محمود عبدالوهاب فايد... إمام صدع بالحق

أبو الحسن الجمّال

محمود عبدالوهاب فايد...

إمام صدع بالحق

أبو الحسن الجمّال

كان الشيخ محمود عبدالوهاب مثالاً للعالم الشجاع الذى يصدع بالحق مهما كلفه من وراء عناء كثيرا، رزق به منذ نعومة اظافره حينما زرع فيه والده العالم الأزهرى الشجاع الشجاعة والإقدام، والعناد الذى جر عليه عناده وصراحته الأهوال وهو ثابت على ما يؤمن به أنه الحق، لا ينحنى لباغ راساً ، ولا يغض عن ظالم طرفا من أجل ذلك كان نصيبه من البلاء فى العهد الملكى الذى اصطدم به يوم تخرجه، وفى مواقف أخرى سنسردها فيما بعد، وكما عانى فى العصر الجمهوري فى أيام عبدالناصر والسادات ومبارك، نتذكره فى السطور الآتية فى عصر ندرت فيه الإمام القدوة الذى يغشى الحق ويدافع عنه، فقد حفظ التاريخ للشيخ محمود فايد مواقف ناصعة دونت بحروف من ذهب فى سجله الأبيض، كان المنافح عن الإسلام وعلومه يتعقب الآراء الشاذة مهما عظم قائلها فقد انتقد شيخ الأزهر عبدالرحمن تاج عندما انزلق تزلفا للحاكم فى معصية ومخالفة صريحة للإسلام ورد ردودا مجلجلة على الرئيس جمال فى وقت نزع الكثير إلى الصمت والخوف من قول الحق وانتقد مواقف السادات فى كثير من مواقفه واعترض عليه فى معاهدة السلام وغيرها من المواقف..

 ولد الشيخ محمود فايد  سنة 1339 هـ / 1921 في قرية "دمينكة" وهي تتبع مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، وأسرته معروفة بالعلم والدين؛ فوالده معروف بالعلم والصلاح، وجده الشيخ مبروك كان عالماً شرعياً، وأخوه الأكبر مأذون القرية ومعروف بتدينه وورعه، وأخوه الذي يلي الأكبر هو د.عبد الوهاب، وهو مدرس في كلية أصول الدين بالجامع الأزهر، وابن عمه الشيخ محمد عبد الغني كان واعظاً بالأزهر ومعروفاً بالصلاح، وغير هؤلاء مما يدل على صلاح الأسرة في الجملة، وتعلق عدد من أفرادها بالعلم الشرعي.

حفظه القرآن العظيم على يد والده العالم الشهير ، الذى ألحقه بمعهد دسوق الديني الابتدائي التابع للأزهر وحصل منه على الشهادة الابتدائية سنة 1937، وحدثت له حادثة فيه ففصل ثم أعيد، وبعد فراغه من الدراسة في المعهد قصد معهد طنطا الثانوي للدراسة فيه، وفصل وسجن بسبب حادثة عرضت له سيأتي ذكرها، وحصل على الشهادة الثانوية سنة 1942 وعلى العالمية من كلية أصول الدين سنة 1946 وعلى العالمية مع إجازة التدريس سنة 1948.

  أثرى الشيخ عدد من المصنفات شملت العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه والمنطق والتاريخ والسيرة وتميزت مؤلفاته بحسن عرض الفكرة عرضا سلسلة دقيقا متأتثرا بالمنطق وكان أسلوبه عذبا جامعا مانعاً منها: كتاب "المنطق الواضح" في علم المنطق، في جزأين، و"التربية في كتاب الله". دار الاعتصام ، و"الإسلام والصحة". دار القلم والكتاب، و"الإسلام وأثره في نهضة الشعوب". دار الاعتصام، و"الرسالة المحمدية وشواهدها" ويعده أهم مؤلف له. دار القلم والكتاب و"صيحة الحق". دار القلم والكتاب.. "وبالحق صدعنا فى وحه الطغيان" دار الاعتصام 1973، و"كفاحنا فى مواجهة الشيوعية" دار الاعتصام 1988

كما حقق الرجل مجموعة من كتب التراث، متأثرا فيها بشيخه الجليل احمد محمد شاكر الأزهرى الذى حقق عددا كبيرا فى كتب اللغة والأدب والسنة والفقه والمدرسة الأزهرية عريقة فى نشر الكتب فقد كانوا النواة التى بعثت كتب  التراث منذ نشاة مطبعة بولاق قبل مائتى عام وبرع منهم: الشيخ محمد محى الدين عبدالحميد، ومحمد عبدالمنعم خفاجى، وعبدالقادر حسين  وغيرهم.. ومن كتب الكتب التى حققها الشيخ: "أسد الغابة فى معرفة الصحابة" و"المغنى" لابن قدامة، و"مراقى الفلاح"، والفرقان لابن تيمية، و"الجواب الكافى" لابن القيم 

