من نفحات شهر الهدى والفرقان، موئل للإرادة

إرادة الإنسان هي محور أفعاله وأقواله ، فبإرادته يتكلم بما شاء وكيف شاء ، وبإرادته يتحرك في أي وجهة كانت ، معتمدا على ذلك بما لديه من قيم وعادات واتجاهات ، وبما اكتسبه من  مدرسة الحياة ،  فهذه الحالة هي موئل الإرادة التي تلازم حياة الإنسان إلى آخر يوم في حياته . وهذه الحالة تسيِّرُها قيمٌ آمن بها ، وجعل منها سلوكا يُعرف به بين الناس . فلا يعبأ بالجوع ولا ينال من إرادته العطش ، ولا تغره اللذائذ حتى المباحات منها

والصوم موئل إرادة : استجابت لأمر الله سبحانه ، وصاحبُها لبَّى هذا النداء ، طمعا برضوان الله ، حيث وجد الصائم مايغريه أكثر إلى التلبية ، وقد أخذ بمقتضاها ، فلا يخالف عناصر القيم الواردة في النهي عن الرفث والصخب ، وعدم الوقوع في براثن القيل والقال ، ويعمل عمل السفهاء ، ويترفع عن سفاسف الأمور ، فالصوم في الحقيقة ، فالصوم وقاية وستر وحماية من كل مايؤثر على صحة الصوم وقدسيته . وأما فرحة الصائم العظمى فهي يوم يلقى الله ، ويدخل الجنة من باب الريان ، فذلك هو الإكرام الذي مابعده إكرام . فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمدٍ بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه )رواه البخاري ومسلم .

هنا تتجلى تربية الصوم في تقوية الإرادة ، فتقبل النفس على الصيام وهي راضية مطمئنة ، وهذا من أثر التشريع الإسلامي ، إنَّ موعد الصيام المفروض في شهر محدد ، ومدة الصوم محددة ، وخلالها لاطعام ولا شراب ولا أي عمل ينافي قدسية الصوم ومكانة الشهر المبارك ، ومن آثار الصوم الجليلة تزكية النفوس وعروج الأرواح على رفارف السمو ، فتتلاشى لدى الصائم كلُّ مافي الدنيا من الشهوات والملذات ــ المباحات ــ من طلوع الفجر إلى غياب الشمس . فمن يملك زمام نفسه ، ويمتطي صهوة صبره ، ويطلق العنان للسانه بذكر الله ، وينأى عن مواطن اللغو والسوء وقبائح الصفات ... فقد قويت إرادته وسمت نفسُه ونال المكانة التي وعده الله بهـا .

الصوم إذا قام المسلم بآدابه وأخذ بقيمه وأغنى ذاته بالإرادة المتولدة منه ، فإنه يجد آثار الصوم على نفسه وعلى معاملاته مع أسرته وجيرانه ومجتمعه . إن الصوم يصفع كل المغريات التي تجر الناس إلى الخسران في الدنيا والآخرة  ، إنه الإرادة التي لاتنكسر أمام كل الإغراءات ، فالصوم من آثاره أيضا التدريب على الصعود على مدارج الرفعة ، وتلك مرتبة ينالها المثابرون أصحاب تلك الإرادة التي هي من آثار الصوم . يقول المولى تبارك وتعالى :

 ( يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ (183) أَيَّاما مَّعدُودَات فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَو عَلَى سَفَر فَعِدَّة مِّن أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُۥ فِديَة طَعَامُ مِسكِين فَمَن تَطَوَّعَ خَيرا فَهُوَ خَير لَّهُۥۚ وَأَن تَصُومُواْ خَير لَّكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ (184) شَهرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ٱلقُرءَانُ هُدى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ ٱلهُدَى وَٱلفُرقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهرَ فَليَصُمهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَر فَعِدَّة مِّن أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱليُسرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلعُسرَ وَلِتُكمِلُواْ ٱلعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ (185)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَليَس تَجِيبُواْ لِي وَليُؤمِنُواْ بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ ) 186/ البقرة .

    تفعيل ميزة الإرادة هو بوابة العمل الجاد والإنجاز المميز ، للرقي الاجتماعي ، والسعي في مناكب الأرض يكون ذا عطاء إذا قادته الإرادة التي أوجدتها وهذبتها شريعة الله سبحانه وتعالى ، فحين يكون الهدف واضحا ، ووسائل العمل جاهزة ، والإرادة متحفزة لسعي جاد آثاره ستكون ملموسة بإذن الله  . الناس الذين لايدينون بالإسلام قد نراهم جادين ومنجزين ، أولئك مسؤولون أمام أصحاب العمل ، ويخشون معاقبة النظام لهم  ، والفرق بين الحالين كبير جدا ، أولئك ليس لهم نصيب في الآخرة ، وإنما نالوا حظهم الدنيوي ، وأما المسلم فيشعر غير الشعور الذي يتملك غيره من غير المسلمين ، إنه يعمل ويخشى الله في عمله ، وإنه يتقن عمله ، وهويعلم علم اليقين بأن الله يراقبه ، وإن الله سيثيبه ، فيحدوه عندئذ : ( فإذا عزمت فتوكل على الله ) .

وسوم: العدد 926