سطور من حياة الإمام المجدد "حسن البنا" 11

سطور من حياة الإمام المجدد

"حسن البنا" (11)

بدر محمد بدر

[email protected]

متى تأسست الجماعة؟

ولكن متى كانت هذه الليلة المباركة, التي تشكلت فيها اللبنة الأولى للإخوان المسلمين؟.. يقول الإمام "البنا" في مذكراته: إنها في شهر ذي القعدة 1347 هـ ـ مارس 1928م, ويضيف إليها عبارة: "فيما أذكر", دليل على أن التاريخ ليس دقيقاً, فإذا كان التاريخ الهجري دقيقاً من ناحية الشهر وليس السنة, فإن التاريخ الميلادي يجب أن يكون أبريل أو مايو 1928 هـ, لأن العشر الأوائل من ذي القعدة, تتوافق مع العشر الأواخر من أبريل, ومنتصف ذي القعدة يتوافق مع بداية شهر مايو, أما إذا اعتمدنا صحة التاريخ الميلادي, فإن العشر الأواخر من مارس تتوافق مع العشر الأوائل من شوال 1346هـ وهذا معناه أن هذه الجلسة كانت في الأسبوع التالي لعيد الفطر المبارك من ذلك العام، ولا أظن ذلك صحيحا، والذي أميل إليه أن هذه الليلة كانت في العشر الأوائل من شهر ذي القعدة 1346  ـ وليس عام 1347هـ, الموافق للعشر الأواخر من شهر أبريل 1928هـ.

يقول الشيخ عبد الرحمن حسب الله ـ رحمه الله ـ وهو آخر من توفى من هؤلاء الرجال الستة الذين حضروا تلك الليلة المباركة (توفى في أوائل التسعينيات من القرن الماضي), في لقاء صحفي لي معه في عام 1988, نشرته مجلة المجتمع الكويتية بمناسبة مرور 60 عاماً على تأسيس الإخوان.. يقول عن هذه الليلة: "كنت أحد ستة من الشباب الذين يحضرون دروس الأستاذ "حسن البنا" وأخذت من نفوسنا كل مأخذ, مما جعلنا نقبل عليه بعد انتهاء أحد الدروس, مصافحين ومعجبين ومستفسرين منه.. من هو؟ وأين يعمل؟ وأين يقطن؟ وهل يمكن أن يسمح لنا بزيارة خاصة, نتحدث معه فيها, في شأن هذا البلد المحروم من معرفة الإسلام؟.. فتهلل وجهه سروراً وبشراً, واصطحبنا معه إلى حيث يقطن, وهناك كانت جلسة ربانية, وأسئلة وأجوبة شرح فيها مهمة المسلم في الحياة, وماهو المطلوب منه أمام الله (سبحانه وتعالى), وما الواجب عليه أن يعلمه, فاقتنعنا كل الاقتناع, وتهيأت نفوسنا واستعدت لمواصلة اللقاء والاستزادة من المعرفة بواقع الإسلام والمسلمين, وكان "حسن البنا" يتحدث بتأثر عجيب, وكانت دموعه تسيل على لحيته.. واستمرت هذه الجلسة المباركة حتى قرب منتصف الليل..

كانت هذه بيعة مع الله, على العمل من أجل نصرة الإسلام, والالتزام بتعاليمه, وأن يعيشوا إخواناً متحابين, يعملون للإسلام ويجاهدون في سبيله, وتساءل أحدهم: بم نسمى أنفسنا؟.. وهل نكون جمعية أو نادياً أو طريقة, أو نقابة حتى نأخذ الشكل الرسمي؟... فرد حسن البنا قائلاً: لا هذا ولا ذاك.. دعونا من الشكليات ومن الرسميات, وليكن أول اجتماعنا وأساسه: الفكرة والمعنويات (أي الجوانب المعنوية الإيمانية والجوانب المادية العملية).. نحن إخوة في خدمة الإسلام, فنحن إذن "الإخوان المسلمون".. وهكذا ولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الشباب الستة, حول هذه الفكرة وعلى هذه الصورة, وهكذا ظهر اسم "الإخوان المسلمون" بهذه البساطة, وبهذا الصدق والوضوح.

