محمد بن عبد السَّلام

بُويَا

من أرشيف سيرة محمد بن عبد السَّلام

شعيب حليفي

[email protected]

أولا

هذا ملحق أول بمذكرات كاتب، جاء ليستوضح ، استدراكًا ، وُرودَ اسم بويا في سياق القول.

ثانيا

يعتبر هذا الاستدراك ، وشايةً برجلٍ كان وما زال  يحمل رسالته بعيدا عن مراوغات الكُتَّاب  أو مُحترفي الكلام – كما يُسميني دائما – وفي ذلك ذهاب مني إلى أقصى ما أُفكر فيه من تحويل ما أراه إلى تخييل، لا كذب فيه .. رؤيتي إلى الكتابة باعتبارها وظيفة وجدانية لا يمارسها إلا المطهرون.

ثالثا

إذا أنا لم أكتب عمن أُحِس بهم وأُحِبهم .. فعَمَّنْ أكتبُ وأتحدث؟ والكتابة لا تطلع إلا من قلب طاهر أو فكر منشغل بالطُّهر.

رابعا

هذا النص الصيفي مُهدى إلى روح جدتي فاطنة بنت الطاهر و جدي عبد السلام بن خليفة والى روح  الأستاذ البادر أول بوكادو لبويا وصديقه الحميم .

شريطٌ وثائقي

هو الآن يسيرُ ويسلم على أصدقائه القدامى والجدد..

ثمانون عاما في طاحونة الزمن المغربي الملاَّطي، وهو يحرث الأرض دون كلل. تتبخر أيَّامه يوما بيوم، وثانية ثانية، لتصعد بكل عُهودِها إلى صحائف السماء الإلهية، تُدوِّنُها الملائكة حرفًا حرفًا. فهو الذي استطاع وما يزال يستطيع تحويل الحياة إلى حكاية.

وُلِد محمد بن عبد السلام في ربيع سنة 1925 بدوار الكراريين قبيلة المزامرة من بطن فاطنة بنت الطاهر، والتي ماتت وهو صغير السن، تركته مع أخته فاطمة يتيما وحيدا يتذكر لَبنَها ونظرتها الحزينة قبل أن تذهب لتنام وحيدة في مقبرة عارية، تتسللُ إليها أمطار تلك السنة فتُبللُ وجهها النوراني وأنفاسها المباركة.

عاش محمد بن عبد السلام وما يزال، قادرا على إدراك التفاصيل الصغرى والكبرى، فهو بويا الأمين الذي يعشق الأرض والحياة.

في الخمسة عشرة سنة الأولى من حياته، عرف الرعي، مثل كل الأنبياء، ثم التجارة متعلما مهنة الجزارة، والتي كانت سبيلا للانتقال من دوار الكراريين إلى الفيلاج بسطات، ليُصبح مسؤولا عن نفسه داخل أسواق الشاوية ..يعيش محنا كبرى مع الحياة، بِشَرف المحاربين وهو لَمَّا يبلغ بَعدُ، سن الرشد القانوني.

يتذكر دائما، وهو في هذا السن أن الحرب العالمية الثانية كانت ملاذا ومدرسة انخرط فيها بقامته الطويلة وبنْيَته القوية، فيحيا لسنوات بفرنسا وألمانيا، فيعود دون أن تكتمل الحرب... برؤية أخرى لخوض الحياة مُقاوما وفلاحا دون أن ينتظر بطاقة أو اعترافا من أحد.. أو يقف على الأبواب رافعا يده لتقتطع من كعكةِ الاستقلال، بل استمر يحفر في الأرض ويخوض أول تجربة بلدية، مستشارا بسطات، في مجلسها مُنتخبًا في الستينيات، قبل أن يبتعد عن الكراسي التي تبيح المحظورات وتتنكر لكل القيم و الثوابت.

إن قدرة محمد بن عبد السلام بن خليفة الشاوي هي في عودته الدائمة إلى سمو الأرض والبساطة وعدم الالتفات إلى الماضي.. فكم من صراعات خاض مع حكام فرنسيين إقطاعيين أو رجالات السلطة من الطغاة وعلماء وقضاة وسياسيين ونقابيين بلغت حد الجهاد... وكم من تضحيات تركت، حتى الآن، في روحه بصمة قوية، تجعله في سعي دائم لتحرير نفسه من آثار أي ظلم أو قيود.

أصل الملائكة

هل يمكن لجدتي، فاطنة بنت الطاهر، وهي رميم في مقبرة منسية منذ عقود طويلة بسهول المزامزة المقدسة أن تنظر إليَّ بروحها الخالدة، أنا حفيدُها الذي سيولد في العقود الأخيرة من القرن العشرين من صُلب ابنها محمد بن عبدالسلام؟ هل يمكن لروحها الملائكية التي تحرس صَوتي ولَوني وخُطواتي أن تُعينني على سماع حكاياتها وأنا أفتش عن خطواتها الحَيِيَّة والواثقة وعن كوانينها ولِثامِها وحَيْكِهَا...

هل يمكن لها أن تتخيل ، في نَومَتِها المؤقتة ، أن هذا الحفيد الطُّهراني القادم من صُلب ابنها ..يتذكرها أمام الجميع ويُعلنها جدته التي كان وما زال ، ممن عرفوها أو سمعوا عنها ،يعتقدون أنها إحدى وَلِيَّات الله المنسيات في أراضي المزامزة .

