خطبة الجمعة تنبيه للغافل وتوجيه للحائر وتثبيت للعاقل

من المعلوم أن عبادة الصلاة جعلها الله عز وجل عبادة دائمة بالليل والنهار لحاجة عباده المؤمنين الملحة إليها ، فهي الصلة التي تربطهم به على الدوام ، وفيها يقفون بين يديه لمناجاته ولسؤاله وطلب عونه في كل ما يحتاجونه من أمور حياتهم ولاستغفاره عما يصدر عنهم من خطايا رجاء عفوه وطمعا  أو حذرا من مصير ينتظرهم بعد رحيلهم عن هذه الحياة الدنيا  الفانية إلى الآخرة الباقية  ويكون مصيرا أبديا إما في نعيم أو في جحيم .

ولما كانت هذه العبادة على هذه الدرجة من الأهمية في حياة الإنسان ومصيره، فقد تعبدنا بها الله عز وجل رحمة بنا ، وهي أكبر نعمة أنعم بها علينا ،وله سبحانه وتعالى في التوقيت الذي جعله لها حكم يدرك بعضها ولا يعلم جلّها إلا هو .

ولقد خص سبحانه وتعالى  صلاة الجمعة من بين كل صلوات الأسبوع بالذكر في سورة تحمل اسمها  تشريفا لها ، وذكر النداء لها الذي لم يذكره لغيرها ، وأمر بالسعي إلى ذكرها ونسبه إليه  ، والسعي هو الجد في التوجه ، وأمر بترك البيع كناية عن كل أنواع المعاملات التي فيها مصالح على اختلاف أنواعها تنبيها إلى أهمية هذه الصلاة التي يصاحبها ذكر الله عز وجل وهو عبارة عن خطبتين سنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من رب العزة جل جلاله .

وفضلا عما جاء  عنها من كلام الله عز وجل  في القرآن الكريم، تطرقت إليها الأحاديث النبوية الشريفة التي  سنقف عند بعضها لبيان أهمية خطبة هذه الصلاة الأسبوعية وهي كالآتي :

ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن  ما لم تغش الكبائر "  

فالملاحظ في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خص فيه بالذكر الجمع مع ذكر الصلوات الخمس التي تكون ليل نهار طيلة أيام الأسبوع ، وجعل الجميع كفارة لما بينها أي محوا للذنوب ، وواضح أن الجمع  لها كفارة خاصة، ولو كانت ككفارة الصلوات الخمس لما خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر ، ولكان ذكر كفارتها بعد ذكر كفارة الصلوات الخمس تكرارا لا داعي له. ولا شك أن قدر كفارة الجمع يفوق قدر كفارة الصلوات الخمس ، والسبب هو انفراد وتميز الجمع بالذكر أي بالخطب عن الصلوات الخمس . والذي يدل على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآتي :

ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم :

" من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بدنة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة ،ومن راح في الساعة الخامسة فكأنها قرّب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر "

الملاحظ في هذا الحديث هو تخصيص صلاة الجمعة بغسل في حين يقتصر في   الصلوات الخمس اليومية  على الوضوء ، ما لم يكن داع للغسل ، وفي تخصيصها بالغسل إشارة إلى تميّز تكفيرها للذنوب عن تكفير الصلوات ، وسبب ذلك هو الذكر الذي يكون فيها . ولقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يؤكد أن الوضوء والغسل يدخلان ضمن كفارة الذنوب ، وذلك لما جاء في الحديث الآتي :

ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء ، أو مع آخر قطرة الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه ، أو مع آخر قطرة الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ، أو مع آخر قطرة الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب " .

فإذا كان  هذا شأن الوضوء في الصلوات الخمس ، فكيف يكون شأن الغسل في صلاة الجمعة؟  وكيف يكون دوره في تكفير الذنوب ؟

وبالعودة إلى الحديث الأول نلاحظ أن السعي إلى الجمعة  يكون تبكيرا ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحدث عن خمس ساعات أو أوقات يسعى فيها إلى المساجد ، وهي تتفاوت في الأجر أو في تكفير الذنوب ، وهذا التفاوت عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفاوت بين البدنة والبقرة والكبش الأقرن والدجاجة والبيضة ، فهذه ليست سواء في القيمة . ومعلوم أنه عادة الذي يرتكب جرما  أو مخالفة يقدم غرامة تكون كفارة له ، وكفارة الجمعة تكون بغسل أولا وبتبكير متفاوت القدر في السعي إلى المسجد لذكر الله عز وجل . والمنطق يقتضي أن الأكياس العقلاء الذين لا يستخفون بما يصدر عنهم من ذنوب أو خطايا  يقدرون حجمها  وحجم الكفارات التي تكفرها فيلتمسون منها ما يرونه مناسبا  لها ، ذلك أن من كبرت خطاياه في عينيه التمس الكفارة في تقديم البدنة  ويكون ذلك  في ساعة الجمعة الأولى ... وهكذا حتى تقديم البيضة ، ولا يقدم هذه الأخيرة إلا عاجز يتبع نفسه هواها ، ويستخف  بخطاياه ، ويتمنى على الله الأماني .  وأما الذي يحضر بعد خروج الإمام الخطيب وبعد حضور الملائكة لسماع الذكر، فغروره  واستخفافه بخطاياه أكبر من مقدم البيضة، وأسوأ من حاله حال من يتعمد التأخر في السعي إلى ذكر الله عز وجل دون عذر شرعي مقبول، والأكثر سوء حال منه من لا  يحضره  لما جاء في الحديث الآتي  :

ـ  عن أبي الجعد الضمري  رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه " .

 والطبع على القلب يجعل صاحبه غافلا عن الذكر ، والغافل عنه لا يأمن على نفسه من هواها ومن الشيطان ، ومن سوء المصير في عاجله وآجله .   

وذكر حضور الملائكة لسماع الذكر أو الخطبة في هذا الحديث الشريف يدل على أهميتها عند الله عز وجل ، ذلك أن الملائكة الكرام لا يحضرون لسماع ما لا فائدة فيه ولا طائل من ورائه ، وهذا يلزم الخطيب أن يكون جادا في خطبته يراعي حضور ملائكة الرحمان أكثر من مراعاة حضور رقباء السلطان لأن ما يسجله عليه الملائكة أخطر مما يسجله عليه الرقباء ، ذلك أن ما يسجله  عليه الملائكة حسابه في الآجل  ، وما يسجله عليه الرقباء  حسابه في العاجل، وشتان بين الحسابين . وعلى الخطباء ممن لا قدرة لهم على الخطابة ولا أهلية  ولا علم أن يشفقوا على أنفسهم من الإساءة إلى المنابر بحضور ملائكة شهود عليهم  يوم القيامة ، ورحم الله من عرف قدر نفسه وجلس دونه .

واستخفاف الحاضرين بما يقدمه الخطباء إذا  كان مما يأمر به شرع الله عز وجل  أو استثقاله فيه سوء أدب معه سبحانه وتعالى ومع ملائكته الكرام الذين يحضرون ذكر الجمع. ولا يستثقل خطب الجمع إلا من كشفت له عيوبه ونبهته إليها ليقلع عنها، ولكنه تأخذه العزة بها .

  وتدخل من ليسوا أهلا في خطب الجمع لتعيين مواضيعها، أوما يجب أن تتطرق إليه ممن لا علم لهم يعتبر فضولا وتطفلا منهم ، ويكون عبارة عن استخفاف بذكر تحضره الملائكة، ويسجل ذلك عليهم ويسألون عنه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة لعبثهم به والجرأة عليه والاستخفاف به لأنه ذكر وظيفته تنبيه الغافل ، وتوجيه الحائر ، وتثبيت العاقل ، ولا يمكن أن يكون لغير هذه الأغراض مما يريده له المتطفلون المستغلون له لأغراض دنيوية فانية عليهم أوزارها يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل . وتقع مسؤولية تحديد مواضيع خطب  الجمعة على  العدول من أهل العلم دون غيرهم لأنهم هم  وحدهم من يقدرون قيمة الذكر الذي تحضره ملائكة الرحمان في الجمع  والذي هو منزه عن العبث .

وفي الأخير لا بد من الإشارة إلى ما آل إليه أمر الجمع عندنا ذلك أن من يغيب عنها  في هذا الزمان أكثر بكثير ممن يحضرها ، وفي كثير ممن يغيب عنها من لا عذر له ولا يكترث بأن يطبع على قلبه ، وغالبية من يحضرونها لا يسعون إليها في الأوقات التي رغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس فيهم من لا ذنب له يستوجب التكفير بالتبكير . ومنهم من لا تعنيه سوى ركعتاها استخفافا بخطبها واستثقالا لها لأنه لا يطيق سماع من يهديه عيوبه ، وربما كان سبب استثقالها تقصير من الخطباء ، أو تأثير ممن يقررون مصير الخطب وليسوا أهلا لذلك .

  ومما يسهم في التأخر في السعي إلى الجمع عدم تمكين من يشتغل أو من يدرس من الأوقات التي رغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لا يبقى أمام هؤلاء  من الوقت لحضورها سوى تقديم بيضة أو خروج الخطباء وحضور الملائكة . والغريب أن عبادة صلاة الجمعة عندنا لا تعامل معاملة عبادة الصيام ، ذلك أنه يسرح من يشتغلون ومن يدرسون في هذه الأخيرة  قبل الإفطار بساعات بينما يسرحون في آخر لحظة بالنسبة للجمع ، وهذا كيل بمكيالين بالنسبة لعبادتين. ولا تستفيد من الخطب إلا القلة القليلة من الشباب المتمدرس بسبب الدراسة صباح الجمع ، وهي الفئة الأمس حاجة إليها لدورها في تنشئتها وتربيتها على قيم دينها ، ولو أريد لها ذلك لأعفيت من الدراسة صباح الجمع وقد نهى الله عز وجل عن كل ما يشغل عن حضور الذكر . ومن الجرأة على الله عز وجل أن يكون الانتشار في الأرض والابتغاء من فضله عملا أو دراسة أو غير ذلك  وقت أمره بالسعي لذكره  في الجمع ، بينما يكون وقت الانتشار وابتغاء فضله وقت عطلة واستراحة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . 

وسوم: العدد 864