ضرورة الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعزّ عليه عنت أمته

من المعلوم أن الله عز وجل قد بعث الرسل والأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين ليبلّغوا عنه ما شرع للخلق ، وجعلهم قدوة لهذا الخلق في تطبيق ما شرع، وجعل تطبيقهم هو التطبيقي الأمثل أو النموذجي .

ولقد قدم لنا الله عز وجل في محكم التنزيل  كثيرا من صفات الرسل الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وامتدحها وأثنى عليها ،وقد قضى سبحانه وتعالى أن يصنعوا على عينيه ، وخصهم بالاصطفاء والاجتباء ، فحازوا بذلك أرقى الصفات المحمودة ، وجعلهم قدوة وأصلا منه تتفرع الفروع ، ونبعا منه ينهل الخلق من محامدهم .

ولمّا ختم الله عز وجل رسالاته إلى الخلق برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جمع  له فيها  ما كان للأنبياء والرسل صلواته وسلامه عليهم أجمعين من محامد . ويزخر كتاب الله عز وجل بمحامد رسوله عليه الصلاة والسلام ، وعلى رأس تلك المحامد محمدة الرحمة التي جعلها الله تعالى شاملة للعالمين ،لا تقتصر على أمم بعينها كما كان الحال مع الرسل والأنبياء السابقين فقال جل من قائل : (( وما أرسلناك إلا  رحمة للعالمين )) . ولما جعله الله عز وجل إسوة وقدوة للعالمين مصداقا لقوله تعالى : (( لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )) ،فإنه من المفروض عليهم أن يقتدوا به في رحمته ، ويقتضي ذلك أن يوصل بعضهم إلى بعض دعوة الإسلام التي بها تصلح أحوالهم كما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقصان في التبليغ، وبالاتباع غير المشوب بالابتداع .

ورحمته صلى الله عليه وسلم تتجلى في سنته صلى الله عليه وسلم ،وهي ما كان عليه في  جميع أحواله وهو يمارس حياته اليومية عبادات ومعاملات . ولوأردنا بسط القول في تجليات رحمته عليه الصلاة والسلام لاقتضى  منا ذلك  تسويد أسفار ، ولكن يكفي أن نقف عند إحداها وهي التي قال فيها الله عز وجل : (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم )).

ففي هذا النص القرآني إشارة إلى صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم الجامعة للكمال ، وهي أن يشق علي نفسه عليه الصلاة والسلام  ويعزّ عليه ما يواجهه المؤمنون من عنت أو مشقة  مع حرصه الشديد على ذلك لما أودع فيه الله عز وجل من رأفة ورحمة . ومنتهى الرحمة أن يشق على الرحيم ما يواجهه المرحوم من عنت ومشقة وشدة .

ولقد أشار بعض المفسرين إلى أن هذا الوصف الذي خص به الله عز وجل خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم والوارد في  خاتمة سورة التوبة وهي كلها تقريع للمنافقين من الأعراب ومن أهل المدينة ، جاء كبارقة أمل لمن أراد منهم أن يرجع عن غيه ويتوب من نفاقه ، ذلك أن رسولا بهذه الصفة  النبيلة مقابل ما كان منهم من كيد به وبالمؤمنين بسبب نفاقهم  من شأنه أن يجعلهم يراجعون أنفسهم إذ كيف يعزّ عليه صلى الله عليه وسلم عليه عنتهم ، ولا يؤثر ذلك فيهم فيرجعون عن نفاقهم ويكفون عن كيدهم ومكرهم ؟

وأكبر عنت وأقبحه  على الإطلاق هو أن يظل الناس أسرى الكفر والنفاق ، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوفا رحيما بدعوة الكفار والمنافقين والعالمين جميعا إلى الإيمان الذي يخلصهم من عنت ومشقة الكفر والنفاق وسوء الأحوال في المعاش والمعاد  .

والمؤمنون بموجب الأمر الإلهي بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم مطالبون بأن يستشعروا ما كان يشعر به عليه الصلاة والسلام حين يواجه الناس مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم  العنت والمشقة مهما كان نوعها ، وأن يعزّ عليهم ما عزّ عليه صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون ذلك بدافع الرأفة والرحمة .

