ذكرى الدكتور محمد فتحي عثمان

ذكرى الدكتور محمد فتحي عثمان

د. مولود عويمر *

هذا الأسبوع تمر ثلاثة أشهر على وفاة المفكر المصري الكبير الدكتور محمد فتحي عثمان. فقد توفيّ في 11 سبتمبر 2010 بمدينة لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأمريكية عن عمر ناهز 82 عاما قضاهم في خدمة الإسلام والتعريف بالحضارة الإسلامية ونشر قيّمها الإنسانية متواصلا بذلك مع المفكرين الرواد الذين هاجروا من قبله إلى الولايات المتحدة الأمريكية أمثال الدكتور إسماعيل عمر الفاروقي، الدكتور عبد الحميد أبو سليمان و الدكتور طه جابر العلواني...الخ.

مسار في سطور:

ولد محمد فتحي عثمان بالمنيا بصعيد مصر عام 1928، وتلقى فيها تعليمه الأساسي. كما درس أدبيات الحركة الإصلاحية المعاصرة فقرأ للشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا، وبالخصوص للأستاذ محب الدين الخطيب الذي كان يمثل في نظره »المعلمة الحية التي تمشي على قدمين«. وتحدث في مواقع عديدة عن علاقته بصاحب جريدتي الفتح والزهراء وتتلمذه عليه، فقال في هذا الشأن: »فقد كان لشخصيته الفكرية ودراساته العلمية أكبر الأثر في تحديد كثير من الأصول العلمية عندي«. فالأستاذ الخطيب هو الذي علّمه كيف ينهج »الطريق "الحق" في طلب "الحقيقة" التاريخية بين أكداس الروايات ومختلف الأهواء. «وتأثر أيضا في شبابه بدعوة الشيخ حسن البنا فانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكتب مقالات في جريدتها الأسبوعية "الدعوة".

ودرس الأستاذ عثمان القانون في جامعة الإسكندرية، والتاريخ في جامعة القاهرة على رواد المدرسة التاريخية العربية الحديثة كالأستاذ محمد شفيق غربال والدكتور عبد الحميد العبادي. ونال درجة الماجستير في تاريخ عام 1962 من جامعة القاهرة عن موضوع العلاقات الإسلامية البيزنطية ثم تحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة برنستون سنة 1976. وعمل بعد ذلك أستاذا في جامعات الجزائر والسعودية والكويت، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1987 واستقر فيها باحثا وأستاذا بالجامعات الأمريكية ومحاضرا في عدة مؤتمرات فكرية ومدافعا عن الإسلام في مختلف وسائل الإعلام. وعمل فيها كذلك مديرا لمعهد دراسات الإسلام في العالم المعاصر.

عطاؤه الفكري:

صدر للراحل أكثر من 20 كتابا معظمها مكتوب باللغة الإنجليزية، أهمها: الفكر الإسلامي والتطور، دولة الفكرة، القيم الحضارية في رسالة الإسلام، حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي، السلفية في المجتمعات المعاصرة، آراء تقدمية في التراث الإسلامي، التاريخ الإسلامي والمذهب المادي في التفسير، الحدود الإسلامية البيزنطية بين الاحتكاك الحربي والاتصال الحضاري، من أصول الفكر السياسي الإسلامي، الأوقاف في ديننا ومجتمعنا، الدين للواقع، آراء من تراث الفكر الإسلامي، الدين في موقف الدفاع،  ...الخ.

كما ترجم مجموعة كتب منها: "المسلمون في تاريخ الحضارة" للدكتور ستانوود كب أستاذ تاريخ الأديان بجامعة هارفارد، و"جهود المسلمين في الجغرافيا" للأستاذ نفيس أحمد. وشرع كذلك في تعريب كتاب "علم التاريخ عند المسلمين" للمستشرق الأمريكي فرانز روزنتال، ثم توقف عن هذه الترجمة لما علم أن الباحث العراقي الدكتور صالح أحمد العلي قد سبقه إلى ذلك.

ولقد قرأت للدكتور محمد فتحي عثمان بحوثا ومقالات كثيرة صدرت في عدة مجلات عربية وإسلامية، أذكر منها: مجلة كلية العلوم الاجتماعية (السعودية)، الأمة (قطر)، العربي (الكويت)، المسلم المعاصر (مصر)، منبر الحوار (لبنان)، القبس (الجزائر)، رؤى (فرنسا)، الإنسان (فرنسا)، الرشاد (الولايات المتحدة الأمريكية)... الخ.

وكان أفضل ما قرأت له هي دراسة شيّقة نشرها في هذه المجلة الأخيرة بعنوان: "الأرض والإنسان: نظرة مؤمن في علم الجغرافيا" تحدث فيها عن تطور فكرة المكان عند المسلم. ولقد استمتعت بمطالعتها كما استمتعت من قبل بقراءة الكتاب الرائع "الإنسان والأرض" للمؤرخ الفرنسي الشهير لوسيان فيفر.

