الشيخ عبد العزيز عيون السود

الشيخ عبد العزيز عيون السود

عامر حسين زردة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العلمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :

فإنني آثرت أن أكتب مشاهداتي عن فضيلة الشيخ المقرئ عبد العزيز عيون السود رحمه الله تعالى وأحسن إليه كوني كنت أحد تلاميذه ولد رحمه الله في حمص عام 1917 وتوفي عام 1979

لن أدخل في دوامة إبداء الدليل على ماقيل في حقه ومن سمع هذه القصة ومن لم يسمع بل سأتجاوز ذلك لأنقل بأمانة ماحدث معي خلال ثلاث سنوات ونيف من المرافقة المستمرة من قبل صلاة الفجر يوميا وحتى مابعيد صلاة العشاء فقد كان رحمه الله ينهي يومه بعد أدائه صلاة العشاء مباشرة وذلك استعدادا لصلاة التهجد

أتيت إلى مسجد الشيخ رحمه الله وسرعان ماأحسست أنه منزلي فقد استقبلني ابنه مبشر حفظه الله تعالى ونحن من جيل واحد فقرأت عليه سورة (الفاتحة والبقرة) ربعا ربعا وكان الشيخ عدنان السقا من الذين يقرؤن عند ابن الشيخ مبشرآنذاك ، وكنا منذ الأيام الأولى قد أحببنا لقاء بعضنا البعض وبعد فترة قصيرة سهرنا في المسجد وأطلنا السهر نتذاكر ويروي لنا قصصا عن الشيخ رحمه الله وكان الجو صيفيا رائعا وقررنا أن ننام في المسجد فسرعان ماأحضر لنا الأشياء اللازمة ونمنا وكانت بداية التحول في حياتي ولم أزل كذلك حتى سافرت من حمص

كان رحمه الله كعادته يراقب كل قارئ مراقبة الشيخ الفطن اللماح وذات يوم مشمس نهاره مقمر ليله طلب مني رحمه الله أن أجهز نفسي للقراءة عنده وفعلا في اليوم التالي جلست فيمن جلس عند الشيخ وبدأت بالقراءة وعلامات الرضى ظاهرة على وجهه وقد اعتدت على خدمته من الأيام الأولى لحضوري للمسجد أحرك له يده وأعتن بها وكانت شبه مشلولة وأدلكها له وقد عاملني كأبنائه وهذا ماقاله لأخي الذي جاء يشتكي للشيخ بعدي عن البيت فقال له دعه لنا رضي الله عنك وهنا لابدلي أن أذكر أنه عندما كان يأتي صباحا إلى المسجد كان يضع علي عباءته ليوقظني فأصحو فورا وأقوم للوضوء مقبلا يده رحمه الله تعالى ومجهزا نفسي للتهجد ولخدمته والأذان والإقامة والصلاة والورد الصباحي وحلقة قراءة القرآن التي غالبا ماكانت تبقى ساعات عديدة

لقد كان رحمه الله وأسكنه الفردوس أبا وشيخا ومعلما ورفيقا بكل تلاميذه ومحبا لهم وقد اختار أصهاره من تلاميذه وكان كريما يحتفل بالضيف أيما احتفال وإذا أشكل عليك معنى الوقار فانظر إلى وجهه رحمه الله وقور متزن هادئ الطباع يمشي مشية المسلم العزيز لايحني هامته إلا لله له من المواقف الجريئة مع شخصيات لها وزنها مالا يعد ولا يحصى .

ومن عزة نفسه أنه اعتاد كبار النصارى أن يزوروه باستمرار وخاصة في الأعياد فكان من عزة نفسه وحنكته أن يأمر ابنه باستقبالهم وبعد أن يجلسوا ويرتاحوا يدخل عليهم فيقوموا له تقديرا واحتراما

ولم يكن رحمه الله محسوبا على جماعة أو فئة فهو محب للجميع وقد قرأ عنده الجميع وماكان يسمح لأحد أن يتكلم على أحد مقاطعا المتكلم (ادع لنا ولهم بالتوفيق والهداية) أما لماذا كان الشيخ رحمه الله مقصدا للراغبين في تعلم التجويد والقراءات فإليكم الإجابة .

