أحمد باشا كمال

الأب الروحي للأثريين المصريين

أحمد باشا كمال

حسين علي محمد حسنين

كاتب وباحث/ عضو إتحاد كتاب مصر

[email protected]

هو أحمد كمال حسن أحمد . أول مؤرخ مصرى يكتب في تاريخ مصر وحضارتها القديمة كتابة علمية سليمة، وعلى يديه ظهر جيل من كبار علماء التاريخ والآثار، وصار رائد المدرسة المصرية الحديثة  في الدراسات الأثرية.     ولد بالقاهرة في 29 يونيو 1851م ( الموافق 29 شعبان عام 1267 هـ) ، وترجع جذور والده إلى جزيرة كريت المجاورة لليونان التى كانت تابعة للتاج المصرى. 

 قبل أن يلتحق بالتعليم النظامي تعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب، وحفظ شيئا من القرآن الكريم، ثم التحق في سنة 1863 بمدرسة المبتديان الابتدائية بالعباسية،  وإنتقل منها في سنة 1867م إلى المدرسة التجهيزية التي تقابل الآن المدارس الثانوية التى تقوم بإعداد  الطلبة للالتحاق بالمدارس العليا  أى (كليات الجامعة)، ومكث بها عامين، انتقل بعدها إلى مدرسة "اللسان المصري القديم"، وهي المدرسة التي أنشأها العالم الألماني هنرى  بروجش  ( 1827 – 1894م) لدراسة الآثار واللغة المصرية القديمة فى عام 1869 ، فدرس أحمد كمال بها اللغة المصرية القديمة(البعض يطلق عليها اللغة القبطية، وهذا خطأ شائع، والحقيقة أنه ليس هناك لغة قبطية وإنما يوجد فقط لغة مصرية قديمة ، وقد إستخدم الإغريق مصطلح "أقباط" على كل المصريين الذين يعيشون على أرض مصر وذلك قبل ظهور المسيح بنحو خمسمائة عام على الأقل، ومن ثم فكلمة أقباط ليس لها صلة مطلقا بالمسيحية)، كما تعلم أحمد كمال اللغة  الحبشية والفرنسة والألمانية والإنجليزية ، وأتقن دراسة التاريخ المصري القديم. 

بعد تخرجه من مدرسة الآثار كان من المفترض أن يعمل أحمد كمال بمصلحة الآثار المصرية لكن الفرنسيين الذين كانوا يحتكرون العمل بالمصلحة رفضوا تعيينه ، لذلك إضطر للعمل بوزارة المعارف المصرية معلما للغة الألمانية بإحدى المدارس الأميرية بالقاهرة.

المؤامرة الفرنسية لإقصاء الأثريين المصريين عن العمل بمصلحة الآثار المصرية القديمة: 

إحتكرت الجالية الفرنسية العمل بمصلحة الآثار المصرية وعملت على إستبعاد أبناء البلد من العمل فيها.  وحول هذه القضية الشائكة يشير أحمد باشا كمال فى توثيقه لتلك المرحلة أن مصر شهدت إحتكارا فرنسيا لعلم المصريات خاصة بعد تعيين أوجست مارييت مديرا للآثار المصرية فى أول يونيو عام 1858 والذى هيمن بقوة على إدارة الآثار المصرية، وظل الأمر كذلك لعدة سنوات . ولما تخرج عدد من المصريين الذين تعلموا بمدرسة الآثار المصرية وطلبوا الحصول على وظائف بمصلحة الآثار المصرية رفض مارييت ذلك. ولما تصاعد صوت الشباب المصرى الذى طالب بالعمل فى مصلحة آثار بلاده تصاعد بالمقابل رفض مارييت ، وأعلن المدير الفرنسى عن عدم السماح للمصريين بالعمل فى الآثار المصرية ، بل وزاد تعنته بأن أصدر أوامره بإغلاق مدرسة تعليم الآثار المصرية فى وجه المصريين فقط وفتح أبوابها لغير المصريين (أى الأوربيين المقيمين فى مصر)، إضافة إلى إقصاء المصريين من العمل فى الآثار المصرية بصفة عامة ، وتلك كانت بداية إشتعال الأزمة بين الوطنيين المصريين والإدارة الفرنسية بمصر المحروسة ، وعليه تصاعدت إحتجاجات المصريين تدريجيا بمرور الوقت.      وترجع بعض الدراسات التى أجريت فى هذا الخصوص أن سبب تفاقم تلك العنصرية الأوربية تجاه المصريين ترجع إلى  الموقف الفرنسى العنصرى وما قام به مارييت  من تحريض لعلماء الأزهر وطلابه ضد النخب المصرية العاملة فى مجال الثقافة والآثار المصرية ، وعندما وجهت التهمة لرجالات الأزهر بأنهم تواطئوا مع المحتل الغربى ضد أبناء بلدهم كانت حجة علماء الأزهر وخريجيه أن الآثار المصرية القديمة مجرد أصنام بالية وأن اللغة المصرية القديمة هى لغة الفراعنة الغير مسلمين وأنها لغة قبطية مسيحية(وهذا خطأ رهيب روج له الفرنسيون لإشعال الفتنة بين المسلمين والمسيحيين فى  ذلك الوقت)) ، وقيل أن من يعمل فى الأصنام المصرية يعتبر كافر ومرتد ، وقد ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك . لكن المثير هنا أن علماء الأزهر وطلابه لم يشيروا بأصابع الإتهام على الإطلاق إلى الأوربيين الذين كانوا يعملون فى الآثار المصرية ولم يتهموهم  بالزندقة وهو ما وضع العديد من علامات الإستفهام حول سلوك علماء ورجال الأزهر. وبالتحقيق بحثيا فى ذلك الموقف تبين أن وراء تلك الفتنة أيادى فرنسية عملت على توتر العلاقة بين علماء وخريجى الأزهر من جهة والنخبة المصرية من جهة أخرى ، وقد ظهرت عبارات فرنسية تشير إلى أن النخبة المصرية خاصة التى تعلمت  بأوربا كانت تنظر إلى خريجى الأزهر نظرة دونية  !!!!!.     ونظرا لتلاحم وتداخل رجالات  الأزهر القوى بين جميع شرائح المجتمع المصرى واجه أحمد باشا كمال وزملائه العديد من المشاكل والعقبات.

