الشهيد حسن عجيل

ما أحوج المسلمين في هذه الفترة من حياتهم التي يغالب اليأس فيها الرجاء، وتنتهي الآجال برادع الآمال، أن يعلموا بعض العلم عن سيرة شاب مجاهد، سمت به الهمة، ودفعه الإيمان، حتى حقق – على قلة من الوسائل- عملاً تمناه سابقوه ومعاصروه، فإن فيها ما يحيي موات الآمال في النفوس، وما يوقد جذوة الهمم في الضمائر، وما يفند الدعاوى الذائعة التي تثبط همم الشباب، عن أن مناط الأعمال ونتائجها، وقيامها وسقوطها رَهْنٌ بالقوى المادية وحدها.

تلك هي قصة الشاب المجاهد الشهيد حسن عجيل، تغمده الله وإخوانه الشهداء والمعتقلين والمطاردين، بفيض رحمته ورضوانه.

ولد الشهيد حسن عجيل عام 1959 في قرية (دير الجمال) التابعة لمنطقة إعزاز شمالي حلب، لأبوين صالحين، وأسرة عريقة في تدينها وكرمها، وانتقل مع أسرته إلى حلب ودرس في مدارسها حتى نال الشهادة الثانوية بتفوق، وانتسب إلى كلية الهندسة بجامعة حلب، وأمضى سنتين فيها، ثم اقتيد منها إلى المعتقل عام 1979 حيث أمضى فيه بضعة أشهر، تعرض خلالها لألوان من التعذيب.

عرف أبو شريف – وهذا هو الاسم الحركي الذي لزمه منذ التحق بالعمل الجهادي، وكان من قبل يدعى (أبا حسين) تيمناً بالشهيد عبد الستار الزعيم الذي كنا نطلق عليه هذه الكنية - عرف أبو شريف بحدة الذكاء، وميله إلى التدين منذ نعومه أظافره، فلفت إليه أنظار مدرسيه، فما كان من أحدهم إلا أن يستميله إليه، ويكسبه لصالح الحركة الإسلامية، ويعنى به عناية خاصة، يطلق له عنان التفكير ليسأل ويتساءل، وأستاذه عاكف على إذكاء روحه، وتربية عقله، والارتفاع به عن سفاسف الحياة التي يتعشقها بعض الطلاب، وتنمية وعيه، وإكسابه العلوم الشرعية، بتوجيهه إلى علماء الدين العاملين في حلب حتى إذا أنس منه معلمه السداد، وضمن تعلقه بأهداب هذه الدعوة، دفعه إلى بعض المهمات الخاصة، ليكشف له بعض العملاء على حقيقتهم ولم تمض بضعة أشهر حتى صار أبو شريف معقد أمل من أرسل إليهم، وتسلل إلى قلوبهم أملاً منهم في استخدام أبي شريف في تلك المتاهات.

واستمر الأمر على هذا أربع سنين إلى أن اعتقل شابان تدربا على يد أبي شريف، فاعترفا عليه تحت التعذيب الوحشي، ويصعق أحد العملاء عندما علم أن أبا شريف كان من الطائفة الظاهرة على الحق، ولم يكن من طينته السوداء.

وفي السجن ظهرت براعة أبي شريف في ضحكه على عناصر المخابرات، وتلاعبه بعقولهم، وعبثه بتحقيقاتهم، كما ظهر معدنه الأصيل في جرأته وشجاعته وخدمة إخوانه المعتقلين والذين هم خارج المعتقل، ودهائه بنقل التعليمات والأوامر اليومية داخل السجن وخارجه، يعاونه في ذلك أخوان كانا معتقلين معه وهما معروفان بنضالهما الطويل لدى قلة قليلة، وجنديان مجهولان لدى الكثرة الكاثرة.

