( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكّل المؤمنون )

لمّا اقتضت إرادة الله عز وجل ابتلاء واختبار الإنسان في الحياة الدنيا كان لا بد أن يكون الابتلاء بما يسره وما يحزنه ، ذلك أن الابتلاء بما يسر يستوجب الشكر لله تعالى ، وبما يسوء يستوجب الصبر وحبس النفس عن الجزع . ولا  ينضبط لهذا السلوك سوى الإنسان الذي أنعم الله عز وجل عليه بنعمة الإيمان وكفى بها نعمة ، وهو سلوك مثار إعجاب كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه :

 " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له "

وإن هذا  الحديث كالعديد من الأحاديث النبوية الشريفة التي تعتبر معيارا  يسبر به الإنسان درجة إيمانه ، ذلك أنه على قدر شكره على السراء ،وصبر على الضراء يكون نصيبه من الإيمان ، علما بأن الإيمان في حقيقة أمره عبارة عن قناعة راسخة ، ويقين لا يلابسه شك  بما أوحى به الله عز لرسوله صلى الله عليه وسلم سواء أدركته العقول أم لم تدركه .

وبداية هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم بكلمة " عجبا " سواء حملت على أنها مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره أعجب أو حملت على أنها منادى حذف حرف ندائه،  تفيد العجب الذي هو روعة تأخذ الإنسان عند استعظام شيء فوق العادة أو فوق التوقع والانتظار والحسبان .  ووجه العجب في أمر المؤمن الذي ليس لأحد غيره أنه يجمع بين خصلتين على طرفي نقيض، ذلك أن حلول السراء  بالإنسان وهي نعمة  غالبا ما يوقعه في العجب ـ بضم العين ـ وهو غرور وزهو، وقلما يحضره الشكر الذي ليس هو مجرد ثناء باللسان على النعمة  بل هو استخدامها في طاعة المنعم . فلو أن إنسانا أنعم على غيره بشيء ، فشكره على ذلك بلسانه ، ولكنه استعمله في غير الغرض الذي أعطي له ، فإن ذلك ينقض شكر لسانه ، ويكذبه  وذلك كأن يعطى الإنسان مالا لينتفع به، فيستعمله في مضرة نفسه أو مضرة غيره أو الإساءة إلى الذي أعطاه إليه ، فكيف سيكون موقف المعطي منه ؟ وأما حلول الضراء بالإنسان ، وهي نقمة  غالبا ما توقعه في الجزع والسخط ، وقلما يحضره الصبر وهو حبس النفس عنهما . وليس الصبر ادعاء باللسان  بل هو تحمل يترجمه فعل أو سلوك . فلو أن إنسانا أساء إليه غيره بشيء ، فعبر عن تحمله الإساءة بلسانه، ولكنه أظهر عكس ذلك بفعله وسلوكه ،لم يكن صادقا  في تحمله ، ومثال ذلك أن يؤذي جار جاره، فيعبر هذا الأخير عن تحمله الأذى بلسانه، لكنه في قرارة نفسه يتألم شديد الألم ، وربما شكاه لغيره للتشهير به ، أوشتمه وسبه في غيابه  ، وقد يذهب بعيدا في كيله الصاع صاعين كما يقال حين تواتيه الفرصة  ،فما هذا بصابر بل هو جازع .

والجمع بين الشكر على مصيبة السراء  وبين الصبر على مصيبة الضراء ليس بالأمر الهين والمتاح لكافة الناس بل هو أمر مثير للعجب حقا ، ولا يكون ذلك إلا لمؤمن صاحب يقين راسخ بالله عز وجل ، وبأنه سبحانه هو من يصيب بالسراء وبالضراء ابتلاء وامتحانا ليجازي الشاكر على الأولى والصابر على الثانية  في الآخرة  بعد المعاد ، وقد يسبق الجزاء على ذلك  في الدنيا  ليكون سراء أخرى تستوجب مزيد شكر  وتكون ابتلاء جديدا ، أو ضراء أخرى  تستوجب مزيد صبر وتكون أيضا ابتلاء آخر فتبدو نقمة لكن في طيها نعمة كبرى تكون عبارة عن جزاء أعظم  يدّخر  لصاحبها في الآخرة  .

