طوبى لمن كان لأهل الصدق مثابة ورفع للصدق راية ..

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )

وجيز التفسير :

والآية مع وضوح لغتها ، و مباشرة خطابها وتلقائيته ، تتضمن تكليفا عزيزا بعيد المنال ، يحتاج إلى صدق الاجتهاد والجد والعزيمة ليلتزم به المؤمن ، ويقوم فيه بحق التكليف. فإذا كانت "تقوى الله تكليف"  ذاتي يتعلق بصاحبه ، فإن "الكينونة مع الصادقين" أمر يتعلق بمعرفة أهل الصدق ، والانحياز إليهم ، وتحمل تكلفة الالتحاق بهم ، وحمل لواء الصدق معهم .

أول الأمر في الآية هو الأمر " بالتقوى " والتقوى : هي الخلة المانعة الجامعة ؛ المانعة التي تنفي عن صاحبها كل شعب الكفران من حال أو قول أو فعل . وهي الخلة الجامعة التي تجمع في صاحبها كل شعب الإيمان والإحسان من حال أو قول أو فعل . وقد تكرر في القرآن الكريم الأمر بها والحض عليها ، ومدح المتصفين بها . نزل في حقها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) فلما اشتد التكليف على بعض الصحابة ، الذين كانوا يتلقون الإيمان مع القرآن ، ورأوا أن حق الله في التقوى لا يدرك ، بُين لهم أن التكليف قائم على أصل مكين من قدرة الإنسان وطاقته ووسعه فنزل ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )

والشطر الثاني من الآية ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) هو تكليف مركب عزيز وصعب المنال . وهو كما قلنا متعلق بالآخرين وجودا ومعرفة . وقولنا وجودا يطرح السؤال عن وجود هؤلاء الذين أمر الله بالالتحاق بهم في كل عصر ومصر ؛ في عصور يقل فيها الصدق والصادقون والأمانة والأمناء – كما نص عليه الحديث الشريف . وقلنا تكليف مركب لأن الكينونة مع الصادقين تقتضي معرفتهم وتمييزهم ، ومن ثم الالتحاق بهم ، وتحمل عبء الصدق معهم  .. وهو أمر ليس سهلا في ظلمات الفتن ، وكثرة الدعاة على أبواب جهنم يزينونها ويزخرفونها ويطيبون ما قبح من ريحها الخبيث .

ولأهمية التكليف في الآية الكريمة ، والذي نمر به سراعا ، وكأنه لا يعني لنا الكثير ؛ تعددت بل تشعبت فيه آراء المفسرين ، فصرفه عن ظاهره العديد من أهل الصدق منهم .. فقال شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر الطبري  " كونوا في الدنيا من أهل ولاية الله وطاعته تكونوا في الآخرة مع الصادقين في الجنة " فخرّج الآية عن سياق العطف الذي جمع إلى التكليف بالتقوى تكليف الكينونة مع الصادقين ، إلى سياق الطلب وجوابه : كونوا من أهل التقوى في الدنيا تكونوا مع الصادقين في الجنة . فاعتبر الكينونة مع الصادقين وعدا ، وليست تكليفا ومطلبا . وعلل ذلك رحمه الله بقوله  : وإنما قلنا ذلك ، لأن كينونة المنافق مع المؤمنين الصادقين لا تنفعه . وربما غاب عن شيخ المفسرين أن الكينونة المطلوبة ليست الكينونة الجسمانية والفيزيائية فقط. بل هي كينونة القلب والروح والكل . كينونة الولاء ، ومن معاني الولاء النصرة والطاعة  والحب ..

مفسرون آخرون  حين عسر عليهم أن يرفعوا للصادقين عنوانا يدلوننا عليه مع تقلب الزمان ،  قالوا المقصود بالصادقين : كونوا مع رسول الله ، ومع أصحابه ، وتذكر هؤلاء أن الآية تعقيب على قصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك ...هؤلاء الذين تاب الله عليهم " بصدقهم " فكأنه يجمّل الاقتداء بهم ليفوز المسلم فوزهم .

