قيمة النصح والتناصح في دين الله عز وجل

حديث الجمعة :

فعل نصح  الشيء يعني في اللسان العربي  أنه صفا وخلص  ـ بفتح الخاء وضم اللام ـ من الشوائب ، والاسم منه النصح ـ بفتح النون وضمها وتسكين الصاد ـ، والنصوح ـ بضم النون ـ ، والنصاحة ـ بفتح النون ـ ، والنصيحة ، ويطلق على الخالص من كل شيء ، والنقي الذي لا كدرة ولا غشش فيه. وقد جاء في كتاب الله عز وجل قوله : (( ولكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين )).  ويستعمل النصح مجازا للدلالة على الصدق في إبداء الرأي والمشورة ، وتوجيه الغير وإرشاده إلى صالح الأعمال ، وإلى طرق الخير ، وحثه على ذلك .

ولقد بعث الله عز وجل الرسل والأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين ناصحين لأقوامهم ، وسجل القرآن الكريم أن النصح كان مهمتهم كما في قوله تعالى :

 (( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ))، وفي قوله أيضا : ((  فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقال يا صالح ايتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين )).

فالواضح من هذين النصيين الكريمين أن مهمة الرسولين الكريمين نوح وصالح عليهما الصلاة والسلام،  وباقي الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين هي مهمة النصح بما كلفهم الله عز وجل من تبيلغ رسالاته إلى الناس . ومدار نصحهم هو ما جاء في قوله تعالى مخاطبا خاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : (( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ))  وهو نصح  يتضمن التبشير بمغفرة الله عز وجل والإنذار من عقابه كما جاء في قوله تعالى : (( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) .

ولا يوجد نصح أفضل من نصح رسل وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين لأنه نصح  من يبشرون وينذرون . ولا يخلص النصح إلا من  يجمع في نصحه للغير بين البشارة والإنذار، لأن الناس أربعة أصناف  في تعاملهم مع النصح  قبولا أو رفضا  : صنف أول تقنعه وتستهويه البشارة  فينتصح رغبة فيها ، وصنف ثان  يقنعه ويخيفه  الإنذار فينتصح  خوفا منه ، وصنف ثالث ينتصح طمعا وخوفا ،  وهذه الأصناف الثلاثة تحب النصح والناصحين ،وصنف رابع لا ينتصح  لا ببشارة ولا بإنذار، ويكره النصح والناصحين وهم شر الخلائق .

ومعلوم أن النصح الذي أوكل الله عز وجل به المرسلين صلواته وسلامه عليهم أجمعين هو أكبر نعمة تفضل بها على الخليقة جمعاء . وأية نعمة تعدل أو تفوق التبشير بمغفرة الله عز وجل للخليقة الخطّاءة ، وتحذيرها من عقابه الأليم ؟

و لقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الدين هو النصح أو النصيحة حيث قال عليه الصلاة والسلام :" الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " وقد قال شراح الحديث أن النصح لله عز وجل هو تخصيصه بالتوحيد بلا شركاء أو أنداد ، وصرف العبادة والطاعة له والإخلاص فيهما  ، وإتيان ما أمربه ، والانتهاء عما نهى عنه ، والنصح لكتابه  هو تدبره والعمل به ، والنصح لرسوله صلى الله عليه وسلم هو اتباع سنته والعناية بها ، والنصح لأئمة المسلمين هو الإخلاص في التعاون معهم على الخير لدفع الشر والدعاء لهم ، والسمع والطاعة ما أطاعوا الله عز وجل ورسوله ، وعدم الخروج عليهم ، وعدم منازعتهم فيما قلدهم الله عز وجل من مسؤولية  ما  لم يبد منهم كفر بواح ، والنصح لعامة المسلمين  هو دعوتهم إلى دين الله عز وجل ،وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

فالنصح واجب شرعي  أو فريضة شرعية  على كل مؤمن لذوي الحقوق وهم:  الله جل جلاله ، وكتابه الكريم ، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأئمة المسلمين ، وعامتهم . وإذا كان المؤمنون يستوون في النصح لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ، لأن الجميع ملزمون بالكتاب والسنة أئمة كانوا أم عامة ، فإنهم يتفاوتون في النصح للأئمة وللعامة ، ذلك أن فيهم علماء وفقهاء على علم بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهم على دراية بسبل النصح ، وفيهم من هم دونهم علما ومعرفة ومع ذلك هم مطالبون بالقيام بفريضة النصح على قدر علمهم ومعرفتهم ، وعلى عامتهم الانتصاح بما ينصحهم به أهل العلم والفقه ، ومن هم دون هؤلاء علما وفقها إذا ما أخذوا العلم والفقه عمن هم أعلم منهم . ولا يجوز أن ينصح من لا علم له بالنصح على الوجه المطلوب في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان الله عز وجل قد جعل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصحا ، فإنه قد نهى عن غيره مما قد يظن أنه نصح وهو ليس كذلك مثل الغيبة التي هي ذكر الإنسان بما يكره ، أو الافتراء عليه كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نصح فيه الأمة باجتناب الغيبة فقال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال: ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ،وإن لم يكن فيه فقد بهتّه "