ويخرج أبو شريف من المعتقل فيمن خرج عام ألف وتسعمئة وثمانين، يخرج من السجن إلى ساحة القتال مباشرة، يتصل بالشباب في حركة دائبة لا تعرف معنى للكلل أو الملل، يعيد تنظيمهم ويعبئهم، ويتصل بآبائهم، ويساعده طابعه الشعبي ودماثته وذكاؤه وحنكته في كسب قلوبهم، وينتقل بين حلب ودمشق، وبعض المحافظات الأخرى، يؤمن للمعركة احتياجاتها من الرجال والمال والسلاح والقواعد، وتعلم السلطة الباغية في دمشق، فتدفع عملاءها يتعقبونه حتى بلغت بها الوقاحة والتفاهة أن تضع أخاه المجند في مطار دمشق، تحت التهديد والوعيد، لعله يعينها في التعرف إليه، والقبض عليه، لأن أبا شريف كان ينتقل في أكثر من شكل وزي وعمر.

لقد كان أبو شريف مثال المجاهد المعطاء، يبذل من ذات نفسه ويده ووقته ما جعله في العيون الحسيرة مثال الغباء، لأنه لا يعرف معنى للأخذ، ولا يعرف معنى للراحة، لا يفكر بمستقبله المادي في هذه الحياة، ولا يحسب حساباً لما قد يصيبه فيما لو وقع في أيدي الظالمين الذين كانوا يتوعدونه بتقطيعه إرباً إرباً، وهو أبداً، تملأ الابتسامة محياه، والتفاؤل بإسقاط الحكم العميل في دمشق، وانتصار المجاهدين يعمر قلبه ونفسه، فيفيض ما ملأ جوانحه على كل من يلقاه من متفائلين ومتشائمين من رفاق الطريق. إلى أن جاد بنفسه عندما أحس بكمين كبير نصبه له أزلام السلطة في قهوة الشعار بحلب. قال لمرافقيه: أُنجوا بأنفسكم ودعوني أتعامل مع هؤلاء.. هيا امضوا بسرعة.. ونفذ إخوانه أمره، واشتبك مع عناصر السلطة، فقتل منهم من قتل، ثم سقط مغشياً عليه، متضرجاً بدمائه الطاهرة، ثم نقل إلى المستشفى، وهم يحرصون على حياته، لعلهم يعرفون منه كل شيء، ولكن أبا شريف خيب آمالهم، فكان الساطور يقطع له أصابع قدميه ويديه، فتتحرك شفتاه بكلمات مبهمات، هيهات أن يفهمها الزبانية العبيد، إلى أن قضى شهيداً تحت التعذيب في أواخر عام 1980 ولم يأخذ المحققون منه شيئاً.

لقد كان لاعتقال أبي شريف دوي هائل في صفوف المجاهدين في حلب ودمشق، ثم كان لاستشهاده بعد أيام من اعتقاله الدامي ذاك، وقعٌ أليم ورنة حزن في نفوس عارفيه، من تلاميذه ومسؤوليه الذين لم يحسوا بمثيلهما إلا عندما استشهد إبراهيم اليوسف، وعبدالله قدسي، وعدنان شيخوني في حلب.

هيه أبا شريف... صحيح ما كنت تقول:

من الأدعياء من برز في صورة القائد والشيخ للمجاهدين، وساعدته دعاية الأعداء، فصدقها الأصدقاء والبسطاء، ولكن..

لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا، ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، ولهم عذاب أليم.

واليوم.. يا أبا شريف.. يا شيخ حسن..

ترى هل وفَّيناكَ بعض حقك في هذه الكلمات القصار؟ وهل نبلغ كفاء ما أجرى الله على يديك النديتين من خير وفضل يا ابن الحادية والعشرين؟. إننا نبتهل إلى الله الكريم أن يجزيك على الجهاد والمجاهدين الجزاء الأوفى، بقدر ما يجزي عن الخيانة والخائنين وعديمي الوفاء من الجزاء الأوفى، وسلام عليك في عليين إن شاء الله، مع الشهداء: نهاد وعماد وبشار وماهر ومحمود وخالد وعلاء.. مع إبراهيم وعدنان وعبد الله ورامز.. وحسن أولئك رفيقاً. 

وسوم: العدد 692