ومع إستغلال خريجى الأزهر والعاملين فى الشأن الدينى  بالمساجد والجمعيات الخيرية قويت شوكتهم  وإتسع نطاق نفوذهم فى الشارع المصرى ، وهنا إضطر الخديوى إسماعيل أن يكون وسطيا(رغم عدم إقتناعه) بين رجال الأزهر والفرنسيين من ناحية والنخبة المصرية التى يدعمها بنفسه من ناحية أخرى ، ويذكر فى هذا الصدد أنه حاول أن يظهر عدم إفتتانه بالآثار المصرية أثناء إفتتاح متحف بولاق فى 16 أكتوبر 1863  حتى قيل على لسان الفرنسيين ورجال الدين الأزهريين  أن الخديوى إسماعيل لم يدخل المتحف ليرى ما بداخله بل وقف بفناء المتحف . ولعل ذلك هو ما شجع مارييت على إستغلال ذلك الموقف بشكل عنصرى بشع حيث قال أمام قناصل الدول الأوربية فى مؤتمر عقده بالقاهرة وحضره بعض  أنصاره من الأزهريين : " إن المصريين جميعا لا يحبون الآثار القديمة ، لذلك يجب إبعاد أولادهم عنها لأنها لا تتماشى مع معتقداتهم الدينية المحافظة " . وأضاف مارييت: " وحتى لا يدمر الشباب المصري تلك المقتنيات الأثرية الثمينة الرقيقة فعلينا نحن الأوربيين العمل بها للحفاظ عليها " .     وفى تلك الأجواء الفرنسية المعادية التى أرساها مارييت هجر الشباب المصرى ذلك التخصص لعدم توفير فرص عمل لهم ، وأضطر البعض الأخر للعمل فى بوظائف إدارية بعيدا عن تخصصهم . وعندما علم الأثرى الألمانى بروجش " ناظر مدرسة اللسان المصرى القديم"  بموقف مارييت الفرنسى المتشدد قرر التصدى له وصمم على تعيين خريجى مدرسته(اللسان المصرى القديم) ومنهم أحمد كمال وزملائه بالعمل فى المتحف المصرى ، لكن مرة اخرى تصدى مارييت له وذهب إلى الخديوي طالبا منه رفع يد الألمانى بروجش عن المتحف المصرى . وإضطر الخديوى على الموافقة لطلب ذلك المتشدد الفرنسى مارييت، وقد أدى ذلك إلى إنسحاب بروجش تفاديا للمشاكل . ومن ثم إضطر خريجي الآثار من المصريين فى النهاية إلى العمل بعيدا عن مصلحة الآثار المصرية ومتاحفها مثل مجالات التدريس والترجمة وغيرها .   ومع ذلك لم ييأس الألمانى بروجش ، وظل يحاول إلحاق أحمد كمال وبعض  زملائه بالأعمال الأثرية ، وكان نصيب أحمد كمال الحصول على وظيفة كاتب بمصلحة الآثار المصرية ، ثم تطور الأمر بعد ذلك ليعمل مترجما بالإنتيكخانة المصرية فى عام 1873  ، ثم معلم لغة مصرية قديمة بها وهى اللغة التى كان يتقنها ببراعة.

ومع إستمرار ذلك التعنت الفرنسى عامة ومارييت خاصة فى إقصاء الأثريين المصريين عن العمل فى مصلحة الآثار المصرية ، والذى إستمر لنحو عشر سنوات قام المصريون خلالها بمطالبة الخديوى تارة والتظاهر أخرى إلى أن وافق الخديوى اسماعيل فى عام 1873 الموافق 1290 هـ على تعيين أحمد كمال فى وظيفة أمين مساعد بالمتحف المصرى ، فكان أول مصرى يتقلد ذلك المنصب ( وقد إستمر فى منصبه حتى بلغ الستين من عمره، بالإضافة إلى قيامه بتدريس اللغة المصرية القديمة والتاريخ الفرعوني بمدرسة المعلمين العليا ، وكذلك فى الجامعة المصرية الأهلية بعد ذلك ).

    لم تتوقف قسوة وعنصرية الفرنسيين على النخب المصرية العاملة فى حقل الآثار المصرية عند هذا الحد ، فقد أصدر مارييت قرارا عام 1874 بإغلاق مدرسة اللسان المصرى القديم  وذلك لمنع تخريج أية دفعات من الشباب المصرى المتخصص فى الآثار المصرية، وشدد على أن العمل فى هذا المجال للأوربيين عامة والفرنسيين خاصة .

   والحقيقة أن الخديوى إسماعيل كان رافضا لموقف مارييت المشين ، لكن مع زيادة التدخل الأنجلو فرنسى فى الشأن الداخلى المصرى والضغط على الحديوى مستغلين فى ذلك ورقة الديون  الأوربية على مصر،  ومع صمت الحكومة والصحافة وعدم قدرة الحركة الوطنية على مناهضة التدخل الأجنبى إلا من إحتجاجات محدودة هنا وهناك تطالب بإعادة فتح مدرسة اللسان المصرى القديم . ووسط ذلك الضعف العام أصبح مارييت صاحب الصوت الأعلى وأصبح  يمثل حجر عثرة بل عقبة رهيبة أما شباب مصر الذين يريدون دراسة آثار بلادهم  والعمل فيها من أجل حمايتها ورصد تاريخها للأجيال القادمة ، إلا أن حملات المصريين الوطنيين ضد ماريت والتدخل الفرنسى ظلت تتسع وتناهض بكل الصور والأشكال تلك العنصرية الفرنسية ، وتعددت أساليب المقاومة بين السلمية إلى التفكير فى التصفية الجسدية، وإستمر الحال كذلك إلى أن قضى الله أمرا كان مكتوبا .

    بعد وفاة الفرنسى مارييت فى عام 1881 تم تعيين جاستون ماسبيرو مديرا لمصلحة الآثار التاريخية والأنتيكخانة المصرية . وفي 27 نوفمبر 1881 حصل أحمد أفندي كمال مترجم المصلحة على الدرجة الثالثة، ثم عمل " خوجة " (أى مدرسا) ثم ناظراً  لمدرسة المتحف، وفى تلك المرحلة أكتشف عددا من السرقات للآثار المصرية قام بها نفر قليل من الأجانب(معظمهم من الفرنسيين). كان من أهم تلك المسروقات عدد كبير من البرديات منها  93 بردية على درجة عالية من الأهمية ، بالإضافة إلى مسروقات ذهبية وغيرها  وكان بعضها يباع علنا بأسواق أوروبا منذ  منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر ، وأشارت التقارير إلى أنها تسربت من الأقصر.  وبعد الإعلان فى الصحافة عن تلك السرقات ومطالبة  الخديوى توفيق بالتدخل للكشف عن مرتكبيها من الأجانب ، وافق الخديوى على إرسال  أحمد كمال ومعه هنرى بروجش إلى أوربا  في ديسمبر عام 1881  للبحث والتقصى عن تلك المسروقات بهدف تقديم من قام بها للعدالة بتهمة السرقة. وبالفعل تمكن أحمد كمال وبروجش من الوصول إلى عدد من اللصوص الإنجليز والفرنسيين الذين أدلوا بإعترافاتهم والتى مكنت البوليس المصرى من التعرف على المكان الذى سرقت منه وتبين أنه "خبيئة الدير البحري" الواقعة بالقرب من معبد القرنة بالأقصر(لكن لم يتم العثور على عدد من البرديات قدر بنحو 93 بردية منها برديات تشير بوضوح إلى رحلة إخناتون التبشيرية حول العالم، وبعضها يشير إلى وجود سيدنا إبراهيم وزوجته سارة وتعلمه ديانة التوحيد التى إنتشرت فى جنوب مصر فى 2200 قبل الميلاد ، إضافة إلى أشياء أخرى تتعلق بإنتشار اللغة المصرية القديمة بين الشعوب المجاورة لمصر) . يذكر أن تلك الخبيئة ظلت مكانا سريا لسرقات الفرنسيين لسنين طويلة، وكانت تعد من أعظم اكتشافات الآثار المصرية عبر التاريخ  والتي جسدها فيما بعد المخرج شادي عبد السلام في فيلمه الشهير " المومياء " وأشار في فيلمه إلى تلك السرقات التى قام بها الفرنسيين والإنجليز وغيرهم من الأوربيين الذى عملوا فى الآثار المصرية القديمة .