عرف الدكتور محمد فتحي عثمان في حياته اعتراف وتقدير العلماء والمؤسسات العلمية لإسهاماته الفكرية المتميّزة. فدرّس في عدة جامعات عربية وإسلامية، وأصبح مستشارا وخبيرا لمجلات أكاديمية عديدة، وساهم في ملتقيات دولية كثيرة. ولا بأس أن أذكر هنا أنه في عام 1996، أقام أصدقاؤه وتلاميذه ندوة فكرية على شرفه، تناولت العلاقة بين الإسلام والحداثة. وقد قام الدكتور عبد الوهاب الأفندي بجمع أوراق هذه الندوة المهداة إلى الدكتور محمد فتحي عثمان، ونشرها في كتاب بعنوان: "إعادة التفكير في الإسلام والحداثة."

هموم مفكر معاصر:

وتابع مسيرة الصحوة الإسلامية وبيّن شروط استمرارها. كما تحدث عن مشكلات الشباب وأشار إلى الوسيط الغائب بينهم وبين السلطان. فدعا إلى الاهتمام بهم ورعايتهم والإنصات إليهم والتكفل بمشكلاتهم قبل أن يغرقوا في الانحراف بأشكاله المختلفة ويتحولوا إلى فريسة سهلة لكل خطاب متطرف أو منحرف.

إن الشباب هم مستقبل هذه الأمة، وحاملو مشعل النهضة في العالم الإسلامي. ولذلك حرص الدكتور محمد فتحي عثمان على توعيتهم وترشيدهم نحو الطريق الصحيح، فنصححهم بهذه الكلمات المعبرة: »إن رسالتي للشباب أن يتجنبوا ما وقعنا فيه ونحن شباب بحيث يعلموا أن التطور الذي يستمر من عصر النهضة إلى اليوم ويقوم على الجدّ والعقلانية لا يُواجه إلا بأقدارٍ موازيةٍ من الجد والعقلانية والعمل المكثف الذي يرتكز إلى الكتاب والسنة ويتمحور حول الاجتهاد . ولذلك فإنني أرجو أن لا يتمحور جهد الشباب حول وضع الكتب والأفكار القديمة في مظهرٍ جديدٍ وصورةٍ جديدة ، وإنما في إبداع كتبٍ وأفكار جديدة . «

محمد فتحي عثمان والجزائر:

عاش الدكتور محمد فتحي عثمان عدة سنوات في الجزائر. فعمل أستاذا بجامعة وهران. وتعاون مع وزارة الشؤون الدينية والأوقاف. وشارك في أعمال ملتقى الفكر الإسلامي الذي كانت تنظمه هذه الوزارة سنويا. فقدم محاضرة في عام 1969عنوانها: "الإسلام والتطور"، ثم ألقى محاضرة أخرى في عام 1970 تحت عنوان: "المفهوم الثوري للدعوة إلى الإسلام."

وكتب الدكتور محمد فتحي عثمان بحثا قيّما عن الإمام عبد الحميد بن باديس -رائد النهضة الحديثة في الجزائر- في مجلة جامعة محمد بن سعود الإسلامية، وتحدث في كتابه "السلفية في المجتمعات المعاصرة" عن صفحات مشرقة من تاريخ هذا العالم وجمعيته المعروفة. وقد أصاب حين لخص نشاط ابن باديس في هذه الكلمات: »إمام عبد الحميد بن باديس ...هو شخصية علمية فسر القرآن الكريم خلال خمس وعشرين سنة في دروسه اليومية، كما شرح الموطأ خلال هذه الفترة وهو مفكر وسياسي وإعلامي، يحمل قضية ويكرس حياته من أجل أحقيتها وتبليغها ونشرها فشغل المنابر وكتب في الجرائد والمجلات التي أصدرها وهو أيضا مربي الأجيال في المدارس والمساجد التي كانت وقود معركة تحرير الجزائر« .

أما عن جمعية العلماء، فقال: » اعتبرت الحركة الإصلاحية التي قادتها جمعية العلماء الباعث الحقيقي والعامل الرئيسي للنهضة الجزائرية لأنها جاءت بإصلاح شؤون الفرد في المعتقد والسلوك من جهة وإصلاح الأسرة والمجتمع من جهة أخرى.«

وفي ختام هذا المقال أنقل للقارئ هذه الكلمات المفتاحية من كتاب "القيّم الحضارية في رسالة الإسلام" (ص123/ط2/1985) للدكتور محمد فتحي عثمان، وهي معبرة بدقة عن السمات الأساسية لحضارتنا الإسلامية التي عجز المسلمون اليوم عن تبليغها إلى الآخر حتى تتغيّر الصور النمطية الخاطئة المروّجة عن الإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام والتأثير المختلفة.

لقد » تضمنت رسالة الإسلام القيم الكفيلة بتأسيس حضارة راسخة شامخة أصلها ثابت وفرعها في السماء، نامية متجددة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فأكدت كرامة الإنسان، وأهمية ما أنعم الله به عليه من عقل وإرادة، وواجب الجد في العمل في هذه الدنيا لنيل ثواب الآخرة، والوعي بالزمن، ووجهت المؤمنين إلى إقامة السلطة الضابطة المنظمة العادلة، وصبغت حضارة الإسلام بطابع عالمي فكان خيرها للإنسانية جمعاء«.

                

*أستاذ بجامعة الجزائر

عضو جمعية العلماء الجزائريين، مكلف بالتراث والبحث العلمي.