واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم

(  واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا )

من المعلوم أن كتاب الله عز وجل يتضمن كثيرا من الامتنان  بنعمه التي لا يحصيها عد  ولا يؤدي شكرها شكر على عباده سواء من آمن منهم به أومن كفر. ومن تلك النعم نعمة قد لا يلتفت إليها كثير من المؤمنين وهي التأليف بين قلوب تكون بين أصحابها عداوة ، فتتحول بفضل هذه النعمة إلى أخوة .

 والعداوة  عبارة عن تباعد القلوب وتنافرها، وينتج عنها كره أو بغض يفضي إلى خصام وتناحر وقتال. أما الأخوة فعبارة عن صلة قرابة تجعل القلوب متقاربة ومتآلفة ، وتنتج عن ذلك محبة تفضي إلى انسجام وتناغم ووئام وسلام وأمن .

ولا سبيل إلى تبيّن حقيقة نعمة التأليف بين القلوب إلا بمعرفة نقمة العداوة . ولقد نزل قول الله تعالى فيمن كانت بينهم عداوة في جاهليتهم قبل حلول نعمة الإسلام بهم سواء من  كان منهم في مكة أو كان في يثرب حيث كانت القبائل العربية تعيش حالة من الحروب الطاحنة الطويلة الأمد والباهظة الثمن كما كان الشأن بالنسبة  للحروب قبيلتي  الأوس والخزرج  في المدينة التي دامت مائة وعشرين سنة .

 ولما كان القرآن رسالة الله عز وجل للعالمين ، فإن أسباب نزوله لا تعني اقتصار أحكامه على من نزل فيهم بل تتعداهم إلى غيرهم ممن يأتي بعدهم حتى تقوم الساعة ، وعليه فالعداوة بين الناس في كل زمان ، وفي كل مكان حاصلة بينهم لا محالة مادامت نعمة تأليف الله عز وجل بين قلوبهم محجوبة عنهم  .

والله تعالى كما أحل نعمة التأليف بين  قلوب من كانت بينهم عداوة في الماضي ،فهو سبحانه يخص بها أيضا غيرهم في كل وقت وحين .إلى أن تقوم الساعة .

وبيان حقيقة هذه النعمة هو أن يحصل بين الناس الاعتصام بحبل الله عز و جل مصداقا لقوله تعالى : ((  يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ))، والاعتصام  لغة هو الامتناع أو التحصن بشيء يمنع من وقوع ما لا تحمد عقباه . ولما كان الحبل أو السبب هو الوسيلة المانعة من السقوط من أعلى برا أو من الغرق بحرا، فإنه يعتصم به للنجاة من الهلاك المحقق . وقد جعل الله تعالى دينه الذي ارتضاه لعباده المؤمنين عبارة عن حبل معنوي يقابل الحبل الحقيقي ، فيسد مسده في  المساعدة على النجاة مثله  لكن من أكبر هلاك على الإطلاق . ولا يحصل الاعتصام بهذا الحبل إلا بما أمر به الله عز وجل من تقوى على الوجه الأمثل الذي تتحقق وهي طاعته الكاملة فيما أمر وما نهى . وحق تقاته سبحانه وتعالى تكون مما يستطاع وليس مما يستحيل إذ لو استحالت لما أمر بها سبحانه وتعالى، وهو الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وقد بين سبحانه ذلك في قوله : (( فاتقوا الله ما استطعتم )) . وقوله تعالى : (( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) بيان لحقيقة تقواه  إذ يلتزم المتقون بذلك طيلة حياتهم حتى يرحلوا عنها وهم على  تلك الحال ، وليس المقصود الإسلام ساعة حلول الموت ، وذلك هو الاعتصام بحبله الذي هو بدينه الذي ارتضاه لهم ، وبيّنه  لهم فيما أنزل من قرآن كريم .وقد ورد في الأثر أن القرآن الكريم هو حبل الله عز وجل .

ولما كانت تقوى الله عز وجل، وهي طاعته على الشكل الذي يرضاه ، فإنه سبحانه وتعالى جعلها طاعة جامعة تجمع بين أفراد المؤمنين ، لهذا أمرهم سبحانه جميعا الاعتصام بحبله ، وهو اعتصام جامع  يحصل من اعتصام كل فرد منهم على حدة ، وبذلك يحصل الاعتصام الجامع .

ولقد أكد الله تعالى ضرورة هذا الاعتصام بقوله : (( ولا تفرقوا ))  وأهل العلم بأساليب القرآن الكريم قالوا إن الشيء يؤكد بضده ، واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى : (( قد ضلوا وما كانوا مهتدين ))  حيث تأكد ضلال الضالين بنفي الهداية عنهم ، وكذلك الشأن هنا بالنسبة للاعتصام حيث  تأكد بنفي ضده وهو التفرّق  .