كان عدة اللبنة الأولى في صرح "الإخوان المسلمين": الشباب الواعد, وأساسها: الإخلاص العميق, ووسيلتها: التضحية والعطاء, وغايتها: إرضاء الله تبارك وتعالى والجهاد في سبيله..

وانتهى الاجتماع ـ التاريخي ـ بالاتفاق على اللقاء ثانية, وتشاوروا في مكانه وماذا يعملون فيه, واتفقوا على أن يستأجروا حجرة متواضعة في شارع فاروق في مكتب الشيخ على الشريف (وكان مكتباً لتحفيظ القرآن الكريم) بمبلغ 60 قرشاً شهرياً يجتمعون فيه, ويضعون أدواتهم وأغراضهم, على أن ينتفعوا من أدوات مكتب التحفيظ بعد انصراف التلاميذ, ابتداءً من العصر إلى الليل, وأطلقوا على هذا المكان اسم "مدرسة التهذيب للإخوان المسلمين" واتفقوا على دفع اشتراك شهري قدره خمسة قروش ـ لمن أراد أن يدفع ـ حتى يتسنى لهم دفع الإيجار وبعض النفقات المطلوبة, فكانت هذه القروش القليلة, تسد حاجة "الجماعة" في ذلك الوقت ..

وكان للمنتسب إلى هذه المدرسة, منهج دراسي يهدف إلى تصحيح تلاوة القرآن الكريم, وفق أحكام التجويد, ثم حفظ آيات وسور, وشرح هذه الآيات والسور وتفسيرها تفسيراً مناسباً لمستوى المنتسبين, ثم حفظ بعض الأحاديث النبوية الشريفة وشرحها كذلك, وتصحيح العقائد والعبادات, والتعرف على أسرار التشريع وآداب الإسلام العامة ودراسة التاريخ الإسلامي وسيرة السلف الصالح والسيرة النبوية بصورة مبسطة, تهدف إلى إبراز النواحي العملية والروحية, ثم تدريب القادرين على الخطابة والدعوة تدريباً عملياً, بحفظ ما يمكن حفظه من الشعر والنثر ومادة الدعوة والوعظ, وبتكليفهم بالتدريس والمحاضرة في المحيط الإخواني أولاً, ثم المحيط العام بعد ذلك.

أول عمل مؤسسي:

كان هذا أول عمل "مؤسسي" في تاريخ الإخوان, ولم يكن هذا المنهج الثقافي والعملي الأول, الذي تربت عليه المجموعات الأولى من الإخوان المسلمين هو كل شئ, فقد كانت معاني التربية العملية والسلوكية, التي تتفاعل في نفوسهم بالمخالطة والتصرفات الواقعية والود والمحبة والأخوة فيما بينهم, من أقوى العوامل المؤثرة في تكوين هذه الجماعة الجديدة, ولعل ما ذكره الإمام الشهيد في "مذكرات الدعوة والداعية" عن نماذج عملية لبعض التصرفات والسلوكيات والقيم الرفيعة والمعاني النبيلة, التي كان يتحلى بها هؤلاء الكرام الأوائل, ما يؤكد عمق الأثر, الذي تركته هذه الدعوة الوليدة في نفوس أصحابها, وشدة تعلقهم بأهدافها وتفانيهم في الالتزام بها, وحاجتهم الماسة إلى الداعية الناجح, الذي يوظف طاقاتهم الإيمانية والسلوكية, توظيفاً صحيحاً, ويكشف عن مكنون مشاعرهم وعواطفهم الإنسانية.

وفي نهاية العام الهجري 1346 هـ, الذي يوافق نهاية العام الدراسي الميلادي (27 ـ 1928 م), وبعد قرابة الشهرين فقط من تلك الجلسة الإيمانية المباركة في بيت "حسن البنا" كان عدد المنتسبين إلى "جمعية الإخوان المسلمين" في مدينة "الإسماعيلية" سبعين فرداً, أو أكثر قليلاً, وهذا عدد كبير في هذه المدة القصيرة, ولكنه الإخلاص والعطاء يصنعان الأعاجيب.