ولا يكون الجمع العجيب بين الشكر على السراء ، والصبر على الضراء إلا بتوفيق من الله عز وجل لمن أراد له التوفيق ، وأنعم عليه ب قوة الإيمان  ورسوخه . ومن الإيمان أن يعتقد المؤمن اعتقادا جازما بقول الله اتعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم :

 (( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون))

فمع أن مناسبة هذا القول هو رد على  ما كان من فرح المنافقين بما أصاب المؤمنين في غزوة من الغزوات إلا أن العبرة  بعموم  لفظه لا بخصوص سببه، ذلك أن هذا القول يرفعه كشعار كل مؤمن صادق الإيمان حين تصيبه مصيبة مهما كان حجمها ، ويكون ردا على من يفرح بمصابه خصوصا إذا كان ممن يفرح بمصائب المؤمنين من كفار أو منافقين .

وقول المؤمنين : (( لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ))  هو تعبير عن يقين راسخ لا يتزعزع  بأن الأمر كله بيد الله تعالى ، وأنه كله خير بالنسبة إليهم سراؤه وضراؤه ، وأن الله عز وجل لا يكتب لهم إلا ما فيه خيرهم في عاجلهم وآجلهم ، وقد جاء في بعض التفاسير أن تعدية فعل كتب باللام  يفيد أنه الذي يكتبه الله عز وجل  سراء وضراء لا يكون إلا  لنفعهم  .

 والمؤمن حقا من يعتقد يقينا لا ارتياب فيه  أن الضراء مهما كانت قد جعل الله تعالى فيها  خيرا يكون إما منفعة معجلة في الدنيا أو جزاء عظيما  مؤجلا في الآخرة أو هما معا ، ولا يحصل هذا اليقين الذي يحبس النفس عن الجزع إلا لمؤمن ، ذلك أن من لا يستيقن أن الضراء خير يريده الله عز وجل بمن تصيبه يجزع ويحزن ، وقد يذهب بعيدا في التعبير عن تذمره من مصيبته بل قد يوسوس له الشيطان الرجيم فتحدثه نفسه بسوء الظن بخالقه الذي ابتلاه لينفعه لا ليضره ، وهو سبحانه الذي لا يريد إلا الخير بخلقه .

والمألوف لدى الإنسان أنه قد يحب ما فيه شر له ، وقد يكره ما فيه خير له . ومما يكرهه عادة  نزول المصائب به، والتي تسبب له معاناة لا تستطيع نفسه تحمّلها إلا إذا حبسها عن الجزع بالصبر والتحمل. وقد يتشوق الإنسان إلى ما يظن فيه خيرا له ، فإن  لم يصبه تحسّر عليه ، ومع مرور الوقت يتبّن له أنه قد أخطأ الظن والحساب ، فيحمد الله عز وجل أن صرفه عنه . وفي المقابل قد يكره ما يظن فيه شرا له ، فإذا ما أصابه جزع  وشكا ، ومع مرور الوقت يتبّن له أن فيه خيرا كثير ، فيحمد الله عز وجل الذي ساق إليه ذلك الخير الكثير في طيّ نقمة و ما ظنه شرا له .

ومسار الإنسان في هذه الحياة يتأرجح بين محبة أمور وكراهية أخرى ، وهو لا يدري ما وراء ما أحب من شر ، ولا ما وراء ما كره من خير إلا بعد حين . وقد يكره مسارا سلكه  في حياته حتى إذا تبيّن له ما جعل فيه الله عز وجل من خير لم يعد يفكر في غيره ، ولو  أعطي فرصة ، وخيّر بين مساره الذي كتبه الله عز وجل له  وبين مسار آخر مما كان يتمنّاه لاختار ما كتبه له مسرورا و راضيا مطمئن القلب  ،ولم يؤثر عليه  غيره  مستيقنا بأن الخير فيما اختاره الله عز وجل.