لقد اهتم رحمه الله منذ نشأته بالعلوم جميعها وهو من بيئة متدينة ملتزمة أصيلة في النسب معروفة في مدينة حمص وخارجها فأبوه الشيخ محمد علي وجده الشيخ عبد الغني وعمه الشيخ عبد غفار وكلهم من أعلام مدينة حمص والتي تفخر بهم

لقد درس الفقه والحديث وصار أمينا للفتوى ومرجعا للأحناف وقرأ القرآن الكريم على مشايخ مشهود لهم فقد أجازه الشيخ محمد سليم الحلواني شيخ قراء بلاد الشام وقرأ على الشيخ علي محمد الضباع شيخ قراء مصر وهذان الشيخان من أعلى المشايخ في عصرهم سندا وإتقاناً

وكذلك قرأ على الشيخ أحمد التيجي من الحجاز والشيخ عبد القادر العربيلي من الشام وقد أجيز من الشيخ نعيم النعيمي من الجزائر بالحديث وعلومه وأجازه الشيخ بالقراءات

وهذا الجهد الكبير الذي بذله رحمه الله في القراءات كان له الأثر الأكبر في خبرته التي عز نظيرها في مجال التجويد ومخارج الأحرف والنطق والقراءات وحتى الشاذة منها

وكان له من المواقف مايؤيد علمه فله موقف من( الجمهور ) الذي يستمع إلى المقرئين عموما كعبد الباسط عبد الصمد رحمه الله بموضوع إطرابهم فهو يقرأعن الجحيم والمستمعين يقولون (الله يزيدك ياشيخ )

وكذلك عن تعدد أوجه القراءات أمام العامة فهو يوقعهم في التشابه ولاتصح هذه القراءة إلا في حالةالتعليم وهناك أحكام أجبرت الشيخ رحمه الله على السفر ومنها أنه سافر إلى تركيا لمتابعة إحدى المخطوطات التي تبين حكم الإقلاب والإخفاء الشفوي فتحقق منها وسافر إلى مصر والتقى كبار المقرئين هناك وأقنعهم بالجديد من الأحكام وهنا لابد لي أن أذكر أن الشيخ محمد صديق المنشاوي والشيخ خليل الحصري أعادا تسجيل نسخة من القرآن الكريم بحكم الإخفاء الشفوي والإقلاب الجديدين والذي سأتكلم عنهما لاحقا وله موقف من وضع المصحف الشريف على فخذ القارئ أو قلب صفحة من القرآن بعدما يبل القارئ إصبعه بريقه وكذلك وضع المصحف الشريف ولو بمكتبة تحت المنبركل هذه الأمور كان ينبه رحمه الله عليها فهو لايرضى إلا أن يكون المصحف في أكرم موضع وأحسنه

لقد تميز الشيخ رحمه الله عن القراء بأشياء كثيرة منها

1 الاخفاء الشفوي : وهو إذا التقت الميم الساكنة عند الباء

2 الاقلاب : إذا جاء بعد النون الساكنة أو التنوين باء مثال (منْ بَعد) وعُمُر ٍبعد

كانت تقرأ الحالة الأولى (مالكمْ به) بإغلاق الشفتين فأصبحت بانفراج الشفتين وبهما يصبح الحكم أخفاء وفي اطباق الشفتين يكون الإظهار

وكانت كذلك تقرأ الحالة الثانية وهي الإقلاب (من ْبَعد ) ممبعد كالإدغام ومظهرة وقد طلبت من الشيخ رحمه الله وقبيل وفاته أن يملي علي المختصر في هذين الحكمين فقال لي اكتب وأنا هنا أنقل بتصرف وهذا ماأذكره

لكل حرف مخرج واحد إلا الميم والنون فلهما مخرجان مخرج لذاتهما ومخرج لغنتهما أما مخرج الغنة فمعروف من الخيشوم وأما مخرج ذات الميم فهو اطباق الشفتين ومخرج ذات النون هو التقاء طرف اللسان مع سقف الحلق ففي حالة الإقلاب نخفي ذات النون ونبقي غنتها فقط ولا نشدد عليها لتصبح كالإدغام ومظهرة ، وفي حالة الإخفاء الشفوي الميم الساكنة وبعدها باء نخفي ذات الميم ونبقي غنتها مع تباعد الشفتين عن بعضهما

وأخفين الميم إن تسكن بغنة

على المختار من أهل الأدا

واقلبهما من بعد باء ميما

وأخف بالغنة تلك الميما

3 الأحرف البينية : المجموعة في قولك (لن عمر) فقد كان رحمه الله يهتم بها وخاصة الميم والنون لتعدد مخارجهما كما ذكرت ففي قول الحمد لله رب العالمين نلاحظ أن ال القمرية الميم الساكنة في الحمد والراء في رب والأل القمرية في العالمين والنون الساكنة في العالمين وهكذا

4 الضاد من أصعب الأحرف في النطق وقد سميت العربية لغة الضاد والضاد من أحرف الإستطالة والاستعلاء وو وقد ميز هذا الحرف ووجب إظهاره عند اللام مثل فضْله ويراعى عدم تفخيم اللام وعند المتقارب من الأحرف مثل أفضْتم ويراعى أن تبدأ ضادا وتنتهي تاء ويحذر من أن تنطق الضاد طاءً إذا لم تعط حقها من الإستطالة ومن الطبيعي أن يشدد في حال وجود الشدة مثل الضالين مد مثقل كلمي ويراعى عدم الضم في ألف المد

