( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) الأعراف (199)

وجيز التفسير :

" خذ العفو "

ونمر على مجالي القرآن الكريم ، وكل لفظ فيه مثل عروس مجلوة ، يبهرنا الجمال والحسن والعذوبة والسهولة ، فنظن أننا ملكنا وحكمنا ، وما ندري أن وراء كل لفظ جبلا من  العلوم والمعارف والأساليب والمناهج ، يحار فيها الألباء ، وتشكل على الباحثين الفهماء . ويقول لك أمرا ، والأمر للوجوب : خذ العفو ..

ويسبق عقل بعض المفسرين إلى فعل الآخذ ، ويتذكرون قوله تعالى ، ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) فيركبون هذا على هذا ، ويقولون خذ ما زاد عن حاجتهم من أموالهم الفردية لصلاح حالهم الجماعية . ويكون لهم في توجيه المعنى في هذا السبيل روايات وأقوال ..

وينظر آخرون إلى السياق العام ، فلا يرون الحديث في الآية يجري عن صدقة ولا عن اقتصاد ولا عن مال ؛ وإنما تبحر الآيات في بحار من المعارف في عوالم العقول وصور النفوس ما لا يكاد يحيط به إحصاء ..

تتأمل فإذا قوله تعالى "  خذ العفو " منهج حياة ...

منهج حياة عقلية يقول لك : كن متفهما . ومنهج حياة قلبية  يقول لك : كن متسامحا . ومنهج حياة عملية يقول لك : يسر ولا تعسر . ومنهج حياة شرعية يقرأ عليك : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ، وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) فيفرض عليك أيها المدعي السبق بالخيرات ، أو المشترط شرطها على الناس ، أن تقبل في صفوف المصطفين من وراث الكتاب ظالمين لأنفسهم ومقتصدين . ويفرض عليك حين تعايش الناس وتدانيهم وتقاربهم أن تظل تتذكر : إلا اللمم .

"خذ العفو "منهج حياة اجتماعية يسهل عليك أن تقبل أن في الرجال من يلبس غير الأبيض ، وفي النساء من تلبس غير الأسود . وهذا رمز لما وراءه . وكنا قد حفظونا ونحن أطفال :

واحذر المصبوغ بالألوان ..فإنه ملابس النسوان ..

ثم لما ذهبوا ليفتوا للنساء حرّجوا عليهن أن يلبسن غير السواد . وأن .. وأن .. وكأن العربيات في جزيرة العرب كن يملكن ترف من يذهبن إلى دور الأزياء ..!!

" خذ العفو " ولا أرى كلمة أليق في مقابلة العفو في سياقها هذا من كلمة " الحرج " كلما حرّج على الناس أكثر كان أفقه وأتقى وأورع وأجدر أن يتبع . قل : لا ..حتى القهوة والشاي قالوا حرام . ,صدرت في تحريمهما الفتاوى ، وكسّرت بناء على هذه الفتاوى " حانات القهوة " وأريقت أباريق الشاي ، والأمر في الشاي والقهوة قريب .

قال : ياصاحب الحوض أترد حوضك السباع ؟ حرصا على طهورية الماء ..

وقاطعه عمر الذي  فقه معنى " خذ العفو " فسبق ، يا صاحب الحوض لا تخبرنا !!

خذ العفو : لا تدقق ...

منذ عقدين تقريبا تابعت أن أحدهما أرسل شرابا مكتوبا عليه خال من الكحول إلى أحد مختبرات سويسرا ليتأكد فجاءته النسبة كذا في الألف ..وما درى أن كأس العصير بين يديه في حر الصيف تتجاوز ..

خذ العفو ..

ويقول لك محذرا أن المرهم " باء " بعد الكشف والتحليل والتدقيق تبين أنه يحتوي على ..وأن الدواء الفلاني فيه نسبة ..

( كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ) في كتاب الله محفوظة . ( قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ..) متلوة ..

وليت الأمر وقف عند حد الأكل والشرب والادهان ..

خذ العفو :

قالوا يا رسول الله تحدثنا أنفسنا بالكلمة لئن نخر من السماء أيسر من أن يتكلم بها ..!! لم يستهجن ، لم يستنكر ، لم يفظّع ، لم يتهم ، لم يقل لهم ياضعاف الإيمان ، ياقليلي اليقين ، بل اختصر الموقف بكلمتين : الاعتراف به فهذا الذي شكوا منه يكون ، وسمى ما يجدونه بالوسوسة وسمى تعاظمهم للأمر بصريح الإيمان  ثم  رده فقال : الحمد لله الذي رد كيده - كيد الشيطان - إلى الوسوسة . وانتهى . والحديث عند مسلم وغيره من رواية ابن مسعود وابن عباس

خذ العفو:

ولو أراد عالم متمكن من علماء الشريعة وعلماء السلوك وعلماء النفس وعلماء الاجتماع أن يؤلف كتابا وجعل من قوله تعالى " خذ العفو " عنوانا له ؛ لأفاد وأجاد وأبدع وسبق. 

وفي المقابل كم أرهق المجتمعات المسلمة وأشغلها ومزقها وفتتها تنكب سبيل هذا الأمر الرباني ، والمنهج الرباني ...

أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ؟!

أريد أن أقول : أأذكر أم يكفي الذي عشناه وعايشناه كجيل أسس لجيل ،  ولجيل وأدخلنا أمتنا في ضياع الأجيال .  والمشكلة ما يزال الحجار يحجّر والنجار ينجّر ويحسبون أنهم يحسنون صنعا .

يتحدث الكثيرون هذه الأيام عن " تجديد الخطاب الديني " ولكن محمد إقبال رحمه الله تعالى ، فيلسوف الإسلام العظيم ، وشاعر الإسلام العظيم ، تحدث منذ قرن عن  "تجديد التفكير الديني " تجديد التفكير الذي يبنى عليه الخطاب . كيف تجدد الخطاب ما لم تجدد العقل وقوانيه ، تصحح مدخلاته ومخرجاته . ونحن الذين نحفظ :

وزن بميزان الشرع . وخذ العفو المثقال الأول في ميزان الشرع .

وأخذ رسول الله صلى الله عليه " العفو " وجمع حوله أمة من المؤمنين المخلصين العمالقة الكبار . أحيا شعبا من الأجداث . أخذ منهم العفو . وأخذوا من العالم ومن الشعوب التي انفتحوا عليها العفو فكان ما كان ..من السلم والسلام والأمن والأمان والحب والوئام والمجد والسؤدد .

وفي قوله : وأمر بالعرف منهج للحياة آخر وإذا يسر المولى نعود.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 890