 ومع وجود ماسبيرو مديرا لمصلحة الآثار المصرية والإنتيكخانة لم يتغير شيئا بشأن الإدارة الفرنسية لمصلحة الآثار المصرية ، بل ظل النظام العنصري الفرنسي معمولا به ضد المصريين أصحاب البلاد . وعليه ظلت العبارة الفرنسية الشهيرة التى كان يرددها مارييت فى الإعلام الأوربى  ترن فى آذان النخب المصرية ألا وهى: المصريون لا يعرفون أهمية آثار بلادهم ويجب إبعاد أولادهم عنها لأنها لا تتماشى مع معتقداتهم الدينية حتى لا يدمر الشباب المصري تلك المقتنيات الأثرية الثمينة الرقيقة ، وعلينا نحن الأوربيين العمل بها للحفاظ عليها).    وبدأ الباحثون من النخب المصرية يبحثون فيما يقوم به الأجانب فى مصر وما يثيرونه من قلاقل ، وتأكد الوطنيون من أن أولى الفتن الطائفية بين المسلمين والمسيحيين  الأوربيين المقيمين فى مصر التى وضع أساسها القنصل السويدى بالأسكندرية هى التى ساهمت بقدر كبير فى مذبحة الإسكندرية الشهيرة فى 11 يونيو 1882 وباركها الفرنسيون والإنجليز ، ومن ثم فإن الفتنة التى أشعلت صدور رجال الدين المصريين المتشددين ضد النخبة المصرية قد وضع أساسها الفرنسيون فى نفس الفترة أيضا ، وهو ما يعنى أن هناك مخططا أوربيا وضع أساسه القنصل السويدى بالتعاون مع الإدارة الفرنسية بمصر ليقوم بتنفيذه الإنجليز لتدمير الجبهة الداخلية فى محاولة لإحتلال بريطانيا لقناة السويس مقابل سيطرة فرنسا على تونس بشمال إفريقيا .   بعد تولي ماسبيرو رئاسة مصلحة الاثار المصرية بنحو عام قامت الثورة العرابية فى 25 مايو 1882 ويذكر أن أهم الهتافات التى خرجت أثناء المظاهرات كانت تطالب بالتمصير وبخروج الأجانب من مصر (أى ضد  الفرنسيين والإنجليز تحديدا) وضرورة تولى المصريين زمام أمور بلادهم بأنفسهم . لكن بعد فشل الثورة ونفى عرابى وإحتلال الإنجليز لمصر حدث غليان داخل البلاد إضطر على أثره قيام ماسبيرو بتعيين عدد محدود من المصريين فى الأنتيكخانة المصرية . وعندما تمكن الإنجليز من إحكام السيطرة على البلاد ، قام ماسبيرو بدعم من سلطة الإحتلال البريطانى بإغلاق إحدى المدارس الكبرى التى تم إفتتاحها لتعليم المصريين آثار بلادهم وذلك فى إطار خطة فرنسية-إنجليزية ترمى إلى إبعاد المصريين عن ممارسة العمل فى آثار بلادهم أو معرفة أعدادها ومكوناتها حتى يسهل سرقتها .  لكن ما قام به ماسبيرو من غلق لتلك المدرسة ، بالإضافة إلى قيامه بمواقف أخرى متشددة ضد  المصريين العاملين فى حقل الآثار أدت إلى ثورة المصريين العاملين فى الأثار ضده وساعدهم فى ذلك الأحزاب الوطنية خاصة الغير معلنة التى كانت تعمل فى إطار تشكيل وطنى سرى للتخلص من الأجانب . وفى النهاية  إضطر  ماسبيرو إلى ترك العمل فى عام  1886 دون أسف عليه . وتولى بعده ثلاثة من الفرنسيين ذلك المنصب خلال ثلاثة أعوام على التوالى .    وفى عام 1889 طلبت سلطات الإحتلال من الخديوى توفيق إعادة تعيين ماسبيرو مديرا لمصلحة الآثار التاريخية والأنتيكخانة المصرية، لكن هذه المرة تغيرت نظرته تجاه المصريين الذين كانوا يرصدون خطاه فى كل مكان يذهب إليه،  ولما تبين له أنه مستهدف وغير آمن على حياته أعاد النظر فى تعامله مع المصريين ومن ثم أبدى احتراماً وتقديراً ملفتاً لأحمد كمال الذى عينه مساعدا  له فى إدارة مصلحة الآثار التاريخية والأنتيكخانة المصرية .

فى عام 1890 ونظرا لبعض السرقات ولدواعى أمنية بذل أحمد كمال جهودا مضنية في عملية نقل آثار المتحف المصري من بولاق إلى متحف الجيزة وقام بتنظيمه وترتيبه رغم معارضة ماسبيرو الذى كان يرفض وجودا أمنيا مستحكما . وظل متحف الجيزة يعمل بكفاءة ، لكن بعد أن تكدست به التحف وأصبح غير قادر على إستيعاب المكتشفات الجديدة  وهو ما سهل تعرض بعض تلك المقتنيات للنهب ، قرر أحمد باشا كمال نقل المقتنيات من متحف الجيزة إلى المتحف الحالي بوسط القاهرة  وذلك فى عام 1900 الموافق (1318 هـ ) . كما طالب بضرورة  إنشاء المتاحف في عواصم الأقاليم المصرية ، وبالفعل نجح في إنشاء متاحف في أسيوط والمنيا وطنطا.

القصر يدعم أحمد كمال :   فى أخريات حياة الخديوى توفيق وتحديدا فى أكتوبر 1891 حدث تغيرا سعيدا لم يكن متوقعا ، فقد قرر الخديوى أن يصبح أحمد كمال أول مصري يتقلد منصباً أثرياً رسمياً بالمتحف المصري.. وقد جاء ذلك في مذكرة من اللجنة المالية إلى مجلس النظار(الوزراء) بتاريخ 10 أكتوبر 1891م تطلب اللجنة تعيين أحمد أفندي كمال بوظيفة مساعد أمين لحفظ الأثارات في إدارة عموم الأنتيكخانة المصرية بمرتب سنوي 300 جنيه (بواقع 25 جنيهاً شهرياً). وقد كان ذلك بمثابة رد إعتبار للمصريين العاملين فى الآثار المصرية.

وفى عهد الخديوى عباس حلمى الثانى الذى بدأ فى 8 يناير 1892 أختير أحمد كمال عضواً بالمجمع اللغوي الذي أسسه نفر من المهتمين بقضايا اللغة العربية عام 1892، كما أختير عضوا شرفيا بالمعهد العلمي العربي بالشام (المجمع الدمشقي)

وفى عام 1904 أنتخب أحمد كمال لعضوية المجمع العلمي المصري ، بعد أن تحقق له شهرة خارج حدود مصر في الأوساط الثقافية الأوروبية خاصة بعد أن نشر له العديد من المقالات  في المجلات  العلمية . بالإضافة إلى عضويته  بالجمعية الجغرافية الخديوية، وكذلك عضويته بجمعية الرابطة الشرقية .    فى تلك المرحلة سعى أحمد باشا كمال لدى وزير المعارف أحمد حشمت باشا لإنشاء فرقة لدراسة علم الآثار المصرية بمدرسة المعلمين الخديوية، فوافق الوزير وأنشئت أول فرقة التى تخرجت عام 1912  وحاول أحمد كمال أن يلحق بعض أعضائها بالمتحف المصري، لكنه لم يوفق؛ بسبب العراقيل التي أقامها الفرنسيين والإنجليز في سبيل ذلك، فاشتغل خريجو هذه الفرقة بالتدريس ، وكان من بينها عدد من الطلاب صاروا بعد ذلك من كبار علماء التاريخ والآثار، مثل سليم حسن ، وأحمد عبد الوهاب باشا، ومحمود حمزة.

وظل أحمد كمال فى منصبه " أمين حفظ الأثارات فى إدارة عموم الأنتيكخانة المصرية " حتى خرج للتقاعد فى عام 1914 وهو نفس العام الذى خرج ماسبيرو للتقاعد أيضا، وكذلك نفس العام الذى عمل الإنجليز على إقصاء الخديوى عباس حلمى الثانى ونفيه إلى تركيا ودعم السلطان حسين كامل لإعتلاء عرش البلاد نظرا لقربه الشديد منهم ، وهو أيضا نفس العام الذى وقعت فيه أحداث الحرب العالمية الأولى، وكانت مصر فى أسوأ أوضاعها الإقتصادية  .

