( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )

حديث الجمعة :

تسعى شريعة الإسلام إلى تحقيق مقاصد كي تستقيم حياة البشر كما أراد لها الخالق سبحانه وتعالى، والتي باستقامتها يتحقق استخلافهم في الأرض ، وابتلاؤهم في الحياة الدنيا لينالوا جزاءهم في الآخرة كل حسب سعيه . وتعرف هذه المقاصد بالكليات الخمس وهي حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ النسل ، وحفظ المال  وهي ضروريات  لا غنى للناس عنها ، وكلها على درجة واحدة من الأهمية ويتوقف حفظ الواحدة منها على حفظها جميعا .

ومعلوم أن هذه الكليات الخمس من أعظم النعم التي أنعم بها الله عز وجل على الإنسان ، وهي تستوجب منه الشكر ، وشكرها إنما يكون بحسن التصرف فيها وفق ما أمربه المنعم جل في علاه. ولقد تعبّدنا سبحانه وتعالى بحفظها ، وتوعد من ضيعها  متعمدا بغير وجه حق في الدنيا بشديد الوعيد في الآخرة  كما هو الشأن بالنسبة لعدم حفظ النفس مصداقا لقوله تعالى : ((  من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا )) ،وقد جاء قوله هذا سبحانه وتعالى مباشرة بعد ذكر قتل أحد أبناء آدم عليه السلام أخاه ظلما وعدوانا ، فشرع جل في علاه تحريم قتل النفس البشرية، لأن قتل النفس الواحدة هو بمثابة قتل البشرية قاطبة ، وإحياؤها هو بمثابة إحيائها قاطبة . وهذا الحكم لا يتعلق ببني إسرائيل وحدهم بل هو حكم شريعة الإسلام الذي هو الدين  الوحيد عند الله عز وجل من لدن آدم عليه السلام إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،والذي جاء به كل المرسلين صلواته وسلامه عليهم أجمعين . وفي قوله تعالى (( بغير نفس )) فيه إشارة إلى القتل الذي يستحل النفس بغير وجه حق ، و بلا سبب أو جناية، ويستثنى منه القصاص الذي شرعه سبحانه وتعالى  لحفظ النفس ، ولتستقيم حياة البشر مصدقا لقوله تعالى : (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )). ومع أن شريعة الإسلام تدعو إلى حفظ النفس، وتتوعد  من يزهقها  بشديد الوعيد ، فإنها في  نفس الوقت  تحفظها بالقصاص الذي هو إجراء عقابي لمنع الاعتداء عليها  ،ولأنه أفضل إجراء تحفظ به وإلا كانت عرضة للضياع .

وتتبين  قيمة حفظ النفس من خلال وعيد الله عز وجل لمن يتعمد إزهاقها في قوله تعالى : ((  ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما )) .وهكذا يجتمع على قاتل النفس المؤمنة غضب الله عز وجل، ولعنته، وعذاب الخلد في نار جهنم ، وحكم إزهاق النفس غير المؤمنة كحكم إزهاق النفس المؤمنة في شريعة الإسلام خصوصا إذا كان صاحبها صاحب عهد أو أمان أو ذمة ، وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما".

ولقد ورد في الذكر الحكيم نهي الله عز وجل عن قتل النفس في قوله تعالى : (( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما  ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ))  ،وفي هذا نهي  شديد عن قتل النفس سواء أزهق الإنسان نفسه أو أزهق نفس غيره .

 ومن قتل النفس الشائع في الناس الانتحار وهو أن يقتل الإنسان نفسه بطريقة من الطرق أو بوسيلة من الوسائل، وقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا فيها أبدا ، ومن شرب سمّا فقتل نفسه فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ". وهذا الوعيد الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على شناعة جرم الانتحار، لأنه اعتداء المنتحر على نفس وهبها الواهب سبحانه له ، ولا حق له في التصرف فيها بالقتل ، ولهذا كان عقابه الأبدي في نار جهنم أن يعذب بنفس الطريقة التي أزهق بها نفسه في الدنيا  إما وجئا أو طعنا بما وجأ نفسه، وإما احتساء بما احتسى من سم أو غيره ، وإما ترديا من علو، وإما بغير ذلك من طرق  وأساليب ووسائل الانتحار .

