رحيل الوطني الكبير موسى عيسى سابا

فقدت مدينة غزة اليوم الاثنين 22 شباط/ 2016م أحد أبنائها البررة، الوطني الكبير موسى عيسى سابا، (أبو عيسى) رجل المروءة، مدير جمعية الشبان المسيحيين.

وكان من حسن طالع الجمعية أن يتولى إدارتها عام 1976م الذي جدد عمرانها، وشيدَّ مبانيها، وجهز ملاعبها الكبيرة، وأنشأ روضةً فيها للأطفال تُعرف إلى يومنا هذا، إنَّ نجاح السيد موسى سابا في عمله، كمدير عام للجمعية بالمستوى الذي نعرفُه، لم يكن وليد الصدفة، وإنما يرجع ذلك لما اتصف به من أخلاق حميدة، ومن محبته لأهله وبلده، وكلنا نعرف المكانة المميزة التي كان يحتلها في قلوب آلاف الغزيين الذين عرفوا مروءته ووفاءه وحسه الوطني الصادق؛ حتى في ربوع الجمعية نفسها، لم تجتمع أو تتفق في يوم كما أجمعت عليه.

لقد جئت إلى الجمعية في هذا المكان الجميل المليء بالفرح والسرور في المرة الأولى، وأنا في ميعة الشباب، فكانت مقراً لانعقاد الندوات الثقافية، والمؤتمرات السياسية، والمخيمات الصيفية، والرقص الفولكلوري، والألعاب الرياضية ولعبة الشطرنج، وتعاقبت أجيال كثيرة عليها، فكنت أرى الشباب في هدأة الصيف وهنائه ينشدون الجمعية، يتسامرون ويتحدثون ويلعبون ويدندنون.. كانت كبيرة مثل الحلم، مثل حجم الأشياء في عيون الأطفال.

دأبت على الذهاب إلى الجمعية، وفي رحابها التقيت بالسيد موسى سابا، (أبي عيسى) وهذه كنيته، وفي مرات كثيرة كنت أجلس إلى طاولته، وأقضي ساعة كاملة على الأقل برفقته، احتسي معه كأساً من اليانسون، وهو مشروبه المفضل، فقد كان طيباً ومسلياً، ترتاح للقائه، وجهه يوحي لك بالراحة والطمأنينة والتفاؤل، ورغم كوني الأصغر سناً، فإنني لم أتمكن من مجاراته في حبه لفلسطين الذي يترجمه دوماً إلى أفكار نيرة تلقى إعجاب المستمعين، ونشاط دؤوب، فالوطن في عينيه أيقونة يرى من خلالها سر الوجود الأبدي، فكأنه جسد قول الشاعر:

كأنك من كل النفوس مُرَكَبٌ   فأنت إلى كل النفوس حبيب

كنت أراه يمشي في ساحة الجمعية، وقد عقد يديه إلى ظهره، وكان واضحاً أنه يعيش حياة متواضعة، كما كان واضحاً أن عالمَه لا يتعدى الجمعية التي كرَّس لها جلَّ وقته وتفكيره، كانت له ذاكرة أرشيفية، ويتحدث في كل شيء، في الفلسفة والشعر والتاريخ والحياة، وربما كانت هذه طريقته للهرب من عبثية الحياة، وكنت أستمع إلى ذكرياته وحديثه الندي عن خبرة الدهر، وأمجاد التاريخ الغابر وتراث شعبنا العربي، ولا يمنحك الابتسامة إلا وقد علمك درساً إنسانياً ما، ويروي لك بكل هدوء وتواضع ورتابة عجيبة مئات الحكايات التي كتبها التاريخ، حتى صار الرجل، المديد القامة، الأبيض الشعر، الوسيم الكهولة، ظاهرة باسمة لي، وفصلاً من فصول الرواية اليومية عندي، وأصبح عقلي مكتظاً بالحكايات والذكريات التي يرويها أبو عيسى، كانت شخصيته المرحة طاغية، وكنت معجباً بها أشد الإعجاب، وأبادله علاقة الاحترام على الدوام.

وربما كان من المناسب أن أورد بعضاً من بديع حكاياته وقصصه، وهي غيض من فيض مما كان يرويها لي ببراعة، وكنت أكتبها في مفكرتي بعد عودتي للبيت، وأسوق منها القصص التالية:

القصة الأولى

عرفتُ سر الفشل والنجاح في الحياة عندما قصَّ عليَّ أن (أديسون) كان يقوم بتجاربه الخاصة بأحد اختراعاته، فلاحظ معاونوه في العمل أنه أجرى أكثر من مائة تجربة انتهت كلها بالفشل، ومع ذلك كان يصرّ على الاستمرار، وسألوه: ما فائدة هذه المحاولات؟ فقال: فائدتها أننا عرفنا أكثر من مائة طريقة لا تؤدي إلى الغرض المنشود.

القصة الثانية

عن فائدة الأعداء، فعندما سئل الإسكندر الأكبر عن أعدائه وأصدقائه قال: لقد استفدت من أعدائي أكثر مما انتفعت من أصدقائي، لأن أعدائي كانوا يعيّرونني، ويكشفون لي عيوبي، وبذلك أنتبه إلى الخطأ فأستدركه، أما أصدقائي فإنّهم كانوا يزينون لي الخطأ، ويشجّعونني عليه، فاللهم احفظني من أصدقائي، وإن في هذا عبرة للكبار وأولي الأمر!.

القصة الثالثة

عن شجاعة سُقراط، إذ اقترح أصدقاء سقراط – بعد أن حُكم عليه بالإعدام – أن يدبّروا له خطة للفرار، ولكنه رفض في إباء قائلاً: قد يقبل الإنسان أن يتنحّى عن عمله، أو ينزل عن رتبته، ولكن عليه أن يعلم أنه إذا كان في ساحة القضاء، فلا بدَّ أن ينفّذ قوانين الدولة وأحكامها وتعليماتها.

القصة الرابعة

عن وصية الملك كسرى أنو شروان، التي كانت منقوشة بالذهب الأبريز على قصره في عهد دولته، والتي يقول فيها: (اعلم أن الأيام صحائف الدهر مملوءة بالمدح والذم، فمن رزق منكم مالاً أو جاهاً فليطوّق بالمنن أعناق الرجال، وإن الغالب بالظلم مغلوب، وإن الغني بالحرام فقير، وإن الحجر المغصوب في الدار دليل على خرابها، وما ظفر من ظفر بضعيف، وأَكرمْ من له حسبٌ في الأصل، وقدِّمْ مَنْ فيه المروءة، فلا يغرَّنَّك تقلّبُ الزمان عليه، فإن الزمان كما يكسر يجبر، وكما يجبر يكسر، ويَبْقَى المُلك لله وحده).

ومهما أسهبتُ في الحديث عن (أبي عيسى)، فإنني سأظل مقصراً في سرد مزاياه الحميدة، وعطائه في سبيل الوطن، فالحديث عنه لا ينتهي، ومنَّ على هذا الشعب بالعديد من أمثاله. 

وسوم: العدد 656