وفى عام 1923 نجحت مساعي أحمد باشا كمال  في تعيين ثلاثة من خريجى علم الآثار المصرية بمدرسة المعلمين الخديوية بالمتحف المصري ، وبعد عام من العمل تقرر إرسالهم إلى فرنسا وإنجلترا لإتمام دراسة الآثار هناك، والثلاثة هم: سليم حسن صاحب موسوعة "مصر القديمة"، ومحمود حمزة، وسامي جبرة.    كما سعى أحمد باشا كمال  لدى وزارة المعارف إلي إحياء دراسة الآثار بمدرسة المعلمين العليا، وبالفعل أعادت الوزارة افتتاح فرقة دراسة الآثار واللغات القديمة بمدرسة المعلمين فى عام 1924 (الموافق 1342 هـ ) أي بعد وفاته بعام ، وقد التحق بهذه المدرسة طلاب الشهادة التوجيهية(الثانوية العامة حاليا) . ولما أنشئت الجامعة المصرية تقرر أن يكون من بين أقسام كلية الآداب قسم للآثار، ثم استقل بعد ذلك بسنوات عديدة وصار كلية خاصة بالآثار.

التنقيب عن الآثار المصرية القديمة:  كان من شأن معرفة أصول اللغة المصرية القديمة التي توصل إليها العالم الفرنسي "جان فرانسوا شمبيليون" أن نشطت حركة ترجمة الوثائق المصرية القديمة، وتقدمت الدراسات اللغوية، وانكشف ما كان غامضا من حياة القدماء المصريين، ثم ازدهرت الدراسات الأثرية باهتمام الجامعات والمؤسسات العلمية الأوربية بالآثار المصرية، وبدأت مرحلة الكشف عن الآثار وفتح المقابر وترميم المعابد وجمع أوراق البردي، واستتبع ذلك ظهور عدد من العلماء النابهين الذين شغفوا بالآثار المصرية وبذلوا جهودا مضنية في البحث والتنقيب وفي قراءة النصوص القديمة وترجمتها وتحليلها كى يتمكنوا بواسطتها من معرفة معالم التاريخ المصري القديم.  

وعلى الصعيد المصرى تعددت جهود أحمد باشا كمال فشملت التنقيب عن الآثار وتخريج جيل من الأثريين قام بعمليات البحث والترجمة والكتابة عن التاريخ القديم .   وفيما يتعلق بالتنقيب عن الآثار، فقد قام احمد كمال بمساهمات عظيمة في الحفائر التي أجريت في عشرات من المواقع الأثرية خاصة في مصر الوسطى، وقام بنشر تقارير هامة عن هذه الحفائر . ويذكر أنه قام بدور رئيس في العثور على مومياوات الفراعنة التي كانت مخبأة بالدير البحري غرب مدينة  طيبة ، ولعل ذلك هو ما أثار غضب مارييت فى أواخر حياته، ثم عنصرية ماسبيرو فى التخلص من ذلك الشاب المبدع أحمد كمال الذى كان يجيد إجادة تامة اللغات المصرية القديمة والفرنسية والألمانية والإنجليزية والمصرية العامية القديمة القريبة من الإغريقية التى إستخدمت فى ترجمة الإنجيل وإستخدمتها الكنيسة المصرية(وهو ما أطلق عليها خطئا اللغة القبطية).

أحمد كمال والصراع الأوربى الممانع:

( أولا ) الربط بين ديانة التوحيد المصرية القديمة والديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية :   كانت مهمة أحمد كمال صعبة للغاية نتيجة لضغوط رجال الدين على المصريين العاملين فى الآثار الفرعونية . ففى ذلك الوقت عمل مارييت ومن بعده ماسبيرو على تأجيج الفتنة بين رجال الأزهر والأثريين المصريين ، ووصل الأمر برجال الأزهر إلى إتهام الأثريين المصريين بالزندقة وإعتبار الأثار المصرية عملا دنيويا لا دينيا ، وأنها صورة من صور الأصنام فى العهد القديم .  وقد حاول أحمد كمال ومن معه من الفرقاء بمحاولة التقريب بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة المصرية القديمة، وكان ذلك هو مفتاح الحل للمعضلة الرهيبة التى كان يواجهها احمد كمال ، لكن ذلك كان صعبا للغاية .

نعم ، لم يجد أحمد كمال حلا سحريا لذلك سوى التقارب اللغوي بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية .. وعليه ذهب أحمد كمال إلى ذلك المدخل العقلانى لحل شفرة ذلك التناقض ، وساعده فى ذلك إبحاثه المتعمقة فى هذا الشأن . واشتعل حماس كمال وأخذ ينادي بذلك التقارب ويؤكد عليه في مقالاته وأبحاثه باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية أملاً في اكتساب أرضية أوسع من المتحمسين للآثار المصرية من قبل المصريين وبعض الأوربيين خاصة الألمان . وأخيرا إهتدى أحمد كمال إلى مشروعه الهام للغاية وهو الترويج لفكرة وحدانية الديانة المصرية التى تنادى بأن الله واحد لا شريك له ، وهو ما بشر به إخناتون الذى وضع خريطة لنشر ديانة التوحيد بواسطة أسفاره حول العالم ، وعلى هدى خريطته طاف شتى بقاع أراضى العهد القديم لنشر دينه الجديد  فى عام 1360 قبل الميلاد . وتلك الديانة هى القريبة الشبه مع الله الواحد الأحد فى الإسلام والمسيحية واليهودية . وقد ساعد أحمد باشا كمال فى ذلك العمل الشاق صديقه وأستاذه السابق الألمانى هنرى بروجش(يذكر أن العالم الألمانى هنرى بروجش يعد من كبار الأثريين في العالم، ومن رواد العارفين باللغة المصرية القديمة، وله بحوث جيدة في تاريخ مصر وجغرافيتها القديمة، بالإضافة إلى بحوثه المتقدمة فى الإسلام ، ومن خلال بحوثه تلك توصل إلى أن بعض صفات آمون وبتاح تتطابق مع أسماء الله الحسنى في الإسلام، وأن هناك تطابقا كبيرا بين ديانة التوحيد التى نادى بها إخناتون وبين الديانات السماوية الثلاث أى اليهودية والمسيحية والإسلام) . وعليه حقق أحمد كمال وبروجش نجاحا ساحقا فى التقارب العقلاني بين ديانة إخناتون والديانات السماوية الثلاث . (نشير هنا إلى أن أمنحتب الرابع الشهير بـ إخناتون حكم مصر فى الفترة من 1379 حتى 1362 قبل الميلاد ، وكان ينتمى إلى الأسرة الثامنة عشرة، وهي أول أسر الدولة الحديثة التى عرفت بعهد الإمبراطورية.  وضمت هذه الأسرة بعض الفراعنة المشهورين في التاريخ منهم أحمس الأول، وتحتمس الأول حتى الرابع، بالإضافة إلى إخناتون وتوت عنخ آمون).   وطبقا لترجمات أوراق البردى التى قام بها كل من احمد كمال وبروجش تبين أن إخناتون هو أول من عمل على جمع المعلومات الخاصة بديانة التوحيد ممن سبقوه من المصريين بنحو ألف عام ووضع أسس أركان ديانة التوحيد القائمة على أن الله واحد لا شريك له فى الملك . وقد ذكر فى أوراق البردى أن إخناتون هو الملك النبي الذى وهبه الله من العلم والحكمة ما لا يعرفه أحد .. وشخصيته كانت ثرية للغاية ، فقد كان مفكرا وعالما وفيلسوفا وفارسا ، وبطلا ملحميا ، وشاعرا له كاريزما مؤثرة تأثيرا شديدا على كل من يحاوره ومؤسس أول مدينة فاضلة عرفها الكون الأرضى ، لذلك كله أطلق عليه الملك النبى .  لم تكن السلطة عند أخناتون غاية، بل وسيلة لبعث عبادة الله الأحد ، لذلك واجهته مصاعب ومتاعب عديدة من المعارضين لدينه الجديد ، فقد وقفت الكهنة وقادة الجند ضد رسالته واخذوا يؤلبون الرأي العام ضد رسالته التوحيدية التى أخذ ينشرها فى مصر أولا ثم  في بقية أقطار الدنيا القديمة .  ولقد توصل أحمد كمال إلى أن أخناتون لم يكن ملكا مصرياً صاحب رسالة محلية ، بل عالميا، انتشرت تعاليمه ومبادئه فيما يتعدّى العالم القديم، لتصل إلى الجنوب الأفريقى حيث زيمبابوى حاليا وإلى جزر المحيط الهندى والهند الصينية  ثم إلى غرب العالم القديم حيث أوربا الحالية ثم جنة العالم القديم وهى أواسط أمريكا حيث المكسيك وما يجاورها . فلقد أنجبت مصر لها وللعالم أجمع ملكا نسيج وحده، لم يأبه للجاه والمجد والسلطان، وبذل قصارى جهده لإعلاء شأن الإصلاح الديني  . إستطاع إخناتون (الذى حكم مصر فى الفترة من 1379 حتى 1362 قبل الميلاد) أن يغير ديانة آمون بمعبده فى العاصمة طيبة بجنوب مصر  (محافظة الأقصر حاليا) ، إلى ديانة آتون (الشمس) ولكن ليس الشمس فى حد ذاتها وإنما تلك القوة القاهرة التى خلقت الشمس وجعلتها تبعث الحياة إلى شرايين الإنسان والحيوان والنبات وكل شىْ على سطح الكوب الأرضى وما يجاوره من كواكب وعوالم أخرى . وقد نقل إخناتون عاصمة الدولة إلى منطقة أخيتاتون (تل العمارنة الموجودة حاليا بمحافظة المنيا التى تقع شمال العاصمة طيبة بجنوب مصر).

