الحلقة الثالثة من أحاديث رمضان : (( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ))

من المعلوم أن الغاية من العبادات التي تعبّدنا بها الله عز وجل هي تحصيل التقوى ، وهي شرعا تطلق على الحذر من عقاب الله تعالى باتّباع أوامره واجتناب نواهيه . ولقد مر بنا في حلقة سابقة من هذه الأحاديث  أن المرجو من صيام الأيام  المعدودات في شهر رمضان هو تقوى الله تعالى كما جاء في قوله تعالى : (( لعلكم تتقون أياما معدودات )) . وليست عبادة الصيام وحدها التي يرجى أن تحقق هدف تقوى الله عز وجل بل كل العبادات ، وقد وردت آيات في الذكر الحكيم تؤكد ذلك ، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قول الله تعالى في سياق الحديث عن عبادة الصلاة  والزكاة في فاتحة سورة البقرة : (( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين  يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ))، فالملاحظ في هذه الآية الكريمة هو ذكر تقوى الله عز وجل مقترنة بعبادتي الصلاة والزكاة ، وكذلك الشأن بالنسبة لعبادة الحج حيث ورد أمره تعالى عباده بالتزود بخير الزاد  وهو التقوى في سياق الحديث عنها .  وهكذا يتضح أن الغاية من كل العبادات هي تقوى الله عز وجل . وكل ممارسة لهذه العبادات لا تفضي إلى هذه الغاية لا اعتبار لها عند الله عز وجل ، ولا حاجة له أن يمارسها الإنسان لأنها تصير مجرد حركات كما هو الشأن في عبادتي الصلاة والحج ، ومجرد جوع وعطش في عبادة الصيام ، ومجرد إتلاف للمال في عبادة الزكاة .

ولقد وقف بعض المفسرين عند قوله تعالى : (( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى )) ،ففهموا من أمر الله تعالى بالتزود  تزودا على وجه الحقيقة من جهة ، وعلى وجه المجاز من جهة أخرى ، ذلك أن بعض الناس زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشدون الرحال إلى بيت الله الحرام للحج دون تزود، فأمرهم  سبحانه وتعالى بالتزود حتى لا يكونوا عالة على غيرهم ، وفي نفس الوقت أمرهم وغيرهم بتزود معنوي هو التزود بالتقوى ووصفه بأنه خير الزاد .

ومعلوم أن الزاد هو الطعام والشراب وغيرهما مما يعده الإنسان حين يسافر ، وقد سمي زادا لأن الظعن عكس الإقامة يقتضي الزيادة في الطعام والشراب وغيرهما مما يحتاجه الإنسان وهو غير مقيم، بينما الإقامة لا تتطلب هذه الزيادة لوفرة الطعام والشراب ولسهولة الحصول عليهما وعلى غيرهما من الحاجيات.

ولقد شبه بعض أهل العلم الإنسان في هذه الحياة  الدنيا بالمسافر لأنه يرحل منها إلى الآخرة ، لهذا هو في حاجة إلى زاد كحاجة المسافر إليه . والله تعالى كما أمر حجاج بيته الحرام بالتزود زادا ماديا  في سفرهم إليه، نبههم هم وغيرهم أيضا  إلى أنهم يحتاجون زادا معنويا في عبورهم من الحياة الدنيا إلى الآخرة . ومن أدرك الحاجة إلى زاد مادي خلال سفره في الدنيا ،كان أكثر إدراكا للحاجة إلى زاد معنوي في سفره إلى الآخرة .

ولما كان الزاد المادي في السفر الدنيوي مما تدعو إليه الضرورة ، وتتوقف الحياة عليه ، فإن الزاد المعنوي في السفر الأخروي تدعو إليه الضرورة أيضا ، وتتوقف عليه الحياة الآخرة . وإذا كان هلاك الإنسان دون الزاد المادي في الدنيا ، فهو أشد هلاكا دون الزاد المعنوي في الآخرة ، لهذا فضل الله تعالى هذا الأخير واعتبره خير الزاد .

وإذا ما عدنا إلى طبيعة خير الزاد والذي هو تقوى الله عز وجل والمتمثل في الحذر من سخطه وغضبه وعقابه سبحانه و تعالى باتّباع أوامره والانتهاء عن نواهيه، نلاحظ أن هذه الأوامر والنواهي هي الزاد المعنوي  للسفر الأخروي المقابل للزاد المادي في السفر الدنيوي حيث يسدان مسد الطعام والشراب اللذين بدونهما يهلك الإنسان المسافر ، وضرورة الائتمار بأوامر الله تعالى والانتهاء عن نواهيه في السفر الأخروي كضرورة الطعام  والشراب في السفر الدنيوي . وكما أن المسافر السفر الدنيوي لا يبلغ هدفه وغايته إذا نفد زاده المادي ، فكذلك الشأن بالنسبة للمسافر سفرا أخروي إذا نفد زاده المعنوي .

وكما أن المسافر السفر الدنيوي لا يمكنه أن يكتفي في تزوده بالطعام وحده أو الشراب وحده ، وهما معان ضروريان ،لأنه يهلك لا محالة دون أحدهما ، فإن المسافر السفر الأخروي هالك لا محالة إذا كان يأتمر بأوامر الله تعالى ولكنه لا ينتهي عن نواهيه أو العكس .

وخير الزاد في السفر الدنيوي ما كان متوازنا طعامه وشرابه، كما أن خير الزاد في السفر الأخروي ما كان أيضا متوازنا ائتمارا بأوامر الله تعالى ، وانتهاء عن نواهيه . والمسافر الكيس في السفر الدنيوي من يدين نفسه ويحاسبها إذا ما فرط في أمر تزوده، ولم يعدّ منه ما يغطي  مدة  ومسافة سفره ، كما أن الكيس في السفر الأخروي  يدين نفسه أيضا إذا ما فرط  في تزوده بخير الزاد ، وغفل عن مدة سفره التي استأثر بعلمها خالقه سبحانه وتعالى.

اللهم إنا نسألك عونا منك نستعين به على طاعتك وعلى حسن عبادتك وعلى التزود بخير زاد وهو تقواك آمين.

 والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .     

وسوم: العدد 927