والداعي إلى حديث هذه الجمعة هو غفلة  بعض الناس عن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتخلق بأخلاقه ومنها الحرص على ألا يعاني الناس من عنت أو شدة أو ضيق في حياتهم . وحري بالمؤمنين أن يستحضروا هذا الخلق العظيم منه صلى الله عليه وسلم ونحن في ضائقة بسبب ما حل بالعالم من هذه الجائحة التي تفتك بالناس ، وهي مصدر تهديد لهم ، وقد فرضت عليهم حجرا لا زال متواصلا  لمدة لا يعلم إلا الله عز وجل متى ستنتهي ،وقد لقي الناس فيه عنتا كبيرا حيث يجثم الخوف الشديد على صدورهم ، وشق عليهم أن يمارسوا حياتهم اليومية كما اعتادوا على ذلك حيث كممت أنوفهم وأفواههم ، وصاروا يخشون  الاقتراب من بعض  البعض ، ويخشون من الخروج لاقتناء ما يحتاجون إليه ، ويتوجسون مما يدخلونه إلى مساكنهم من حاجيات خوفا من أن تكون موبوءة. ولا حاجة لسرد كل  ما يعانونه نفسيا بسبب ظروف الحجر ، وقد منعوا من حرية الحركة والتنقل  لساعات طويلة ، وبعدت الشقة بينهم وبين أهلهم وذويهم ، ومنعهم الوباء من الوصول إلى بيوت الله عز وجل لأداء واجباتهم الدينية ، وصاموا شهر الصيام على غير ما اعتادوا ، وسيحل بهم العيد وهم رهن أسر الحجر، وذلك مما ينغص عليهم فرحتهم به ، ويحول دون  تزاورهم وصلة أرحامهم ، وفي كل ذلك عنت ومشقة .

ومع وعي الجميع بهذا العنت الكبير ، فإن البعض ممن تصدر عنهم تصرفات متهورة لا يعزّ عليهم ذلك ، فيتعمدون خرق ما يلزم به الحجر ، ولا يلتزمون بما نصح به أهل الخبرة من الأطباء، فيخرجون خروجا عابثا لغير حاجة ملحة ، ولا يلبسون الكمامات ، ولا يتجنبون الزحام ، ولا يحتاطون من ذلك  في الوقت الذي يلتزم غيرهم بكل الاحتياطات اللازمة سعيا منهم للقضاء على الوباء في أسرع وقت ممكن ولرفع عنت ومشقة ظرف الحجر . ومما يزيد من هذا العنت ما تقدمه نشرات وزارة الصحة من أرقام الإصابات يوميا، الشيء الذي يبث اليأس في النفوس من الخلاص من خطر الوباء ، ومن مشقة الحجر .

ولا يليق بمؤمن  في هذا الظرف أن يعطل فريضة الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعزّ عليه عنت أمته  بشيوخها العجزة ، وصغارها ، ومرضاها ، فينقاد وراء هواه في خرق الوقاية من هذا الوباء الفتاك بعدم الانصياع لأوامر أهل العلم والاختصاص ، وأوامر أهل الحل والعقد من علماء ومسؤولين  وذلك بعدم الإلتزام ما تلتزم به الأمة وهي تعاني من عنت الحجر المصحوب بالخوف بل بالهلع .

ولو تصرفت الأمة تصرف المتهورين ،وتجاهلت ما نصح به الناصحون لعم البلاء لا قدر الله . ولهذا تقع مسؤولية ما تجده الأمة من عنت ومشقة على هؤلاء المتهورين الذين يتعمدون التهور والاستخفاف بأمر في غاية الخطورة .

ومعلوم أن كل تهور من شأنه أن يلحق الضرر بحياة المواطنين عن طريق التسبب في نشر الوباء ، يعتبر في حكم القتل العمد للنفس التي حرم الله عز وجل قتلها إلا بالحق ، كما أن  كل تهور من شأنه أن يطيل عنتهم ومشقتهم في ظرف الحجر يعد جرما وعدوانا وظلما حرمه الله عز وجل .

ومقابل سلوك بعض المتهورين ، الذي يؤذي كل من يعاين تهورهم ، نجد المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عزّ عليهم عنت الأمة ، وحرصوا على  سلامتها برأفة ورحمة، فأولئك من الذين نوّر الله تعالى قلوبهم بنور الإيمان وزيّنه في قلوبهم ، وأولئك من الراشدين فضلا منه ونعمة .

نسأل الله العظيم الرءوف الرحيم أن يرأف بأمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وبالعالمين كافة ، فيكشف عنا بلاء هذا الوباء الوخيم رحمة منه جل وعلا . ونسأله أن يبصر المتهورين بتهورهم ،وأن يهديهم إلى الصواب رحمة بهم وبغيرهم إنه  قريب سميع مجيب الدعاء .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 878