وإخناتون، ذلك الملك النبى ينتمى إلى جنوب مصر التى تمثل الجسر المصرى لشعوب القارة الأفريقية كلها التى تطلق عليه النبى  الأسمر كان ولا يزال يمثل الثراء الدينى لكل شعوب الأرض ، وله حضور طاغ منذ ذلك العهد القديم وحتى الآن.  (نذكر فى هذا الخصوص أن رحلة أحمد زكى عبد الله " شيخ المثقفين المصريين" مع العالم الألمانى بروجش إلى أوربا للكشف عن الآثار المصرية التى سرقت فى عام 1881م  كانت تعد بمثابة نقطة تحول ، حيث قرر زكى تبنى إعادة تسليط الضوء على رحلة إخناتون التبشيرية التى قام بها حول العالم القديم والتى وافق عليه الخديوى عباس حلمى الثانى فى عام 1891 ، للمزيد أنظر أحمد زكى عبد الله شيخ المثقفين المصريين).   وقد أشار أحمد باشا كمال إلى تلك الخريطة التى وضعها إخناتون لرحلات التبشير التى شملت  الإتجاهات الأربع ، فقد إتجهت المجموعة التبشيرية الأولى إلى الجنوب وشقت طريقها إلى القارة الأفريقية حتى جنوب إفريقيا وتحديدا دولة زيمبابوى الحالية ، والمجموعة الثانية إتجهت إلى الشمال بقيادة إخناتون نحو فلسطين الحالية وأراضى ثغور لبنان التى كانت مقصد المصريين دائما لجلب خشب الأرز التى تستخدم فى صناعة السفن والمراكب الضخمة حيث التواجد المصرى الفرعونى الأوسع إنتشارا فى منطقة جبيل (الجنوب اللبنانى حاليا). وفى جبيل قام إخناتون بصنع عدد من المراكب وقسم أفراد رحلته التبشيرية إلى جزئين ، الأول أخذ طريقه إلى الجنوب الأوربى حيث أثينا وبيريه ومنها إلى روما  والبوسنة والهرسك(حاليا) حيث توجد آثار فرعونية وأهرامات بتلك المناطق ، ثم إلى الغرب الأوربى حتى  وصولوا إلى منطقة بريتانى بشمال فرنسا التى توجد بها صخور الكوارتز المصرية التى نقلت إلى هناك قبل رحلته التبشيرية (لا زالت موجودة حتى الآن) لإستخلاص  الذهب منها وإستعماله فى الطقوس المصرية ، ويلاحظ أن إتجاه تلك الصخور  يشير من الشرق إلى الغرب بإتجاه جنة الأرض الجديدة أى أمريكا (التى وجدت بها آثار فرعونية وأهرامات لازالت موجودة حتى الآن فى المكسيك). أما الجزء التبشيرى الآخر بقيادة إخناتون فقد أخذ طريقه بإتجاه الشرق إلى داخل سوريا التى كان بها  أكبر تجمع مصري قدم من عهود سابقة أى ما قبل عهد الملك تحتمس الثالث الذى حرر سوريا من أمراء آسيا وإنتصر على أمير قادش بسوريا فى عام 1479 قبل الميلاد فى موقعة مجدو بفلسطين.  ثم أخذ إخناتون طريقه إلى شعوب ما بين النهرين(العراق حاليا) للتبشير ، وفى تلك المنطقة ذهبت مجموعة تبشيرية قاصدة الخليج الفارسى (العربى حاليا) حتى وصلت إلى جزيرة البحرين (دولة البحرين حاليا التى توجد بها آثار مصرية حتى اليوم) . أما القسم الآخر فقد أخذ طريقه بقيادة إخناتون إلى شبه الجزيرة القديمة (العربية حاليا) حيث تنتشر اللغة المصرية القديمة بقوة فى المناطق المتاخمة للبحر الحمر ومناطق مكة والمدينة وغيرها منذ ما قبل عهد الأميرة المصرية هاجر زوجة سيدنا إبراهيم (ص) وأم سيدنا إسماعيل(ص) التى عاشت بتلك المنطقة وعملت على نشر اللغة والثقافة والصناعة والتعليم المصري منذ عام 1950 قبل الميلاد وقد ساعدتها فى ذلك البعثات المصرية التى كانت تأتى ضمن رحلات التجارة المصرية بتلك المناطق وكذلك المناطق الأخرى التى قصدت عدن ، ومنها إلى المحيط الهندى قاصدة الهند والصين ومعها الحملات التبشيرية التى أرسلها إخناتون إلى تلك المناطق الأسيوية. ويعتقد أن إخناتون مات أثناء دعوته لدينه الجديد  خاصة وأنه لم يعثر على جثته فى مصر حتى الآن ، وتشير بعض الدراسات إلى أنه مات فى مكان ما فى أراضى الهند الصينية ولكن هذا ليس مؤكدا.

أما ردود الفعل الأوربية حول ما أعلنه أحمد كمال فقد تمثل فى نقد دراساته ، بل والتشكيك فى صحتها ، على الرغم من أن تلك المحاولات النقدية الأوربية لم تكن مبنية على منطق عقلانى وإنما على حقد وكراهية ضد الحضارة الفرعونية .  وقد أخذ الجانب الأوربى المعارض يتصاعد ويدعمه التيار الدينى المتمثل فى رجالات الأزهر الذين تحالفوا مع الأوربيين ضد فكر النخبة المصرية المتمثل فى احمد كمال ورفقائه ، وهو ما نال من كل من أحمد كمال وبروجش إلى أبعد مدى .