وحين يسليم المؤمن  يقينا بأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله عز وجل له، يعبر عن ذلك بقوله : (( هو مولانا )) ، والمولى هو السيد المالك الذي لا يفرط فيمن يتولاه ، ولا يريد به إلا الخير ، وهي عبارة تؤكد يقينه بأنه لا يصيبه من مولاه إلا الخير ولو تعلق الأمر بضراء. ويزداد توكيد هذا اليقين بقول الله تعالى  : ((  وعلى الله فليتوكّل المؤمنون )) ،وليس ذلك إلا للمؤمنين كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أمر عجب منه عليه الصلاة والسلام . ووجه العجب فيه أن الذي يصيبه الخير إن لم يكن له حصن من إيمان ،فإنه لا يمكنه أن يؤدي شكره على الوجه المطلوب بحيث يستعمله فيما يرضي الذي كتبه له سبحانه وتعالى بل قد يستعين به على معصيته ،وهو أقبح كفران على الإطلاق . والعجيب في أمر المؤمن أن يأخذ نفسه مكرهة  بشكر ما أصابه من خير باستعماله في طاعة خالقه سبحانه وتعالى على ما يكون فيه من إغراء بالعصيان لا تثبت أمامه النفس المفتونة بالهوى .

وغير المحصن بالإيمان لا يمكنه تحمل الشر وحبس النفس على الجزع منه  بل قد  يسيء بربه الظن  ، وينطق بموبق القول. والعجيب في أمر المؤمن أن يكره نفسه على تحمل معاناة الشر الذي يصيبه على ما جبلت عليه من جزع ، وهو ليس بالأمر الهيّن . وهكذا يكون حال المؤمن  الذي ليس لغيره ممن لا حظ له من إيمان مع الخير والشر إذا أصاباه .

مناسبة حديث هذه الجمعة مرتبط كحديث الجمعة السابقة بموضوع الجائحة التي حلت بالناس في المعمور مؤمنهم وكافرهم ، ولكل شأن في التعامل معها . وليس للمؤمنين في التعامل معها سوى ما جاء في قول الله تعالى : (( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكّل المؤمنون )) ، وما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك  لأحد إلا المؤمن ، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء  صبر، فكان خيرا له "  

لقد أصابت الجائحة، وهي ضراء  فئات من الناس  عبر المعمور مؤمنهم وكافرهم ، فشفي منها من شفي ، وقضى بسببها من قضى ، ولكن اختلفت أحوال المصابين بها ، فكان منهم الصابر عليها  بإيمانه وأمره عجب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ،والجازع  منها بلا إيمان  أو بضعفه . أما من قضوا بسببها من المؤمنين وهم صابرون قد احتسبوا الأجر عند مولاهم سبحانه وتعالى ،فقد فازوا بالشهادة إن شاء الله تعالى  وما معها من نعيم مقيم في الجنة  ، وهو خير لهم لم يكن في حسبانهم ، وأما من عافاهم الله تعالى منها وقد صبروا، كان ذلك لهم طهورا، ولن يضيّع الله عز وجل أجورهم  في الآخرة، وهي على قدر صبرهم . ومن جزع منهم دون سوء ظن بريهم، فعسى أن يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين .

اللهم إنا نسألك الشكر إذا حلت  بنا السراء شكرا يرضيك ، ونسألك الصبر إذا حلّت بنا الضراء صبرا يرضيك ، ولا قدرة لنا على ذلك إلا بحولك وقوتك . اللهم اجعل لنا في الشكر على السراء ، وفي الصبر على الضراء مزيد إيمان تنور بها قلوبنا يا مقلب القلوب وثبتها ثباتا من عندك .اللهم تجاوز عنا يا مولانا كل تقصير في الشكر على السراء ، وكل تقصير في الصبر على الضراء ، واجعل اللهم توكلنا عليك  توكل يقين ، واسلكنا  يا ربنا في زمرة عبادك المؤمنين ، ولا تخزنا في عاجل ولا في آجل . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 898