 فى سجل الخالدين ..مواقف مشرفة:

 كان منهج الشيخ منهجا حيويا، قائم على الكتاب والسنة وسير الصالحين وكان يلم بهذه العلوم إلماما تاما وقد ساعدته فى مقالاته المتنوعة التى شملت معانى الحياة لأن الإسلام دين شامل ومنهج كامل متكامل اعتمادا على المبدا الخالد (ما فرطنا فى الكتاب من شىء) وقد تصدى للرئيس أنور السادات حينما قال (لا سياسة فى الدين ولا دين فى السياسة)، الذي أطلقه السادات في حديثه لأساتذة جامعة الإسكندرية في فبراير 1979 م ، ولخص الشيخ رؤيته في مقطع من العنوان هي قوله: "بل سياسة تهتدي بنور الدين ." والجرأة وقول الحق ملازمة منذ أن كان طالبا فى معهد الأحمدى بطنطا حينما فصل الشيخ إبراهيم الجبالى شيخ المعهد بعضا من الطلاب الذين تظاهروا على تقرر كلية الاداب لرواية جان دارك لبرنارد شو التى تعرضت فيها للنبى صلى الله عليه وسلم فقام الشيخ محمود فايد بإلقاء قصيدة يعترض فيها على الفصل، فعوقب بالفصل والسجن !!

 وحينما تخرج من كلية اصول الدين سنة 1946م كان الأول على دفعته وقد كرمه الملك فاروق ورفض ان ينحنى أمامه وإنما صافحه وهو منتصب القامة فصدر امر بتعيينه فى سوهاج علما بأن الأوائل كانوا يعينون فى القاهرة . وهذه العزة زرعها فيه والده الذى حثه على قول الحق وعدم الخوف من الظالمين والبغاة مستلهما قول شيخ الإسلام ابن تيمية (قول الحق ما تركت لى صديق) ، ويذكر أن شيخ الأزهر عبدالرحمن تاج قد انبطح إلى السياسة الثورية إلى مواقف لا يرضى عنها الإسلام الذى يمثل أكبر معاقله وهو يتوقع إذا نشر ما يريد أن يعاجل بالنقل إلى قنا فأخذ راى الوالد فقال له : "أنا لا يعنينى أن تنقل غلى قنا او تبقى هنا –فى القاهرة- إنما يعنينى أن تلزم جانب الحق فى كل ما تقول". فهاجم شيخ الأزهر على سكوته وكتب مقالاً شهيراً سماه: "بسم الله والله أكبر فليستقل شيخ الأزهر"، ووجد المقال قبولاً كبيراً ورضى لدى جمهرة الأزهريين، فنقل الشيخ محمود نقلاً تأديباً من معهد منوف إلى معهد قنا، ثم أوقف راتبه وأحيل إلى مجلس تأديبي، وفي ذلك المجلس نجاه الله ونصره على من عاداه، وعاد إلى معهده.

  وعقب الهزيمة المذلة سنة 1387/1967 طالب بمحاكمة الرئيس عبدالناصر، فعزله من مناصبه بقرار جمهوري، وحاول بعض العلماء التدخل لدى الرئيس فأجابهم بشرط أن يحضروا منه التماساً بذلك، فذهب إليه الشيخ عبد الحليم محمود ليعرض عليه هذا الأمر فرفض الشيخ بإباء، وقال: "أنا طالبت بمحاكمته ولم أطالب بإدانته، وفي المحكمة تنكشف الحقائق، ثم قال: عندما أُخبرت بقرار الفصل بالهاتف صليت ركعتين لله، ثم قلت: اللهم فارزقني وأنا من اليوم عبد خالص لك، وقد استجاب الله لي وأراحني من الذهاب والإياب، وأنا لدي مكتبة عامرة بالكتب ورثتها عن آبائي وأجدادي واشتريت المزيد فأنا أعكف على المطالعة والتأليف، ويأتيني من الرزق أضعاف ما كنت أتقاضاه من الوظيفة، وأحمد الله على نعمه، إنني أقول وقد وسّع الله علي، يالله: لقد أرادوا أن يذلوني فأعززتني، لا أذل وأنا عبدك؛ عبد العزيز، وأرادوا أن يضعفوني فقويتني، لا أضعف وأنا عبدك؛ عبد القوي، وأرادوا أن يفقروني فأغنيتني، لا أفتقر وأنا عبدك؛ عبد الغني".وهذا موقف جليل منه في زمن الطغيان.