ولا شك أن وراء  جرم الانتحار أسباب تلتقي كلها عند اليأس من روح الله عز وجل وهو منهي عنه شرعا لأنه لا ييأس من روح الله عز وجل إلا الكافرون كما جاء في قوله تعالى : (( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) ،والكفر جحود برحمة الله عز وجل و بقدرته على إخراج الإنسان من حال  العسر إلى حال اليسر وهو سبحانه القائل : (( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا )) . وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسا وحياله جحر فقال : " لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى  يدخل عليه فيخرجه " ، كما يروى أنه خرج  صلى الله عليه وسلم يوما مسرورا فرحا وهو يقول : "لن يغلب عسر يسرين ، لن يغلب عسر يسرين ، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا " . ولا عذر ليائس يعمد إلى وضع حد لحياته  بعد هذا الذي بشّر به رب العزة جل جلاله ، وبشّر به  رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومعلوم أنه مهما يكن العسر المسبب لليأس، فلن يبلغ جسامة جرم الانتحار لأنه يكون هو منتهى اليأس الذي لا يرضاه له خالقه سبحانه وتعالى لسعة رحمته التي وسعت كل شيء ، والتي لن تضيق بيائس مهما كانت أسباب يأسه .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو أن الأخبار نقلت إلينا على ما يبدو ثلاث حالات انتحار في أسبوع واحد في شمال البلاد ووسطها وشرقها . والمؤسف أن الحالات الثلاث كلها تتعلق بمنتمين إلى قطاع التربية ،شاب في مقتبل العمراعترض القطار السريع فمزعه ، ورجل كهل ، وامرأة في الأربعين من عمرها ترديا من أعلى المباني .ولئن كانت ظاهرة الانتحار شائعة في مجتمعات لا تدين بدين الإسلام ، ولا يعتقد أهلها أنهم في هذه الحياة الدنيا يمتحنون ليسألوا عن ذلك في الحياة الأخرى ، ومن كانت الدنيا همه ونهاية غايته  يكون لا محالة  عرضة لليأس المفضي إلى التفكير في الانتحار إذا ما تعثرت حياته ، فإنه من المؤسف أن تنتقل عدوى هذه الظاهرة السلبية إلى مجتمعات تدين بدين الإسلام، وأهلها أهل إيمان يؤمنون بالله عز وجل وباليوم الآخر ، ويعلمون علم اليقين أنه لا قيمة للحياة الدنيا الفانية أمام الحياة الأخرى الأبدية ، لهذا لا يحزنوا على ما فاتهم منها ، ولا يصيبهم اليأس من ذلك ، ولا يخطر ببالهم الانتحار للخلاص من المعاناة .

ولهذا وجب كلما نقلت الأخبار حالة من حالات الانتحار التذكير بشناعته عند الله عز وجل، وبما أعد لمن ينتحر من شديد العقاب الأبدي في الآخرة لثني كل من يفكر في الانتحار عن ذلك مهما ساءت ظروفه ، ومهما بلغ به العسر الذي وعد الله عز وجل بيسرين يعقبانه ، وعسى أن يكون الصبر عند العسر طاردا لليأس ، وباعثا على أمل موعود من الله عز وجل .

اللهم إنا نعوذ بك من اليأس من روحك ، ونسألك يسرين بعد كل عسر ، ونسألك الصبر عند كل عسر ، ونسألك العافية من كل بلية ، ونرجو رحمتك التي وسعت كل شيء ، ونطمع في مغفرتك التي وعدت بها عبادك التائبين المستغفرين إنك يا مولانا إن تجد من تعذب غيرنا فلن نجد من يرجمنا سواك .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .   

وسوم: العدد 884