وبتقوى الله عز وجل اعتصاما بحبله تنال نعمة التأليف بين القلوب ، وتصبح العداوة إخاء ، وتحصل النجاة من سوء المصير كما جاء في قوله تعالى : (( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون)) ، إنه الإنقاذ الإلهي من هلاك فظيع، قربه  من فهمنا من خلال صورة حفرة بها نار ملتهبة ، وليس بينها وبين الواقعين فيها سوى طرفها أو شفتها ، والواقف على طرف حفرة أو شفا بئر يوشك الوقوع فيهما ، والصورة تؤكد مدى وشك وقوع المخاطبين  في هذه الآية في هلاك محقق لولا تدخل عناية الله عز وجل لإنقاذهم منه ، وذلك دليل من أدلته  المقنعة سبحانه  عسى أن تحصل الهداية للمخاطبين فيهتدوا بها إلى تقواه والاعتصام بحبله المنقذ المنجي .

وليس من قبيل الصدفة أن يأمر الله عز وجل عباده المؤمنين  بتقواه والثبات على دينه والاعتصام بحبله بعد تنبيههم  ممن يصدونهم عن ذلك قائلا : (( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم )).  وما حذر الله تعالى من هذا الفريق من أهل الكتاب الذي يكيد للمؤمنين لردهم كفارا  بعد إيمانهم إلا لوجوده في كل زمان ومكان ، وليس كيدهم مقتصرا على زمن من كانوا سببا في نزول هذه الآية  بل هو مستمر في الزمان إلى نهايته بقيام الساعة ،الشيء الذي يجعل حكم الحذر من كيدهم يشمل  كل من سيأتي من المؤمنين إلى آخر الزمان  .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما تعيشه الأمة المؤمنة اليوم من تفرق ،وتمزق ،وتشرذم ،وشتات ، وقد انطلت عليها حيل الفريق  الكائد الذي حذرها  الله عز وجل  من كيده لصدها عن الاعتصام بحبله بعد تمسكها به . ولولا كيد ذلك الفريق الكائد لما تفرق المؤمنون اليوم  بعدما كانوا من قبل معتصمين بحبل ربهم الذي لا خلاص بدونه من كيد أولئك الكائدين ومما يخططون له لصرفهم عن آيات كتابه سبحانه وتعالى ، وهي تتلى عليهم وصرفهم عن هدي سنة رسوله  صلى الله عليه وسلم المبعوث للعالمين.

ولقد ترتب عن الغفلة عن الاعتصام بحبل الله عز وجل كتابا وسنة  انتفاء  نعمة الألفة بين قلوب المؤمنين في هذا الزمان ، و حلت بهم نقمة انفصام عروة الأخوة بينهم ، وصاروا أعداء كما كان السابقون من قبلهم في جاهليتهم قبل أن تتداركهم نعمة الإسلام.

وإنه لا سبيل إلى استعادة نعمة الألفة بين قلوبهم، ونعمة الأخوة بينهم إلا بتقوى الله عز وجل والاعتصام بحبله المتين، وهو كتابه المنزل الذي فيه نبأ ما كان قبلهم ، وخبر ما بعدهم ،وحكم ما بينهم كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن نتائج ترك الاعتصام بهذا الحبل المتين ميل الأمة المؤمنة اليوم إلى  التشرذم والنبش في العصبيات  المنتنة الطائفية والعرقية واللغوية ،وقد نهوا عن ذلك أشد النهي في الكتاب والسنة . ومع وجود ما يجمع بين هذه الأمة، فإنها وبكيد من حذرها  الله عز وجل من كيدهم تميل إلى الشتات، والفرقة، والقطيعة ، والعداء والحروب الطاحنة والمدمرة والمهلكة للعباد والبلاد . وإن كيد الكائدين قد فرق بين المؤمنين من نفس الشعب أو نفس القبيل ، أومن نفس الموطن، فجعل بعضهم يتنكر لهوية الموطن الواحد ، ويروم تمزيقه إلى رقع  يسهل على الكائدين اكتساحها واستغلال خيراتها ومقدراتها دون أن ينصت المارقون من هويتهم إلى نداء الشرع والعقل بالسعي إلى وحدة تجمعهم ، وتجعل لهم شوكة وصولة .فهاهم المغرر بهم من بني جلدتنا في أقاليمنا الجنوبية قد تنكروا لهويتهم  الجامعة ، وحملوا السلاح ضد أهلهم وإخوانهم على الطريقة الجاهلية المذمومة شرعا بتحريض من الطائفة الكائدة وأذنابها من المحسوبين على الإسلام والجوار يا حسرتاه .

وأخيرا نحذر أمة الإسلام مما حذرها  منه الله عز وجل، وهو التفرق بترك الاعتصام بحبله وبعروته التي لا انفصام لها . وإن هذه الأمة لعلى شفا حفرة المخاطر المهلكة عاجلا وآجلا ما لم يتداركها الله عز وجل بلطفه ورحمته عن طريق التأليف بين قلوب أفرادها ليصيروا إخوانا بعد عداء .

اللهم إنا نسألك ألطافك الخفية بأمة الإسلام ، ونسألك أن تبصرها بما يكيد لها أعداؤها  من كيد ظاهر وباطن ، وأن تلهمها قادة وشعوبا العودة العاجلة إلى الاستمساك بحبلك المتين ، وبعروتك الوثقى . اللهم اجعل الخير في قادتها وفي شعوبها ووفقهم جميعا إلى ما فيه خيرهم وعزهم ، وخيّب اللهم آمال الكائدين واجعل اللهم كيدهم في نحورهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين. 

وسوم: العدد 904