(ثانيا) خلافات حول مصطلح اللغة القبطية:

من البداية أكد أحمد باشا كمال أنه ليس هناك لغة قبطية وإنما يوجد فقط لغة مصرية قديمة ، وقد إستخدم الإغريق مصطلح "أقباط" على كل المصريين الذين يعيشون على أرض مصر وذلك قبل ظهور المسيح والمسيحية بنحو خمسمائة عام على الأقل، ومن ثم فكلمة أقباط ليس لها صلة مطلقا بالمسيحية) . وفى أبحاثه أكد أحمد كمال أنه عادة ما يخطىء بعض الكتاب ويطلقون مصطلح اللغة القبطية بدلا من اللغة المصرية القديمة، والحقيقة أنه لا توجد لغة قبطية ، فاللغة العامية المصرية القديمة ظهرت قبل ظهور المسيحية بعقود عديدة ، وبعد ظهور المسيح وإنتشار المسيحية ترجم رجال الدين المسحيى الكتاب المقدس"الإنجيل" إلى تلك اللغة المصرية القديمة وإستخدمت فى إقامة شعائرهم الدينية داخل المعابد الفرعونية بنفس الطقوس الفرعونية (يرفض العديد من المسيحيين المصريين الأرثوذكس الإعتراف بذلك) ، وبذلك تحولت المعابد الفرعونية إلى ما يشبه كنائس فى عالمنا المعاصر .

وهنا نتسائل: كيف تم ترجمة لغة الكتاب المقدس إلى اللغة المصرية القديمة؟ . وإجابة ذلك تتمثل فى الآتى: فى أوائل القرن الثانى الميلادى قام أحد أساتذة مدرسة الإسكندرية بمصر ويدعى بنتينوس بترجمة الكتاب المقدس للمسيحية إلى اللغة المصرية القديمة بعد أن إستعار حروف اللغة اليونانية القديمة البالغ عددها 24 حرفا وأضاف إليها سبعة أحرف من اللغة الديموطيقية وهم(حرف "شاى" و"فاى" و"خاى" و"هورى" و"جنجا" و"تشيما" و"تى" ). وبهذا ظهرت للغة المصرية شكل جديد ولكن بنفس صوتيات اللغة المصرية القديمة، وبناء على هذا الشكل الجديد فقط وليس الجوهر إدعى بنتينوس أنه وضع لغة جديدة وأطلق عليها اللغة القبطية ، ونؤكد للمرة الثانية أن كلمة القبطية هنا لا تعنى مطلقا المسيحية وإنما تعنى المصرية .

ويلاحظ هنا أن ما سعى إليه بنتينوس من تغيير لشكل اللغة المصرية القديمة الثلاثة (الهيروغليفى والهيراطيقى والديموطيقى) إلى اللغة اليونانية "الإغريقية" كان الهدف منه سياسيا وتجاريا وهو التقرب إلى الجالية الإغريقية المصرية الأكثر ثراءا ونفوذا فى مصر وأوربا  فى ذلك الوقت ، إضافة إلى أنه كان يبغى الإنتشار الواسع للثقافة المصرية عبر أوربا وخاصة عبر الثقافة المسيحية ذات الطقوس الفرعونية والتى وجدت طريقها بالفعل إلى المسيحيين فى أوربا . بعد ذلك دخلت على اللغة المصرية القديمة مفردات وتعبيرات إغريقية يونانية خاصة فى العصر البيزنطى . ونلاحظ هنا أن التجربة المصرية فى أوائل القرن الثانى الميلادى أخذت بها تركيا فى القرن التاسع عشر(أى بعد 17 قرنا)  عندما قام الزعيم التركى مصطفى كمال أتاتورك بتغيير شكل اللغة التركية إلى الشكل اللاتينى  المعمول به اليوم فى تركيا دون المساس بصوتيات اللغة التركية القديمة) ، للمزيد أنظر أحمد باشا كمال أول من ربط اللغات اللاتينية والعربية والعبرية باللغة المصرية الأم.  

 ( ثالثا ) قاموس اللغة الهيروغليفي وربطه باللغات العربية والفرنسية والعبرية: 

هو أعظم ما كتب على الإطلاق فى ربط العالم القديم بالحديث خاصة وأن أحمد باشا كمال عمل على وجود علاقة مباشرة وقوية بين مصر القديمة ومحيطها من الشعوب المجاورة والبعيدة عنها فى شتى أرجاء العالم . ويعتقد أن ذلك القاموس كان ضمن أحد الأسباب الرئيسة التى بسببها  أغتيل أحمد باشا كمال على يد أحد السعاة الذى كان يعمل لديه فى مكتبه بشبرا (أحد ضواحى القاهرة ) .  ويذكر فى هذا الِشأن أن أوراقا كثيرة سرقت من بعض أجزاء ذلك القاموس البالغ عددها 22 مجلدا  لأسباب غير مفهومة حتى الآن .   ويعد هذا المعجم أو القاموس أهم ما كتبه أحمد باشا كمال من مؤلفات وأكد فيه على ربط اللغة المصرية الأم بفروعها التى خرجت منها مثل العربية والعبرية والآرامية والحبشية واللاتينية وغيرها . ويذكر أن هذا المعجم لا يزال مخطوطا لم ير النور بعد لأسباب غير مفهومة أيضا ، ويعتقد بما لا يدع مجالا للشك أنها أسباب سياسية لعب فيها الفرنسيين والإنجليز وبعد ذلك الملك السعودى فيصل دورا رئيسا لمنع القاموس من الظهورحتى لا يؤثر تاريخيا على هوية اللغة العربية . ويقع القاموس في 22 مجلدا، ويجمع مفردات اللغة المصرية القديمة وما يقابلها بالعربية والفرنسية والعبرية.

والمعجم وليد دراسات متعمقة للمؤلف الحصيف أحمد باشا كمال ، وهو يشير إلى أن هناك صلات بين اللغة المصرية القديمة واللغات السامية عامة، وخصوصا العربية والعبرية . وكان لتمكن أحمد كمال من اللغات المصرية والسامية أثر كبير في تتبع الفكرة وتأصيلها. وقد أشير إلى هذه الصلة في محاضرة له ألقاها بنفسه في مدرسة المعلمين الناصرية سنة 1914 الموافق (1332هـ) حيث قال:   " إن كثرة مطالعتي في اللغة المصرية القديمة منذ كنت في الثامنة عشرة من عمري(1869م) إلى أن بلغت الستين(1911م) مهّدت لي سبيل الوصول إلى اكتشاف غريب ومفيد للغاية ، ألا وهو أن اللغة المصرية القديمة هى اللغة الأم واللغة العربية(الفرع) من أصل واحد، لكن ما حدث من إختلاف طفيف فى العربية هو ما دخلها من إبدال نتيجة لألسنة مختلفة ومفردات لغات ولهجات أخرى عليها ، كما حصل في كل اللغات القديمة" . وهنا يؤكد أحمد باشا كمال على قصة زواج سيدنا إبراهيم (أبو الأنبياء) الذى ذهب إلى مصر ومعه زوجته سارة أملا فى تطبيبها(علاجها بواسطة أطباء مصر كى تنجب له ولدا لأنها كانت عاقرا) ولما إستعصى ذلك لم يترك مصر بل ظل بها قرابة خمس سنين (تشير بعض الدراسات إلى قرابة عشر سنين) تعلم خلالها سيدنا إبراهيم الكثير من عادات وتقاليد وثقافة وفنون وطرز معمارية ساعدته بعد ذلك فى بناء الكعبة، كما تعلم الكثير من العبادات وإطلع خلالها على ديانة التوحيد التى ظهرت بمصر فى عام 2200 قبل الميلاد ولكن لم تكن لها حضور نظرا لرفض كهنة آمون لها (وبالطبع خلال تلك السنوات الطويلة التى قضاها سيدنا إبراهيم فى مصر كان يتحدث وزوجته اللغة المصرية وبطلاقة شديدة وإلا ما كان له ليستمر فى مصر طوال تلك السنوات)، وحينما قرر سيدنا إبراهيم ترك مصر ومعه زوجته سارة وهبه قائد مصر أميرة مصرية غاية فى الجمال والروعة تم أسرها فى الحروب بين الشمال والجنوب المصرى وتدعى هاجر وكانت ذات ثقافة عالية فى شتى المجالات . ولما رحل إبراهيم ومعه سارة وهاجر ووصلا إلى الجزيرة القديمة (العربية حاليا) أنجبت الأميرة هاجر أبنها إسماعيل ، لكن سارة رفضت هاجر وإبنها أسماعيل وأصرت على قتل الأم وطفلها الوليد ، ولما لم يفلح سيدنا إبراهيم فى إثناءها عن ذلك إضطر إلى أخد هاجر ورضيعها إسماعيل وتركهما فى الصحراء القاحلة ، لكن بفطنة هاجر وذكائها وثقافتها العالية إختارت مكانا قريبا من المدكات التى يسير عليها التجار القادمين من مصر إلى شبه الجزيرة القديمة والقريبة من البحر الأحمر وتعرف التجار المصريين على الأميرة المصرية إبنة أحد ملوك جنوب مصر وعلى أثر ذلك إلتف حولها المريدون من مصر وغيرها ، وبدأت تربى وليدها فى ذلك المكان وبمرور الوقت حظيت الأميرة بشهرة واسعة وأصبح المنطقة التى تعيش فيها مكانا يقصده الجميع للشراء والبيع فى التجارة  المصرية. وفى ذلك المكان إنتشرت اللغة المصرية القديمة كالنار فى الهشيم ، وعن طريق أولئك التجار إستقدمت الأميرة المصرية هاجر من مصر المعلمين والمهندسين والمفكرين لتثقيف طفلها إسماعيل (ذلك المكان كان قريبا من الكعبة التى بنيت فيما بعد بأيدى عمال ومهندسين مصريين إستقدمتهما هاجر من مصر ، وتم البناء تحت إشراف سيدنا إبراهيم) . هذه القصة تشدد على أن اللغة المصرية القديمة كانت الأكثر والأوسع إنتشارا بين شعوب مناطق الحجاز وعدن وغيرها فى شبه الجزيرة القديمة(العربية حاليا) .    

