في فقه الطاعة والمعصية

يحرص المؤمن على إرضاء ربه سبحانه، حبّاً له وخشية، فإذا علم أن ساعاتٍ أو أياماً هي مواسم للتقرّب إلى الله، زاد اجتهاده فيها: صلاةً وصياماً وذِكراً واستغفاراً... وهذا موقف إيماني سديد بلا شك. ولكن المؤمن، بعد ذلك وقبله، بحاجة إلى التبصُّر فيما يفعل وما يترك، فقد يهتم بفروعٍ ويغفُل، أو يتغافل، عن أصول، ضعفاً منه أو تهاوناً واتباعاً لشهوة، وقد يحسَب، مع ذلك، أنه يُحسن صُنعاً.

فالأعمال التي أمر الله تعالى بها، أو التي نهى عنها، ليست على درجة واحدة في ميزان الله.

ونذكر ههنا بعض الضوابط التي تضمّنتها نصوص الوحي:

1- من أهم النقاط التي يتهاون فيها بعض المسلمين، على عظم أهميتها، هي التفريط في حقوق العباد، مع أن ذلك أشدّ سوءاً من التقصير في حق الله وحده. فاللّه سبحانه غنيٌّ كريم، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضرّه معصية العاصين، فإذا عَلِمَ من عبده الاستغفار والتوبة غفر له ما كان منه. أما حقوق العباد فمبنيّة على المشاحّة. فلا تكفي التوبة بينك وبين ربك فيما اعتديت به على حق أخيك المسلم، في عِرضه: كأن اغتبته أو سخِرتَ منه، وفي ماله: إذا غششته في بيع، أو اقترضت منه ولم تردّ القرض في حينه وأنت قادر على ردّه، أو عملت عنده بأجر فاستوفيت منه الأجر كاملاً لكنك لم تقم بعملك كاملاً، أو لم تنجز ساعات العمل المطلوبة منك، أو بعكس ذلك بأن استأجرت رجلاً على عمل فأدّاه لك ثم لم تعطه أجره كاملاً، أو تأخّرت في أدائه.

ويكفي أن نتذكّر أن أعظم عمل يكفّر الذنوب هو الشهادة في سبيل الله، فالشهيد يُغفر له كل ذنب إلا الدَّين، أي حقوق العباد. ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "يَغفر اللهُ للشهيد كل ذنب إلا الدَّيْن".

فعندما يتعامل الناس فيما بينهم: الزوج مع زوجه وأولاده، والبائع مع شركائه وزبائنه، والرئيس مع مرؤوسيه، والجيران فيما بينهم... يبدر من بعضهم عدوان على بعض، بكلمةٍ، أو بازدراء، أو بأذى بدني أو معنوي أو مالي، أو بتقصير في بعض حقوقه... ولا يأخذ المظلوم حقه، ضعفاً منه، أو حلماً وكياسة، ولا يعتذر المعتدي ويطلب السماح، استكباراً أو اغتراراً بقوّته البدنية أو قوته الاجتماعية... فهذا قد ارتكب إثماً لا يزول عنه إلا برد المظلمة أو الاستسماح من المظلوم.

2- إن اجتناب النواهي لا يقل أهمية عن فعل الطاعات، بل يزيد. ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: "ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم".

3- واجتناب الكبائر مقدّم على اجتناب الصغائر، بل هو سبب لغفران الصغائر. قال الله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نُكفّرْ عنكم سيئاتكم ونُدْخلكم مُدخلاً كريماً). {سورة النساء: 31}.

4- والإصرار على الذنب يُخرج العبد من عداد المتقين. ففي الآيات 133 – 135 من سورة النساء دعوة إلى جنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين الذين من صفاتهم أنهم: (إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسَهم ذَكَروا اللهَ فاستغفروا لذُنوبهم، ومَن يَغفرُ الذنوبَ إلا الله؟ ولم يُصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون).

5- ومهما ارتكب العبد من ذنب فليعلم أن له ربّاً كريماً يغفر الذنوب للعائدين. (قُل: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفرُ الذنوب جميعاً. إنه هو الغفور الرحيم). {سورة الزمر: 53}.

6- والأعمال التي افترضها ربنا سبحانه تتفاوت في الفضل. فعن أبي هريرة قال: "سُئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان باللّه. قال: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور". رواه البخاري ومسلم والنسائي.

وفي ميدان الطاعات فإن ما افترضه الله أهمُّ وأثقل في ميزان الله من النوافل. وفي الحديث القدسي الذي رواه البخاري: "وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبُّ إليّ مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه".

وفي تدبّر نصوص الوحي مع الذائقة الإيمانية يدرك المؤمن ما هو أكثر قَبولاً عند الله. (يا أيّها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم. والله ذو الفضل العظيم).

وسوم: العدد 1040