  ومن مواقفه العظيمة أن عبدالناصر استهزأ مرة بالعلماء وهون من شأنهم، واتهمهم ببيع الفتاوى بالفراخ وأعلن ذلك في إحدى الخطب، فما كان من الشيخ محمود فايد إلا أن كتب مقالاً في مجلة الاعتصام عدد ربيع الأول سنة 1381/1961 في أوج الطغيان والخوف قال فيه بعد كلام غمز فيه من جانب الجيش واتهمه بموالاة الملك السابق يوم كان الشيخ يحارب الفساد: "... هل يجوز يا سيادة الرئيس أن يذاع على العالم وبجميع اللغات ومن رئيس الجمهورية العربية نفسه مثل هذا الكلام ؟! لقد فاتك أن تعقب بأن كثيراً من ذوي العمائم كان لهم مواقف كريمة وغيرة مشكورة، وإحساس مرهف، وإنك لتعرف بعضهم، ولبعضهم عليك فضل، ومن فضل الله أن شعبنا فاضل واع ذكي أريب، يعرف مقاييس الرجال، ويميز الخبيث من الطيب. وختاماً: يكفي العلماء العاملين شرفاً وفخراً أن أحكم الحاكمين زكاهم ورفع قدرهم وخلد ذكرهم فقال سبحانه: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" ويكفيهم في المدح والثناء قول أفضل البشر: "العلماء ورثة الأنبياء". وهذا الكلام خطير وصعب أن يواجه به زعيم طاغية ظالم مثل عبدالناصر لكن الشيخ محمود فايد كان من طراز فريد من العلماء.

من مواقفه المشرفة مقالان نشر أحدهما أيام فاروق والآخر أيام عبد الناصر، قال في الأول يصف حال المسلمين:

"ملوكهم وحكامهم معنيون بمناصبهم، همهم أن تَسْلم لهم... يسالمون عِداهم، ويذلون رعاياهم، يجمعون المال من دم الفلاحين وعرق الكادحين لينفقوه على ملذاتهم، ويبعثروه على شهواتهم، طوراً ينثرونه على موائد القمار ودور اللهو وكؤوس الشراب، وحيناً يبذلونه في مخاصرة النساء وسماع الغناء وما تتطلبه الليالي الحمراء، والويل شر الويل لمن تسول له نفسه أن ينكر عليهم أو يزجي النصح لهم فجزاؤه السجن وإن شئت فقل الإعدام".

وفي النص الآخر أيام عبدالناصر قال مخاطباً له:

"يا سيادة الرئيس: هذه الأموال الباهظة التي تنفق في غير موضعها، هذه المكافآت السخية التي تصرف من مال الدولة على الممثلين والممثلات، والراقصين والراقصات، والمغنين والمغنيات. قلت يا سيادة الرئيس إنك تريد أن تطهر المجتمع من عوامل الحقد والأنانية والفساد والبغضاء، ومقتضى هذا المنطق أن تُقلم أظافر أولئك المترفين".

من مواقفه القوية أن فرقة راقصة من بلد شيوعي أرادت أن تقيم حفلاً في ميدان الحسين!! في رمضان سنة 1387، فانتهز الشيخ محمود فرصة إقامة الجمعية حفلاً في ذكرى غزوة بدر فتكلم قائلا:

"أخزى الله هؤلاء السفهاء، لقد بلغ بهم السخف أن يحيوا رمضان بالمنكرات، وفي أي مكان ؟ في ميدان الحسين بين مسجده وبين إدارة الأزهر ومشيخة الطرق الصوفية، يالها من إهانة متعمدة توجه لعمّار هذه المؤسسات الإسلامية، يا لها من إهانة توجه إلى شهر القرآن". وكان أحد المسؤولين حاضراً لذلك الحفل فأبلغ الخبر إلى حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية فأصدر أمره بالغاء الحفل، فكم نحن -اليوم- بحاجة إلى أمثال هؤلاء العلماء.