بالعودة إلى معجم أحمد باشا كمال، فقد بدأ فى كتابته منذ عام 1894 (أى فى عهد الخديوى عباس حلمى الثانى الذى شجعه كثيرا على المضى قدما ) وقد إستغرق إنجازه كاملا نحو عشرين عاما متواصلة من العمل الجاد المضني ، والبحث العميق، وأسفر عن كتابة 22 جزءا من القطع الكبير، وقد تجاوز بعض هذه الأجزاء الألف صفحة. وتضمن كل جزء (تقريبا) شكل أحد الحروف الهيروغليفية(يذكر أنه أنتهى من العمل فيه فى 1914 وهو العام الذى ترك الخديوى عباس حلمى الثانى حكم مصر وخلفه السلطان حسين كامل بعد المؤامرة البريطانية للتخلص منه).   وفى هذا المعجم أقام أحمد باشا كمال منهجه على وضع رسم الحرف الهيروغليفي أولا  والحرف الصوتي له ، ثم ما يقابله في اللغة الفرنسية والعربية ، وما يقابله أيضا من اللغات الأخرى كالمصرية العامية القديمة (التى كتبت بأحرف يونانية)  والحبشية والآرامية والعبرية. ومن أمثلة الكلمات المصرية القديمة ومرادفاتها من العربية كلمة:

حنت: الحنطة،  وترا: ذرة،   زت: زيت،   زدتو: الزيتون. (يكتب هنا مفردات اللغة القديمة والعربية(للمزيد أنظر أحمد باشا كمال لنفس المؤلف).    وبعد الإنتهاء من كتابة المعجم تقدم به أحمد باشا كمال إلى وزارة المعارف المصرية لطبعه على نفقتها لكن الوزارة أحالت جزءًا منه إلى مدير المطبوعات وكان فى ذلك الوقت رجلا إنجليزيا، فأحاله إلى كبير الأمناء بمصلحة الآثار وهو عالم بريطانى يدعى " فرث" لإبداء الرأي فى ذلك العمل الضخم فأشرك فرث معه عضوين آخرين : أحدهما أمريكي، والآخر فرنسي يدعو "لاكو" ، وبعد فترة من الوقت جاء رأي اللجنة مخيبا للآمال حيث رفضت طبعه بحجة عدم وجود التمويل اللازم لطبعه، وأهمل طبع المعجم . لكن أكتشف أحمد كمال بعد ذلك أختفاء النسخة المقرر طبعها والتى حصل عليها فرث ولم يعرف من كان وراء ذلك الإختفاء حتى كتابة هذه السطور (يعتقد البعض أن هذه النسخة فى باريس ، والبعض الآخر يؤكد أنها فى لندن ، وهناك من يقول ان مكتبة الكونجرس الأمريكية حصلت عليها، لكن لا أحد يعرف الحقيقة) .    الشىء الهام هنا أن ذلك العمل الجبار لو نشر فى ذلك الوقت لكان سيدحض نظريات الاستشراق والتغريب التي وجهها المستشرقون إلى الحضارة المصرية القديمة فى ذلك الوقت وإستمرت حتى الآن .

رابعا:محاربة مشروع الربط بين الثقافة المصرية القديمة والعربية الحديثة:    بعد الإعلان عن طبع مشروع معجمه الضخم مباشرة تطور الهجوم الأوربى بشكل حاد ضد ذلك مشروع آخر لأحمد باشا كمال الذى حاول فيه الربط  بين الثقافة المصرية القديمة والعربية من خلال مفردات لغتيهما بإعتبار أن العربية أحد أفرع اللغة المصرية القديمة .. وهو التوجه الذي كانت تهابه العقلية الأوروبية وتخشاه فى ذلك الوقت. والسبب فى ذلك أن الأوربيين يرون أنه فى حال نشر هذا المعجم وكشف ربط اللغات السامية المختلفة باللغة المصرية الأم ، فإن ذلك يعنى البحث فى الخطوات التالية وهى: أولا الربط اللغوى والثقافى بين الدولة الأم وسائر الشعوب التى تتحدث اللغة السامية.  ثانيا: الربط العضوى بين شعوب تلك اللغات بالدولة الأم وهو ما يعنى إعادة التوازن الشعبى فى تلك المنطقة والمناطق المجاورة لها أى إعادة القوة فى أيدى شعوب الشرق القديم ، وهو ما يؤثر سلبا على نفوذ الغرب الأوربى فى ذلك الوقت .  لذلك كان لابد من القضاء على ذلك ذلك المشروع الثقافى الشرق أوسطى بزعامة مصر من جديد . وحتى يتم التخلص نهائيا من ذلك المشروع المؤثر سلبا على المصالح الأوربية الغربية كان لابد من إتباع وسيلتين هما : (1)القضاء نهائيا على فكرة البعث الثقافى التى تقودها النخبة المصرية المثقفة.   (2) التصفية الجسدية لرموز الثقافة الوطنية والإقليمية فى مصر.

وبالفعل نجحت الخطة الفرنسية الإنجليزية فى تدمير مشروع البعث الثقافى والإقليمى المصرى وذلك بالآتى:

1-    إختفاء النسخة الأصلية لمعجم اللغات المصرية القديمة الذى قدمه أحمد باشا كمال  لوزارة المعارف التى كان يسيطر عليها الإنجليز والفرنسيين والأمريكيين. وقد إعتقد هؤلاء انها النسخة الوحيدة التى يمتلكها احمد كمال( لذلك كتب نسخة ثانية وأخفاها بعيدا عنهم وعن عيونهم).

