البروفسور جارودي

د. عبد السلام البسيوني

وهل تذكرون البروفسور روجيه (رجاء) جارودي Roger Garaudy الذي كان شيوعياً، وطرد من الحزب الشيوعي سنة 1970 لانتقاداته المستمرة للاتحاد السوفييتي؟ والذي وجد نفسه منجذباً للدين لأنه كان عضواً في الحوار المسيحي الشيوعي في الستينيات، فحاول أن يجمع الكاثوليكية مع الشيوعية خلال عقد السبعينيات، ثم ما لبث أن اعتنق الإسلام عام 1982م متخذاً الاسم رجاء بعد أن أيقن أن الحضارة الغربية قد بنيت على فهم خاطئ للإنسان، وأنه عبر حياته كان يبحث عن معنى معين لم يجده، إلا في الإسلام.

وفي عام 1998 وجد غارودي مذنباً من قبل محكمة فرنسية بتهمة إنكار الهولوكوست في كتابه الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل، حيث أنكر الدعاوي اليهودية التي تقول إنهم أُحرقوا في غرف الغاز على أيدي النازي.

إن جارودي رغم كونه أوربياً ذو نقد لاذع للرؤية الحضارية الغربية؛ ففي محاضرة له عن حتمية الحل الإسلامي (أعدها للنشر الأستاذ عبد الباقي خليفة) يتحدث عن نتائج الحضارة الغربية فيقول: إننا بعد خمسة قرون من سيادة الغرب سيادة تامة بدون منازع يمكن تلخيص نتائج حضارته فيما يلي:

1- على الصعيد الاجتماعي: لقد صرف للتسلّح على سطح هذه الكرة الأرضية عام 1982م مبلغ 650 مليار دولار، ولو وزع هذا المبلغ على أفراد البشرية لأصاب الفردَ الواحد أربعة أطنان من المتفجرات، وفي نفس تلك السنة، توفي في العالم الثالث خمسون مليوناً بسبب الجوع أو سوء التغذية. (فكيف بما أنفقه منذئذٍ وحتى اليوم؟).

ومن الصعب أن نسمي خط سير الحضارة الغربية، وتوصلها إلى إمكانية تدمير الحياة على سطح الأرض وإنهاء ثلاثة ملايين سنة من تاريخ البشر، لا يمكن أن نسمي ذلك بحال من الأحوال تقدماً.

2- أما على المستوى الاقتصادي الذي توجهه فكرة النمو والزيادة، فهم يطلبون زيادة الإنتاج، سواء كان مفيداً أو ضاراً أو حتى مميتاً.

3- وبالنسبة للنواحي السياسية والعلاقات الداخلية والخارجية بين الدول، فالعنف هو الذي يسيّرها، أي مصالح الأشخاص والطبقات والشعوب التي تتصارع فيها صراعاً رهيباً.

4- وتتميّز النواحي الثقافية بفقدان المعنى والمغزي لهذه الحياة، فهم يريدون أن يكون الفن للفن، والعلم للعلم، والاختصاص لمجرد الاختصاص، وأن تكون الحياة في سبيل لا شيء.

5- أما في العقائد، فقد أضاعوا معنى السيطرة العلوية الإلهية، وبذلك تمّ إغفال البعد الحقيقي للإنسان في إنسانيته، وتعذّر إمكان الفصل بين النظام والفوضى الموجودة.

إن الحضارة الفرعونية التي يتحدث عنها القرآن، كانت تريد أن تجعل الحياة لا معنى لها، أو بمعنى آخر، تريد أن تجعلها مقتصرةً على تأمين الحاجيات وقائمةً على الصدف. أما الحضارات الأخرى غير الإسلامية، فلا نجد فيها حالياً إلاّ الجهل بمعنى حياتنا وبمعنى مماتنا.

ويرى جارودي أن طريق الحضارة الغربية طريق مسدود؛ لأنها تقوم على دعائم منها:

1- الفصل بين العلم والحكمة، أي الفصل بين الوسائل والغايات.

2- تحويل الحقائق إلى مفاهيم مغلوطة تبعد الجمال والحب والعقيدة وتفقد الحياة معناها.