فهذا الحديث الشريف ينبه إلى أن الأسلوب الوحيد المسموح به لتنبيه الغير إلى عيوبه  وعوراته هو النصح ، وليس الغيبة إذ لا فائدة من ذكر عيب أو عورة إنسان غائب لغيره ،لأن من يفعل ذلك لو كان بالفعل يريد إسداء النصح له لذكر له عيبه  في حضرته . وقد توقع الغيبة في البهتان حين يتوهم المغتاب العيب في غائب وهو ليس كذلك، فيفتري عليه الكذب ويكون ذلك بهتانا وهو جرم عظيم .

ويفترض في المجتمع المسلم أن يكون التعامل السائد فيه هو التناصح لتحقيق الخيرية التي وصف بها الله عز وجل هذا المجتمع في قوله تعالى : (( كنتم خير أمة أخرجت للناس  تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) . والأمر بالمعروف نصح ، وكذلك النهي عن المنكر نصح ، لهذا لا يجب أن ينزعج المؤمنون إذا ما نهوا عن منكر ، ولا يجب أن يستكبروا عن قبول النصح إذا ما أمروا بمعروف .

ولا يجب الخلط بين النصح عن طريق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين تتبع العورات والعثرات والسخرية من أصحابها كما درج على ذلك الناس في هذا الزمان خصوصا بعدما صارت وسائل التواصل الاجتماعي متوفرة بشكل غير مسبوق حيث يعمد سواد الناس إليها للوقوع في الأعراض، فيصورون مشاهد لغيرهم وهم في أحوال لا يليق أن تذاع  في الناس ،فيتبادلونها بغرض التندر والسخرية ، متجاهلين ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث " الدين النصيحة " حيث جعل لعامة المسلمين الحق في النصح . وأولى بمن يختلي بشخص ليصور حاله المستوجبة للستر خلسة وهو غافل أن يتقي الله عز وجل فيه وأن يسدي له النصح عوض فضحه بالتصوير والتشهير ، وهو ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي يقول فيه : " من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضح بها في بيته " . ويشمل هذا الحكم كل من يتبادل عبر وسائل التواصل كشف عورات المسلمين بغرض التندر والتفكه والسخرية  خصوصا وأن الله عز وجل نهى عن سخرية المسلم من المسلم والمسلمة من المسلمة في قوله تعالى : ((  يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن  ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )) ولقد سمى الله عز وجل السخرية والتنابز وهو ذكر الألقاب القبيحة للغير فسوقا وظلما إذا لم يتب منه مقترفه  .

حديث هذه الجمعة دعا إليه أمران : الأول وقوع  بعض الخليجيين في أعراض المغاربة غيبة وبهتانا ، والثاني هو ما أثار استياء الرأي العام من مشروع قانون يريد الحد من حرية الناس في التعبير عما قد يكون فيه منكر أو سوء أو أذى يؤذيهم، وهو مما تقتضي  فريضة النهي عن المنكر إنكاره ، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر إنكار رواج سلعة فيها ضرر أو إنكار غلاء أخرى أو ما شابه ذلك مما لا يمكن اعتباره جرما  يستوجب العقاب . ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " .

ولا يكمن بحال من الأحوال أن تمنع الأمة من إنكار المنكر بفرض قوانين زجرية فيوقعها ذلك فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إسوتنا الحسنة وقدوتنا وقد مرعلى صبرة طعام ، فأدخل يده فيها ، فنالت أصابعه بللا ، فقال : ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال : أصابته السماء يا رسول الله ، قال : أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ، من غش فليس مني " . ولا يمكن منع المسلمين من إنكار منكر فساد السلع مأكولات كانت أم مشروبات أم غيرها  بسن قانون يعاقبهم على ذلك . ويلزم من يسنون القوانين أن يضعوا في حسابهم واعتبارهم دين الأمة وشريعتها ، وأن تكون  هي الضابطة لما يسنون من قوانين .

اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بعيوبنا ، وأن تسترها علينا ، ولا تفضحنا  ،وأن تهدينا إلى سواء السبيل ، وأن تجعلنا ممن يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ،  وتجنبنا عقابك بتركنا هذه الفريضة  ، ولا تحرمنا استجابة الدعاء . اللهم عجل لنا بفرج من بلاء الوباء يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين . اللهم لك الحمد حتى ترضى وإذا رضيت وبعد الرضى ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.     

وسوم: العدد 876