2-    الترويج لنشر شائعة أن عرب الدول المجاورة لمصر خاصة  القبائل العربية التى قدمت من الجزيرة العربية وإحتلت جنوب مصر منذ الغزو الإسلامى ما هم إلا عرب أجلاف ثقافتهم قائمة على العنف والقسوة والقتل وأن دمهم يحمل تلك الصفات الوراثية العنيفة أبا عن جد، وأن أشعارهم وثقافاتهم تؤكد ذلك. ومن ثم لن يكون لشعب مصر صاحب الثقافة والحضارة الضاربة فى عمق التاريخ أى إرتباط مع تلك الشعوب المضطربة نفسيا ، ومن ثم يجب الفصل أولئك العرب الأجلاف والمصريين الذين لهم رباط تاريخى طويل مع أوربا.

3-    العمل على تصفية بعض العناصر التى تحمل فكر شعوبى يسعى إلى  ربط مصر بمن حولها خاصة على الصعيد الثقافى، وهو ما حدث بعد ذلك مع أحمد باشا كمال وغيره.

من وراء إغتيال أحمد باشا كمال ؟:

فى يوم الأحد الموافق 5 أغسطس عام 1923 وبينما كان أحمد باشا كمال يعمل بمكتبه بشبرا فى  تنقيح قاموسه الأشهر الخاص باللغة المصرية القديمة وما يقابلها من اللغات العربية والفرنسية والعبرية، طلب كمال من ساعى مكتبه أن يحضر له فنجانا من القهوة التركى ، ولما أحضره الساعى وشربه أحمد كمال ، شعر بعد وقت ليس بالقصير بصداع ومغص شديدين ، فاضطر إلى أخذ راحة على أريكة فى مكتبه لكن الصداع والمغص إشتد أكثر فأكثر بمرور الوقت . وهنا طلب أحمد كمال من أحد معاونيه أن يحضر له عربة لتقله إلى منزله الواقع  بجوار أهرامات الجيزة  ، وهو ما حدث بالفعل .   ولما وصل إلى داره شرع فى تغيير ثياب النهار بلبوس الليل والنوم لكنه لم يستطع ذلك ، وحاول صديق له مساعدته وبعض أولاده وأثناء ذلك خر ميتاً.  كان ذلك في الساعة العاشرة من مساء الأحد 5 أغسطس من عام 1923م (الموافق 22 من ذى الحجة 1341هـ )، وكان لونه شاحبا يميل قليلا إلى الزرقه وهو ما جعل الطبيب الذى قدم للكشف عليه أن يشك فى أنه مات مسموما ، لكن العائلة حاولت إخفاء ذلك لعدم تشريح الجثة ، وإيمانا بأن إكرام الميت دفنه وهى مقولة مصرية توارثها المصريون عبر العصور. 

كانت أصابع الإتهام تشير إلى ذلك الساعى بمكتبه الذى صنع له فنجانا من القهوة التركية راح بعده احمد كمال فى معاناة بين مغص وصداع شديدين. كان ذلك الساعى ينتمى إلى جنوب مصر من بلدة أسيوط وقد حل جديدا للعمل ساعيا بمكتب أحمد كمال بدلا من زميله الذى ترك مكانه للسفر ورؤية أسرته . ويبدو أن ذلك كان متوافقا عليه، فالساعى الذى صنع القهوة كان من المتشددين ، بينما الذى ترك العمل كان شخصا غير متشدد . وإذا كان الأمر قد تم التخطيط له من قبل، فمن يكون وراء ذلك ؟ هل هم المتشددون ، أم الأوربيون وخاصة الفرنسيون؟ . لم يكن لأحمد باشا كمال خلافات جانبية مع أحد بل كان وطنيا حتى النخاع ، وعليه بقى التساؤل قائما حتى الآن ، ألا وهو: من وراء إغتيال أحمد باشا كمال؟ . وهكذا توفى أحمد باشا كمال عن عمر يناهز الثانية والسبعين بعد أن ترك خلفه أثراً واضحاً فيمن حوله، خاصة تلامذته الذين يعتبرون رواداً في علم الآثار ومن هؤلاء:  محمود بك ودكتور حسن بك كمال ثم ابن أخته محمد بك شعبان وسليم حسن وسامي جبرة وشفيق غربال و غيرهم .  

تقدير مجهودات أحمد كمال:  

حصل أحمد كمال – تقديراً لمجهوداته في مجال الآثار على وسام (نيشان) عثماني من الدرجة الرابعة ثم الثالثة ، وكذلك النيشان المجيدي من الدرجة الثالثة .   بالإضافة إلى حصوله على نوط (ميدالية) المجمع العلمي المصري ، والرتبة الثانية المتمايزة مع لقب بك.. وقبيل وفاته (أي بعد تقاعده بسنوات) حصل على رتبة ميرميران (أي الباشاوية) .  وفى جميع الأحوال يوصف أحمد كمال بالرائد التنويري وأسطورة الآثار المصرية والأب الروحي للأثريين المصريين!! .

أما عن أهم مؤلفاته: فقد ألف أحمد كمال عددا كبيرا من الكتب باللغة العربية والفرنسية، منها:

1-"العقد الثمين في محاسن وأخبار وبدائع آثار الأقدمين من المصريين"، ويقع في 224 صفحة.. تناول فيه تاريخ مصر الفرعونية بإيجاز، مع الاهتمام بالنواحي الحضارية.

2-"الفوائد البهية في قواعد اللغة الهيروغليفية"، وهو كتاب كبير تناول فيه قواعد تلك اللغة وأصولها وطريقه كتابتها، وسار في تبويبه وتنظيمه على أسس قواعد اللغة العربية ليسل قراءتها وفهمها ، وتناول في نهاية الكتاب خطوط اللغة المصرية القديمة، ووضع قاموسا صغيرا للكلمات الهيروغليفية(أى المصرية القديمة) المهمة ومعانيها والنطق القبطي لها (أى اللغة المصرية القديمة التى إستخدمت حروفا إغريقية يونانية) .

3-" اللآلئ الدرية في النباتات والأشجار القديمة المصرية"، وهو معجم للنباتات القديمة، مرتب حسب الحروف الأبجدية، وبه أسماء النباتات باللغة المصرية القديمة ، ومرادفاتها باللغتين العربية والفرنسية.

4-" بغية الطالبين في علم وعوائد وصنائع وأحوال قدماء المصريين"، ويقع في 584 صفحة من القطع الكبير، وهو مزود بثلاثمائة رسم توضيحي، تناول فيه علوم قدماء المصريين من طب وفلك ورياضية ونبات وحيوان.

5-" ترويح النفس في مدينة الشمس والمعروفة الآن بعين شمس"، تناول فيه تاريخ المدينة وأسماءها القديمة ومعابدها، ومعبوداتها وآثارها وأطلالها الحالية.

6- " الدر النفيس في مدينة منفيس"، وهو كتاب صغير تحدث فيه عن تأسيس المدينة في عهد مينا، وأسمائها القديمة وأقاليمها وتاريخها.

7- " الحضارة القديمة في مصر والشرق"، وهو عبارة عن مجموعة المحاضرات التي ألقاها في الجامعة المصرية الأهلية.

8- وله بالفرنسية كتابان يدخلان في نطاق الفهرست العام للمتحف المصري الذي اشترك فيه عشرات العلماء، ولا يزال حتى الآن من أهم مراجع الآثار المصرية.

9-  له ستين دراسة بالفرنسية تتناول بحوثا حول مصر القديمة فى الدين واللغة والتحنيط وغيرها.

10- قاموس اللغة المصرية القديمة: وهو أعظم ما كتب على الإطلاق حول مصر القديمة، ويعتقد أنه أغتيل بسبب ذلك العمل الجبار، وقد سرقت منه بعض الأوراق لأسباب غير معروفة حتى الآن . ويعد هذا المعجم أهم ما كتبه أحمد باشا كمال من مؤلفات ، ولكنه لا يزال مخطوطا لم ير النور بعد، ويقع في 22 مجلدا، ويجمع مفردات اللغة المصرية القديمة وما يقابلها بالعربية والفرنسية والعبرية.