وتوسع فريق ثالث بالتفسير فقال : إن  لمقصود بالكينونة مع الصادقين إعلان الولاء للخلفاء الأربعة " أبو بكر وعمر وعثمان وعلي " ومن كان على نهجهم  .. وهو تجسيد أو تجميد تاريخي لعنوان "الصادقين" لا نرفضه ولا نأباه ، ولكن نقول : فيه قصر من غير قاصر . والتكليفات القرآنية عامة مفتوحة على الزمان والمكان . وخطاب الآية ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) نداء للصادقين من المؤمنين في كل عصر ومصر ، ليكونوا مع بعضهم ، يكثروا سوادهم ، ويشد بعضهم أزر بعض . وهو المعنى الذي سيحققه لنا الإمام الفخر الرازي كما سنرى بعد قليل.

وقد ساعدنا لإمام القرطبي  رحمه الله تعالى في الدلالة على الصادقين فوصفهم بثلاث صفات ، فقال: الصادقون هم الذين يلازمون  "  الصدق في الأقوال ، والإخلاص في الأعمال ، والصفاء في الأحوال " ثم يعقب فيقول ، ومن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى ربنا الغفار .. وهي صفات عزيزة كما نرى ، فكيف لمكلف ضعيف قاصر أن يعرف في الآخرين إخلاصا وصفاء وهما من أعمال القلب وأحواله ..!!

وأبدع الإمام الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، في الوقوف عند الآية ، فقرر أن في الآية تكليفا . وأن هذا التكليف ماض إلى يوم الدين . وأن الصادقين بين المؤمنين موجودون  في كل عصر لا يخلو منهم زمان . وأن الصادقين ليسوا واحدا معصوما أو مزعوما كما يقول أهل البدع ، بل هم سواد عام من خيرة الخيرة من هذه الأمة . وأن على المسلم في كل عصر أن يكون مع الصادقين من أبناء عصره ، وان يلتحق بهم . ويضيف وقد ثبت عند أهل الإسلام أن الله لا يكلف عباده بما لا يطاق . فالتكليف بالكينونة مع الصادقين قائم يطالب المسلم به في كل عصر.

ونعود لنقول إن التكليف الرباني للمؤمنين والمؤمنات في كل عصر ومصر أن يلتزموا جانب التقوى ، وأن ينحازوا إلى أهل الصدق منهم فيكون بعضهم لبعض ظهيرا تكليف قائم ماض إلى يوم القيامة ما بقي الصادقون . وهو بعض الفرائض العينية في أمر هذا الدين . لا يمكن أن يجمع المؤمن إيمانا وتقوى ثم ينحاز لغير الصادقين ، ولا يمكن أن يجمع المؤمن إيمانا وتقوى ثم يخذل فيه الصادقَ من المؤمنين في موقف يكون فيه خذلانه خذلانا للإسلام والمسلمين .

وهذا من أعظم التكليف وأشقه  وأصعبه ، ويقتضي من المسلم نظرا وبحثا وتقصيا واجتهادا حتى لا يخطئ الاجتهاد فيكون تحت الرايات الدعيّة ولا العميّة. وأكثر ما يؤتى منه المسلم مخموم القلب أنه يغتر فيظن، فيخلط بين أهل الدعوة وأهل الدعوى ، أو يكون من جند الآخرِين، أو يسترسل من حيث لا يدري حينا من الدهر معهم ..

ففي حديث ابن ماجة عن سيدنا رسول الله : عن ابن عمرو رضي الله عنهما ، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أفضل ؟ قال " كل مخموم القلب صدوق اللسان " قالوا صدوق اللسان نعرفه ، فما مخموم القلب ؟ قال هو " التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد"

وسئل القاضي شريك بن عبد الله النخعي من قضاة القرن الثاني الهجري: يا أبا عبد الله رجل سمعته يكذب متعمدا أأصلي خلفه ؟؟؟ قال : لا ..

ولو أدركته لسألته : فخلْف من نصلي يا أبا عبد الله ..؟!!!

وأزيد فأقول : طوبى لمن صدق وكان لأهل الصدق مثابة ، ورفع للصدق ، حيث يكثر الهرج ، راية .

اللهم إنك تعلم أننا أردناهم فلا تحرمنا من أجر مخطئ إن لم يدركنا أجر مصيب .!!

اللهم اجمعنا على الصادقين وألحقنا بهم نتطيب بغبارهم ، وتوفنا تحت رايتهم وحول مثابتهم .

والحمد لله رب العالمين .

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 883