فاطنة الحمرية، الشريفة، المباركة ابنة السماء وجَدَّتي، وحيدةُ والدها الطَّاهر، زعيم المقاومين على شريط ساحل بلاد وقبائل احْمَرْ… الحمراءُ بما انهرقَ من دماءٍ خلال نهاية القرن التاسع عشر وفي العقدين الفاتحين من القرن العشرين.

الطاهر، أبو الغَزوات الكبرى، الذي خلقه الله ليكون أسطورة بطل لم يعرف مذاق الخوف أو الجبن.. ولا أحد يعرف كيف أصبح عبد السلام بن خليفة رفيقًا روحيًّا للطاهر في تلك الفيافي والسنون...

 الشمس ما تزال، ربما، تَذْكُرُ كل شيء حينما استبدَّ الغدرُ وطالت الخيانة الأرض كلها.غدروا بالطاهر وابنه احمد – كما غدروا قبل قرون بعلي الشاوي – فلم يجد عبدالسلام من سبيل سوى حمل آخر بذرةٍ من سلالة الزعيم والعودة بها إلى موطنه الأصلي بسهول الشاوية، لتضع له من رحِمِها محمد وفاطمة، ثم تموت بعد أن ترى، وسط حروب الاجتثات، أخاها الأصغر بأعجوبة غير مفسرة.

امرأتان عظيمتان كانتا في حياة جدنا عبد السلام : زوجته فاطنة التي ماتت في عز شبابها، ووالدته الفاضلة والتي عمرت طويلا.

وقد عاش عمرا مديدا يحتفظ، في ذاكرته الثرية ،بما عاشه من أزمان في طفولته ..و إلى جانب الطاهر ثم قائدا للرحى في طاحونة المقاومة.

جدي عبد السلام.... هل أنت مالك بن الريب أم الاسكندر الأكبر، أم السلطان الأول للأمازيغ والقرويين أم على الشاوي الذي أرسى قواعد الحرية والعدالة والديمقراطية في أرضنا وسلالتنا... أم أنت سيدنا علي وكفى ؟

بويا... الأمين

هو الآن، ومنذ عقود، بويا الأمين، كما يدعوه الجميع، والأب الأكبر كما تحسه الخاصة، أمين الفلاحين بالشاوية، وتجار البهائم بأكبر أسواقها،عَرَّابٌ نبيل يحتكمون إليه ويستظلون بحكمته التي في عقله وقلبه وحدوسه، وليست في جرابه.. يفتي ويقضي بين الناس مثل حاكم عادل ..ثم يروح إلى بيته مثل نبي يُضَمِّدُ جراحات أمته بحكمته وبُعْدِ نظره.

هو الآن، له عاداته التي لا يحيد عنها، جلسته الصباحية بمقهى بوشتى، حيث يتحلقُ حوله بعض الأصفياء من أصدقائه، إلى جانبه الشيخ العبدوني الذي وهبه الله الشرف والورع والعفة . تَطوفُ عليهم، حنان، بأباريق من الشاي الذي لا نظير له...

يجلس بجلبابه والبوردو ونظراته الثاقبة مثل نسر شاوي قادر على رؤية القيامة أينما وُجدتْ، يستطيع وسط حكمته ،التي لا تؤتى دائما لنا ،أن يجمع بين الثقة والشك، بين القوة والضعف، بين السلام والحرب... يَطوفُ علينا بآراء واستنتاجات لا تخطر على بال.

جلسته الأسبوعية في سوق السبت للقضاء بين المتخاصمين... محاطا بجوج مخازنية.وعدد ممن يريدون التعلم .. جلسة هي مدرسة لتعلم فن الممكن والمحتمل في النظر إلى الحقيقة.

أَحضرُ جلسات مقهى بوشتى، وأحيانا جلسات سوق السبت، وكلما فكرت أن بويا أفتى وأخطأ –كما أعتقدُ- ولم أفهمْ ، تُؤكِّدُ لي الأيام أني كنتُ مخطئا في تقييماتي ، وهو الصائب ..

في لحظات الضيق ، يتذكر أصدقاءَه ، ومَنْ هُم في حكم أبنائه ،فيشعر بالارتياح  ويبحث عن سياق لذكرهم أو الحديث عنهم وعن أخلاقهم ..يتذكر الأستاذ البادر، احد جهابذة القانون وكبار رجالاته بسطات ..الأستاذ اليزناتي..والأستاذ احمد نور اليقين الذي يعيد لمهنة المحاماة طُهرِيَّتَها  ويجعلها حكمة وفنا وأخلاقا  .. كما يتذكر الحاج فاضل ، خليفة على ارض الشاوية ، وتحديدا عين نزاغ،عادل ومستقيم وخدوم ورجل حقيقي .كما يتذكر من الفلاحين ممن كانوا نموذجا للاستقامة .

بمقهى بوشتى ، ونحن جلوس ، متحلقين حول بويا  ...يفاجئني بسؤال  كما لو انه كان يقرأ أفكاري :وأنت فين أصحابك ..عبد الكريم ولد العبدية ، امحمد ولد كلثوم ، الحرار، لشهب..؟

كنت أعرف مناوشته لي، فهو يعتبرهم صقورا لا أحد يُرافقهم ، والواحد منهم – على حد تعبيره مرة – يسير في طريق وخياله في طريق آخر يُبعد عنه بمئات الأمتار ..كناية على أنهم "رجال بلا خيال"..فأضحك وأؤكد له أنهم فعلا من أصدقائي .