بينه وبين الزيات:

   فؤجىء الناس ذات يوم بمقدمة مجلة الأزهر التى كتبها رئيس التحرير احمد حسن الزيات ، وفيها يمتدح جمال عبدالناصر وتجربته فقال بان الوحدة بين مصر وسوريا خير وابقى من الوحدة التى بناها محمد - صلى الله عليه وسلم-  وكان في المقال كُفر واضح ظاهر ألا وهو تفضيل الوحدة الناصرية على الوحدة المحمدية!! وثار الصالحون في العالم الإسلامي ومنهم الأستاذ أبو الحسن الندوي، وثار الشيخ محمود فايد وكتب مقالاً شديداً رد فيه على الزياد، فند فيه هذا القول القبيح والذى لا يستغرب من الزيات الذى مدح فاروق قبل الثورة بشهرين فى افتتاحية مجلة الأزهر 25 مايو 1952وقال عنه  (بسم الله جل اسمه وعز حكمه منزل كتابه هدى، ومرسل رسوله رحمة، وبهدى صاحب الرسالة محمد صوات الله عليه ..لسان الوحى ، ومنهاج الشرع ، ومعجزة البلاغة، وبعطف صاحب الجلالة الفاروق .. ناصر الإسلام، ومؤيد العروبة، وحامى الأزهر، أعز الله نصره، وجمل بالعلوم والآداب عصره..)، ثم يتحول ويهجوه بأقذع اللفاظ فى افتتاحية مجلة الأزهر عدد يوليو سنة 1960: فقال :"كان ملكاً على مصر قبل 23يوليو ، كان آية من آيات إبليس فى الجرأة على دين الله وعلى حرم الناس ..بلغ من جرأته كما حدثنى احد بطانته إذا اصطرته رسوم الملك ان يشهد صلاة الجمعة خرج إليها من المضجع الحرام فصلاها من غير غسل ولا وضوء واداها من غير فاتحة ولا تشهد وكان يقول انه اخوف ما أخاف ان يغلبنى الضحك وانا اتابع الإمام فى هذه الحركات العجيبة وبلغ من جرأته انه كان يغتصب الزوجة ويقتل الزوج ويسرق الدولة ويسفه الحق، ويأخذ الرشا ثم املى له الغرور فتبجح وتوقح وطغى...".  وقال عنه الشيخ : "لق عاش الزيات هكذا طوال حياته ، يكتب ما يروج ، وينشر ما يجلب له النعمة والعافية وحسبه انه ظفر فى عهد فاروق بلقب "صاحب العزة" وحصل فى هذا العصر(عصر عبدالناصر) على اكبر جائزة(جائزة الدولة التقديرية)".

 تميز الشيخ محمود فايد بميزة لم تكن لعالم في زمانه فيما أعلم، والله أعلم ألا وهي اطلاعه الواسع على أحداث بلاده في زمانه، وفقهه واقعَ قومه، وقد جعله هذا يسارع إلى الرد على المخالف أو المفسد، أو الضال، وذلك من خلال المنبر الذي سخره الله له وهي مجلة "الاعتصام"، وهي على أنها محدودة الانتشار لكن كان لها من يتلقف مقالاتها المهمة فيعيد نشرها في بعض الصحف السيارة الذائعة، وبعض تلك المقالات نشر في صحف المعارضة بعد توقيف مجلة "الاعتصام".

ولم يستثن الشيخ في رده أحداً، فهو يرد على كل من يرى وجوب الرد عليه أو مناقشته، فقد ر على عبدالناصر في أوج طغيانه، وعلى السادات، وعلى حسني مبارك، ورد على بعض الوزراء والكبراء، وعلى بعض المشايخ الضعاف أو أصحاب المواقف المنحرفة أو المتخاذلة.

ولقد جُمعت هذه الردود والمناقشات في كتاب ضخم اسمه "صيحة الحق"، وبعض هذه الردود والمناقشات آتت أكلها وثمارها فحصل بها تغيير ولله الحمد، إذن لم تكن كل تلك المقالات صرخة في وادٍ، ورد فيه على كل الدعاوى الباطلة التى أثيرت فى عصره واشتد سعاره ...

وبعد مأ أشبه الليلة بالبارحة، فمازال المغرضين يثيرون الشبهات فى كل عصر حقدا على الإسلام دين الفطرة الذى يهدد انفلات هؤلاء الذين يريدون مجتمعا منفلتا ضد القيم والثوابت ومازالوا يثيرون على هذا المنهج حتى اليوم فهل نرى شيخا بقامة الشيخ محمود عبدالوهاب فايد يكبح جماح هؤلاء ؟

إنا لمنتظرون...

ظل الشيخ محمود فايد وثيق الصلة بالجمعية الشرعية حتى تولى رئاستها بعد وفاة الشيخ الجليل عبداللطيف مشتهرى سنة 1995 وحتى وفاته ..

وبعد رحلة طويلة من النضال والصدع بقول الحق توفي الشيخ تعالى سنة 1418/1997 ودفن في مصر، غفر الله لنا وله.