( والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )
مر بنا في أحاديث سابقة أن القرآن الكريم يزخر بذكر صفات عباد الله المؤمنين ، وهي تأتي في سياقات مختلفة منها صفات تلي مباشرة ذكر صفات الكافرين من أهل الكتاب ومن المشركين والمنافقين . ويذكر بعض المفسرين أن صفات المؤمنين التي تأتي عقب ذم أهل الكفر والشرك والنفاق فيها مزيد تعريض بهؤلاء وتحقير لهم حين تقارن صفاتهم مع صفات أهل الإيمان ، ويزيدهم ذلك حسرة في قلوبهم . وأما المؤمنون حين يأتي ذكر التنويه بصفاتهم بعد ذم صفات الكفار والمشركين والمنافقين ، فإن ذلك يزيدهم إيمانا وذلك لما تخصيصهم بتلك الصفات من عناية إلهية بهم ، و هو ما يجعلهم يقدرون نعم الله عز وجل.
ومن نماذج ذكر محاسن المؤمنين في القرآن الكريم بعد ذكر مساوىْ الكافرين والمشركين والمنافقين قوله تعالى : (( والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )) ، وقد جاء هذا الثناء على المؤمنين بعد قوله تعالى : (( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذّب بالحق لمّا جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين )) .
وجاء في كتب التفسير أن سبب نزول هاتين الآيتين هو التعريض بكفار قريش والتنويه بالمؤمنين قبل الهجرة . ولمّا كانت العبرة بعموم لفظ آي الذكر الحكيم لا بخصوص سببه لأنه الرسالة الخاتمة الموجهة للعالمين إلى يوم الدين، وأن مضامينها تعنيهم كما كانت تعني من كان قبلهم ، فسيبقى ذم الكافرين والتنويه بالمؤمنين في كل زمان ومكان سنة إلهية سارية المفعول في العالمين تماما كما شملت من نزلت فيهم آية التنويه من المؤمنين ، وآية الذم من الكافرين والمشركين لأنه لا يخلو زمان أو مكان من إيمان وكفر وشرك ونفاق حتى تقوم الساعة .
وقد ذكر المفسرون أن قوله تعالى في التنويه بالمؤمنين : (( والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )) نزل قبل أن يشرع القتال ، وكان الجهاد يومئذ عبارة عن صبر على أذى الكافرين، ومدافعة كيدهم، وثبات على الدين ابتغاء مرضاة الله عز وجل . والله تعالى نوّه بهذا الجهاد في حال ضعف المؤمنين، ووعدهم بهداية منه إلى ما هيأ لهم من سبل تفضي بهم إلى الأجر العظيم والثواب الجزيل . ولقد شبه بعضهم قوله تعالى : (( لنهديّنهم سبلنا )) بتلك الطرق التي تفضي إلى الكريم الذي يكرم ضيوفه .
ولقد وصف سبحانه وتعالى من كانوا يبذلون ما في الوسع من جهد في الصبر والثبات على دينهم أمام طغيان الكفر والشرك بالمحسنين ، وفي ذلك استحسانه سبحانه وتعالى لهذا النوع من الجهاد ، وجعل منته عليهم معيته، وهو ما يدل على عنايته جل شأنه، واهتمامه بالمجاهدين فيه وهم على ما هم عليه من قلة ،وذلة، وضعف دون أن ينال ذلك من عزائمهم، ومن ثباتهم على دينهم.
ولا شك أن هذا النوع من الجهاد كان إعدادا للمؤمنين لخوض أنواع أخرى من الجهاد بما في ذلك المواجهة مع الكافرين ، و كان بمثابة تدريب لهم ،لأن من يبذل الجهد في الصبر على دينه في حال الضعف والشدة ، يكون أقوى عزيمة فيما سوى ذلك من أحوال أخرى مهما بلغت شدتها .
ومعلوم أن جهاد المؤمنين بالصبر على دينهم في حال ضعفهم قد تكرر عبر التاريخ قبل البعثة النبوية وبعدها كما أخبر بذلك القرآن الكريم، وكفى به شاهدا ومؤرخا كما أنه وعد الله عز وجل لهم بهديهم سبله ، ووعد بمعيته ، وهما وعدان لم يتخلفا ، ولن يتخلفأ أبدا لأن وعده ناجز لا محالة ، ويكفي أن تتوفر شروط الظفر به كما ذكرها الله تعالى ليتم إنجازه .
