير فهتف البرجية: "صدق الأمير". فوافق الأمراء ونصب بيبرس سلطاناً على البلاد بلقب الملك المظفر ومعه الأمير سلار نائباً للسلطنة  وأقام "بيبرس الجاشنكير" الناصر محمد على نيابة الكرك و كتب إليه قائلاً : "أنى أجبت سؤالك فيما اخترته، وقد حكم الأمراء علي فلم أتمكن من مخالفتهم, وأنا نائبك". وكانت مدة الملك الناصر في السلطنة الثانية، عشر سنين وأياماً.