3- جعل الأفراد والجماعات هي المركز الأساسي للاهتمام.

4- إنكار الألوهية، أي السعي للتخلّص من متطلباتها بإبعاد الإبداع والحرية والأمل.

ويرى جارودي أن الغرب الآن بحاجة إلى الإسلام أكثر من أيّ وقت مضى، ليعطي للحياة معنى، وللتاريخ مغزى، وحتى يغير أسلوب الغرب في الفصل بين العلم والحكمة، أو فصل التفكير عن الوسائل، وفصل التفكير عن النتائج.

فالهدف الأساسي للعلم والتقنية في الحضارة الغربية لا يعدو فكرة السيطرة، وتأمين مصالح الأفراد والجماعات والأمم، تماماً كما تؤمن هذه الحاجات المشتركة من غذاء وكساء وحماية من العدوان والمهاجمة.

أما العلم الإسلامي فمحركه الأساسي هو البحث عن آيات الله في الطبيعة وفي التاريخ لتحقيق مشيئة الله، دون الابتعاد عن الأسباب والنواميس الكونية.

في الغرب يجعلون الإنسان منافساً لإنسان آخر، يحاول أن يستخدم علومه للتغلّب عليه، أما في الإسلام، فالإنسان خليفة الله في الأرض؛ ليوجد فيها الجمال الذي يليق بمشيئة الله، كما أن الإنسان لا يضع حاجزاً بين العلم والإيمان، بل على العكس من ذلك، يربط بينهما؛ باعتبارهما وحدة متكاملة غير قابلة للتجزئة، ولا يفصل بين البحث عن الوسائل والنواميس وبين البحث عن النتائج والمعاني المترتبة عليها.

إنه لا يفصل بين ما يعلمنا إياه الفن والاختصاص الذي يعطينا السيطرة على الأشياء، وبين عبادة المصدر الأول الذي أوجدها. وكذلك فالإسلام لا يفصل بين العقيدة وبين الاقتصاد والسياسة، بل يربطهما برباط لا ينفصم، وعندما نريد أن نجسّد معنى مالك كل شيء والقادر على كلّ شيء، فالله وحده هو الملك وهو وحده الآمر الحاكم العالم، نجد أن المفهوم الإسلامي للدولة وللحق هو عكس مفهوم الدولة والحق عند الرومان، فيختلف تبعاً لذلك تعريف الملكية في الإسلام بالنسبة للحقوق، ونجد اختلافاً وتميزاً عن الحقوق في الشرائع الرومانية والرأسمالية، كما تختلف مفاهيمها.

فالله هو وحده المالك، وإدارة خيرات هذا الكون وظيفة اجتماعية، فاستعمال الملكية له أهداف أبعد من الفرد ومن فائدة الفرد الشخصية، وهنا يبرز التضاد بين نظرية الفردية ونظرية الجماعة الإسلامية كفكرة.

وقولنا إن الله وحده هو الحاكم، يجعلنا نستبعد حكم الملوك على أساس الحق الإلهي، مثل حكم لويس الرابع عشر في الغرب الذي كان (بوسويه) يقول عنه إنه وكيل الله على الأرض، كما نستبعد الديمقراطية التي ترتكز في حكمها على شخص أو حزب فقط.

والإنسان وحده هو الذي يملك هذه الإمكانية للفصل، مع هذا الإرغام القديم، بين الدوافع وماضيها، وتقديم مستقبل مشرق للإنسانية.

ويؤكد جارودي أنه ليس القرآن ولا الإسلام هما المسؤولان عن وضع المسلمين اليوم، وإنما الرجعية، المحافظة، والجمود والتمسّك بالحرف، أي أنه في جميع العصور رفض الاجتهاد.

وهذا الرفض - كما حدث في المسيحية - همه أن يظهر أي شريعة أو عقيدة بنفس الثوب الذي ظهرت فيه في عصر من العصور، إن هذا الرفض للاجتهاد، سواء في الدين أو في السياسة، يقود إلى تقليد وإعادة نماذج بالية، قد عفا عليها الزمان ربما تلاءمت في الماضي مع حاجات عصرها وشعوبها، ولكنها لا تسمح بحلّ المشاكل الحالية.

وسوم: العدد 699