مناسبة ذكر حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بالمطلوب منهم إذا ما حل بهم ضعف أمام أهل الكفر، والشرك، والنفاق كما هو عليه الحال في زماننا هذا ، وهو زمن استقواء هؤلاء جميعا على المؤمنين . وقد يظن المؤمنون وهم على هذه الحال من الضعف أنه غير مطلوب منهم بذل الجهد في الثبات على دينهم والصبر عليه ، والحقيقة خلاف ذلك كما جاء في قوله تعالى : (( والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )) . ولقد جاء في كتب التفسير أن من سبل الله تعالى التي تكرم بها على من صبروا على دينهم وكفار قريش يستضعفونهم تيسير سبل الهجرة لهم، وقد كانت نصرا لهم ولدين الله عز وجل الذي انتشر من دار الهجرة إلى كل شبر كان الكفر والشرك فيه مسيطرين .
ولا شك أن سبل الله عز وجل التي يمهدها للمجاهدين فيه ببذل الجهد في الثبات على دينه والصبر على تحمل الأذى من أجله كثيرة يختار لهم منها ما يناسب ظروفهم في كل عصر. ويكفي أن يبذل المؤمنون الجهد المطلوب منهم صبرا على دينهم ليجدوا سبل الله تعالى ممهدة لهم وموطدة ، وليظفروا بمعيته وعنايته.
وقد يظن بعض المؤمنين في زماننا هذا أنهم غير معنيين بجهاد الصبرعلى دينهم ،والثبات عليه ، فينجرفون مع تيارات الكفر ،والشرك، والنفاق ، ويسايرون أصحابها في أحوالهم مقلدين لهم فيها التقليد الأعمى ، وهم بذلك يفوتون على أنفسهم فرصة الظفر بسبل الهداية التي وعدهم بها خالقهم سبحانه وتعالى ، وفرصة التمتع بنعمة معيته ، وأنعم بها من نعمة .
ومن أشكال الجهاد في هذا الزمان جهاد المقال المصحوب بطبيعة الحال بجهاد الحال، وهما معا مما يساعد على تثبيت المؤمنين على دينهم وصبرهم عليه ، وهو جهاد لكل مؤمن نصيب منه حسب الموقع الذي يحتله في مجتمعه ، ذلك أن من هيأه الله تعالى لجهاد المقال على سبيل المثال يجب عليه بذل الجهد فيه حتى يؤدي ما عليه من واجب الدعوة إلى تثبيت الأمة على دينها صيانة لها من أن تفتن فيه بما يعج به هذا الزمان من انحرافات خطيرة عنه ، وتنبيهها إلى تلك الخطورة المحدقة بها .
وأفضل الجهاد اليوم هو التشبث بالهوية الإسلامية حق التشبث نية ،واعتقادا ،وفكرا، وسلوكا ... دون انجرار نحو كل ما من شأنه المساس بها خصوصا وقد أصبحت مستهدفة أكثر من أي وقت مضى . وإنه لمن تعطيل بذل الجهد من أجل صون بيضة الإسلام ، وحفاظ الأمة على هويتها أن ينبري أفرادها إلى بعضهم البعض انتقادا، وتجرحا ،وتخطئة ، بل وتفسيقا، وتكفيرا ، وتجريما ... والمؤسف بل المحزن أن يكون في طليعة من يقومون بذلك علماء، ودعاة ،ومفكرون شغلهم عن الجهاد المطلوب منهم شرعا حب الذوات ، وحب الظهور والحرص على المصالح الشخصية على حساب بعضهم البعض ، وعلى حساب دين الأمة الذي يوحد بين أفرادها ، ولا يفرق الشيء الذي شتت صفها ، وحشر أفرادها في أتون خلافات حادة ،وصراعات ،وعصبيات لا حدود لها ، وقد اقتسم علماؤها ودعاتها ومفكروها هؤلاء الأفراد فصاروا قطعانا لديهم ، وجعلوا منهم شيعا، وطوائف ،وفرق متناحرة وهو ما يخدم خصوم وأعداء دينهم .
وقد يحقر البعض التصدي لما يهدد هوية الأمة في صميمها مما يسوقه لها من انحرافات عن الصراط السوي غول الإعلام غربا وشرقا ، والحقيقة أن التصدي لذلك هو الجهاد المطلوب اليوم صيانة للدين وللهوية الإسلامية المهددين .
وعلى كل من أتاه اللسان أوالقلم أن يجعلهما سلاحه في جهاده من أجل أن تكون كلمة الله عز وجل هي العليا ، وإن لم يفعل فما بذل الوسع المطلوب منه شرعا في توظيف ما أتاه الله عز وجل من فصاحة لسان أوسيولة قلم ، وعليه ينطبق قول الشاعر المتنبي :
ولم أر في عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام
اللهم إنا نسألك النية الصادقة والإخلاص في الذود على بيضة دينك بجهاد ترضاه وترضى به عنا ، واهدنا اللهم سبلك المفضية إلى هديك ، واكتب لنا نعمة معيتك ، واجعل اللهم لنا الإحسان ميزة ووصفا واكتبه لها كما تفضلت به على من سبقنا من عبادك الصالحين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1002