( ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم بعضا أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )

من المعلوم أن الله عز وجل اختار عظمة الشأن لرسالته الخاتمة الموجهة للعالمين ، واختار عظمة الشأن للرسول الذي بلّغها لهم عنه  ، ونوّه بعظمة شأنه المرتبطة بعظمة  شأن تلك الرسالة فقال جل شأنه مخاطبا رسوله عليه الصلاة والسلام : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ،وما عظمة خلقه صلى الله عليه وسلم سوى تجسيده لعظمة الرسالة الخاتمة  كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما حين سئلت عن معنى العظمة التي وصف بها الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم  قائلة  : " كان خلقه القرآن " .

وإن رسولا على هذا القدر من عظمة الشأن لجدير بأن يعظّم بما عظمه به  الله عز وجل ، وأن يكون سلوك العالمين معه متميزا عن سلوك بعضهم مع بعض ، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى مخاطبا كل المؤمنين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكافة المؤمنين في كل زمان إلى قيام الساعة :

(( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم بعضا أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )) ،فإذا كان سبب نزول هذا النص القرآني هو رفع بعض الصحابة رضوان الله عليهم أصواتهم في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب حديث كان بينهم ، فإن العبرة بعموم لفظه  لأن حكمه ملزم  للمؤمنين إلى قيام الساعة .

  ومما وقع يوم نزول هاتين الآيتين  أن الصحابي الجليل ثابت بن قيس الشماس ظن أنه المعني يقول الله تعالى لأنه كان جهير الصوت في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام  ، فآلمه ذلك، وانزوى في بيته  معتقدا أن عمله قد حبط  وان النار وجبت ، فتفقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر بأمره ، فاستدعاه ليبشره بالجنة قائلا له : " بل أنت من أهل الجنة ، أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة "، وقد كان يمشي بين الناس ، وهم يعرفون أنه مبشر بالجنة ، ولقي الله تعالى شهيدا في إحدى الغزوات رضي الله  تعالى عنه .

وقد يظن البعض أن حكم هاتين الآيتين لا يعني المؤمنين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن رفع الصوت فوق صوته أو الجهر له بالقول غير حاصل بعد موته ، والحقيقة أن الأمر خلاف ذلك لأنه يتعلق  بالتأدب معه عليه الصلاة والسلام حيا وميّتا إلى قيام الساعة ،بحيث لا يكون التعامل مع ذكره إذا ذكر كذكر المؤمنين بعضهم بعضا حرصا على تعظيم قدره العظيم، وتنزيهه التنزيه اللائق بمقامه الكريم .

ولبيان ذلك نستحضر بعض نماذج  رفع الصوت والجهر بالقول أثناء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجتمعنا المغربي ، ومن ذلك على سبيل المثال  لا الحصر، رفع النساء أصواتهن بذكر اسمه عليه الصلاة  والسلام  في مناسبات الأفراح مصحوبة بالزغاريد ، وقد يصاحب ذلك العزف على الآلات الموسيقية أوالضرب على الدفوف و الطبول ، أوالنفخ في المزامير ... ، ومن ذلك أيضا استعمال الصلاة والسلام عليه ليس للتعبد كما أمر الله عز وجلـ وإنما تحمّل معان أخرى منها التعبير عن  الإخبار بانتهاء سعي أو عمل ما وصيغتها  بالعامية " الصلاة على النبي "،  أي انتهى  أنجزنا ،وهي نفس الصيغة التي يستعملها من لا يرغب في مواصلة الحديث مع من يختلف معه ، أو يريد أن  ينهى غيره عن الكف عن فعل أو قول غير مرغوب فيهما . وقد تستعمل أيضا في التعبير عن تكذيب خبر من الأخبار مصحوبة بعبارة : العن الشيطان وصلّ على النبي " . ومن الصيغ  بصوت عال لجماعة تزاول عملا ما  قولهم : " اللهم صل عليك يا رسول الله ، يا جاه النبي " ، وقد تستعمل هذه الصيغة أيضا لدفع عربة  أصابها عطل  ... إلى غير ذلك من الصيغ  التي لا تليق بمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم  ولا يلقى لها بال ، وهي في حكم ما نهى عنه الله عز وجل تعظيما لقدر رسوله صلى الله عليه وسلم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو مواصلة التذكير بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة  مولده الشريف ، والمراد منه هو التأدب معه عليه الصلاة والسلام أثناء ذكره أو الحديث عنه مع اجتناب إخراج التعبد بالصلاة عليه عن مقصدها الشرعي من خلال استعمالها فيما مر بنا من الحالات السالفة الذكر أوغيرها بحيث لا يجوز التعامل مع ذكره أو الحديث عنه كما يذكر أو يتحدث عن غيره من البشر لأن عظمته ترفع من قدره فوق العالمين أجمعين . ومن سوء التأدب معه عليه الصلاة والسلام أيضا أن يوصف  بأوصاف عموم البشر كما فعل من جعله على رأس مائة ممن سماهم عظماء التاريخ  ، علما بأن عظمته صلى الله عليه وسلم لا تقاس عليها عظمة غيره ممن يعظمونهم من البشر، ولا  يجوز وصفه بأوصاف غيره كوصفه على سبيل المثال بالعبقري  أو غير،ذلك لأن عظمة شأنه فوق العبقرية لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه واختاره لتبليغ رسالته الخاتمة  العظيمة للناس كافة ، وليس فوق قدر صفة  "رسول " قدر صفة من صفات البشر ، ولا يمكن أن يذكر عليه الصلاة والسلام مع البشر حين تذكر صفاتهم المعبر بها عن التقدير لأنه قدره فوق كل قدر مهما كان ، ولأن العظمة ملازمة لكل وصف يوصف به عليه الصلاة والسلام .

وليحذر المؤمنون مما حذر منه الله عز وجل وهو إحباط أعمال من لا يقدرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حق قدره العظيم .

اللهم إنا نسألك أن تهدينا إلى حسن التأدب مع رسولك سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ، ونعوذ بك أن تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر  بسوء تأدب مع قدره العظيم.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 955