الشين : وهي حرف التفشي الوحيد مثل والشَّمس وضحاها في حال التشديد وفي حال السكون مثل وكلوا واشْربوا ولا تسرفوا

5 الألف التي بعد أحرف الإستعلاء المجموعة في قولك (خص ضغط قظ ) مثل خالدين فيها

والصَّالحين والضالين والغارمين والطامة والظالمين يراعى عدم إمالتها إلى واو أو أحيانا إلى ياء

6 الراء : سواء المفخمة وهي الأكثر استخداما مثال الرحمن الرحيم أو المرققة مثال وكبير ونظير ونكير

7 الترتيل : أهم مايهتم به الشيخ رحمه الله تعالى هو ترتيل القرآن الكريم لقوله تعالى (ورتل القرآن ترتيلا ) صدق الله العظيم ومعلوم أن هناك ثلاثة أنواع من القراءة الترتيل والتدوير والحدر أما الترتيل فهي كما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ورتل القرآن ترتيلا وأما الحدر فهي القراءة السريعة ويقرأ بها اللذين يراجعون القرآن وأما التدوير فهي بين الترتيل والحدر وسطا ومن المفيد أن أذكر أنه رحمه الله تعالى كان يعتمد قراءة الترتيل وعلى توسط المتصل توسط المنفصل وهي إحدى أحد أوجه قراءة حفص الواحد والعشرين

8 القلقلة : وخاصة الكبرى التي تقع أحرفها آخر الكلام والمجموعة في قولك (قطب جد)

مهتم بها ومحذر من الإتيان بهمزة مع القلقلة أو فتح الحرف المقلقل أو ضمه أو كسره علما بأنه لايأت إلا ساكنا في آخر الكلام مثال بلاد الحق الباب فجاج محيط

9 طريقته الرائعة في متابعة القارئ فهو منتبه لكل شاردة وواردة كما يقال وعند حدوث الخطأ يدق بيده على طاولة صغيرة أمامه حتى يدع فرصة للقارئ كي يصحح ويعيدها ثانية وثالثة وبعدها يصحح للقارئ أما الاستفادة العظمى فهي من كثرة القراء في جلسته رحمه الله فالقارئ يستتفيد كلما كثر القراء ولاشك

10 أحرف الهمس : لهاعناية خاصة عند الشيخ رحمه الله لم لا فهي التي يسمعها القريب دون البعيد وخاصة حرفي التاء والكاف الساكنين مثل يكْتب واتل

وفي الختام أحب أن أذكر بأنني في يوم مماته رحمه الله كنت نائما في المسجد عندما أيقظني ابنه مبشر قبل الفجر ليبلغني بأن الشيخ رحمه الله قد توفي وأذكر أنه لم تكد تطلع الشمس حتى حضر أغلب مشايخ دمشق ومنهم رمضان البوطي ومحمد عوض إضافة إلى علماء حمص ومشايخها وقد صلي عليه في الجامع الكبير بحمص وقد غص الشارع الواصل مابين مسجده في حي الملعب البلدي وبين المسجد الكبير وسط مدينة حمص بالمشيعين وقد دفن الشيخ رحمه الله في الجزء الخلفي من مسجده والتي لم تكن تابعة للمسجد كان رحمه الله قد أوصى بذلك ومن الطريف أن أذكر أنني كنت أنام في جزء من هذه القطعة والتي طولها خمسة أمتار وعرضها متران قبل مماته رحمه الله وعندما سألني ابنه مبشر أين ستنام الليلة قلت له في مكاني فالشيخ رحمه الله لم يأخذ مكاني وبعد أسبوع عاد ابنه لينام قربي في المسجد قرب قبره رحمه الله تعالى لقد أحب القرآن وقراءته والتفكر فيه والعمل به وقد كان يختم كل أسبوع على أبعد تقدير لقد صبر وعانى في أمراضه المختلفة من الضغط والشلل النصفي والسكري وغيره ولم يكن إلا صابرا محتسبا أقسم أن عزيمته كانت أقوى من عزيمة الشباب ومابخل على أحد قط وأعطى كل ماعنده بصبر وعزم بقي أن أشيرإلى أن للشيخ خمسة من الأبناء هم عبدالرحمن وعبدالرحيم ومبشر ومرتضى ومفضل وهم على خلق ودين وأدب وكنت أنا العبد الفقير والشيخ أبو الحسن مندو أكثر طلابه حضوراً رحمه الله تعالى .

هوالشيخ الوقور فهل عساني

بما أسلفت قد أديت حقه

هذا هو الشيخ التقي النقي العابد العامل والمحب للجميع دون تسميات تنسبه لجهة أو أخرى هكذا أحسبه والله حسيبه ولانزكي على الله أحدا

أدعوالله أن يكون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ويجزيه عنا خير الجزاء .

تغمد الله فقيدنا برحمته وأسكنه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا

آمين يارب العالمين