( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم )

من المعلوم أن القرآن الكريم قد تضمن آيات بيّنات، تتعلق بموضوع تمحيص الإيمان، الذي لا يمكن أن يكون مجرد ادعاء باللسان، بل لا بد له من برهان ملموس  يدل عليه .

ومما ابتلى به الله تعالى عباده المؤمنين  لتمحيص إيمانهم في بداية دعوة الإسلام التي جاءت بها الرسالة العالمية الخاتمة المنزلة على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، أربعة ابتلاءات هي : الهجرة ، والجهاد ، والإيواء ، والنصرة ، مصداقا لقوله تعالى : (( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم )) .

وهذه الابتلاءات الممحصة للإيمان، ستظل قائمة بالنسبة لكل المؤمنين في كل زمان إلى قيام الساعة ، ذلك أن الله عز وجل ما ذكر تمحيص إيمان الرعيل الأول من المؤمنين بهذه الابتلاءات على سبيل الإخبار فقط ، بل ليكونوا إسوة وقدوة لكل المؤمنين في كل زمان ، وفي كل مكان . وإذا كان شأو إيمان الرعيل الأول من المؤمنين لا يمكن أن يدركه أحد من اللاحقين  لكونهم خير قرن ، وقد جعلهم الله تعالى جيلا نموذجيا فريدا ، فإن هذا لا يمكن أن يمنع الاقتداء بهم ،لأن اللاحقين من المؤمنين قد يمر بعضهم بما يشبه ظروف ذلك الرعيل الأول ، وهو ما يتطلب ما السير على نهجهم لكن دون بلوغ ما بلغه جهاد وهجرة المهاجرين  ، ولا بلوغ ما بلغه إيواء ونصرة الأنصار لهم  .

وحين نتأمل ابتلاءات إيمان رعيل المهاجرين الأول، نجد أولها الهجرة ، وهي أشد ابتلاء  ابتلاهم الله تعالى به حيث آثروا الهجرة على كل ما عزعندهم من أهل، وولد ، وعشيرة ، ومساكن ، وأرزاق ... وكل ذلك مما كانت تتعلق به نفوسهم ، و تطيب لهم به الحياة ،إلا أن رغبتهم في استحقاق نعمة  كمال الإيمان جعلهم يضحون بكل ذلك ، ويتجشمون مخاطر كثيرة قبل أن يصلوا إلى مهجرهم . وأما ابتلاؤهم الثاني، فهو الجهاد الذي لا يقل مكابدة عن الهجرة، بل يساويها بما كان محفوفا بالمخاطر ، بل هما سيّان في خطورة الهلاك المحقق ، ومع ذلك فقد قدم الله تعالى في الترتيب الهجرة على الجهاد ، لأن الهجرة  كانت مقدمة ، واستعداد للجهاد ، وتمرين سابق له ، ذلك أن الذين هجروا موطنهم، وأهليهم وأموالهم ، كانواعلى أتم استعداد لخوض الجهاد ، وقد استرخصوا الأنفس في سبيل الله عز وجل .

وأما الابتلاء الثالث والرابع ، فيهمّ الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين ، وقد سماهم الله تعالى أنصارا . وإيواؤهم المهاجرين هو ابتلاء لهم استحقوا به كما إيمان من استقبلوهم من المهاجرين  . ولم يكن إيواء الأنصار للمهاجرين بالأمر الهين، بل كان مكلفا ماديا ومعنويا، حيث اقتسموا معهم مساكنهم وأرزاقهم  وأموالهم ، بل كان منهم من اقترحوا التنازل عن أزواجهم لمن وفدوا عليهم دون أزواج . وكان هذا الإيواء أعظم ما حقق به رسول الله صلى الله عليه وسلم الإخاء بين المهاجرين من مكة ، والأنصار في يثرب.

ولقد كان للأنصار بعد ابتلاء الإيواء نصيبهم من ابتلاء النصرة ، وهي جهاد في سبيل الله عز وجل إلى جانب المهاجرين ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار " . كما أن الله تعالى جعل بينهم ولاء خاصا، فقال جل شأنه : (( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض )) .  

ويتساوى المهاجرون مع الأنصار في الابتلاءات حيث تقابل الهجرة الإيواء ، ويقابل الجهاد النصرة ، ولهذا كان جزاء هؤلاء وأولئك واحدا، وهو شهادة الله تعالى لهم باستحقاقهم  درجة كمال الإيمان ، فضلا عن استحقاقهم نعمتي المغفرة ، والرزق الكريم .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، الذي تزامن مع حلول سنة هجرية جديدة ، هو تذكير المؤمنين بأنهم كسلفهم الصالح من الرعيل الأول لا محالة سيبتلون مثلهم لتمحيص استحقاقهم كمال الإيمان في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة ، وفق التقسيم الذي وضعه الله تعالى لعباده المؤمنين، فهم إما مهاجرون أو أنصار بحكم أوضاعهم وبحكم ظروفهم .

ومع أنه لا هجرة بعد الفتح كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : "ّ لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " ، فإنه لا مندوحة للمؤمنين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة من أن  يحرصوا على تحقيق كمال إيمانهم كما حقق ذلك سلفهم الصالح من الرعيل الأول مهاجرون وأنصار .

وإذا ما استحضرنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " ، فإن الهجرة مستمرة بهذا المعنى إلى قيام الساعة ، كما أن معناها الأول أيضا لن ينقطع  إذا ما اضطهد المؤمنون إلى قيام الساعة. كما اضطهد الرعل الأول رضوان الله تعالى عليهم .

وما أحوجنا اليوم إلى هجرة نهجر فيها ما نهى الله تعالى عنه ، وقد بلغت أحوال الناس من الفساد ما بلغت، خصوصا مع تعالي الدعوات إلى الفساد والإفساد من طرف بعض المارقين من دينهم ، والمتجاسرين عليه ، والمنحرفين عن صراط الله المستقيم من الذين يحبون أن تشيع الفواحش في المؤمنين .

وعلى كل مؤمن أن يعرض نفسه على ابتلاءات كمال الإيمان الأربعة  في هذا الزمان ، وعليه أن يكون مهاجرا يهجر كل ما نهى الله عنه من أقوال، وأفعال ، وشهوات ، وعليه أن يجاهد نفسه الأمارة بالسوء بما في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من توجيهات ، وعليه أن يوفر الإيواء المادي والمعنوي لمن يحتاجون هذا الإيواء  من المؤمنين ، وأن ينصرهم النصر المناسب لأوضاعهم وظروفهم بالعون والنصح ، والتذكير ، والتحذير من الانحراف عن الصراط المستقيم  . فمن هجر ما نهى الله عنه ، وجاهد نفسه ، وحمل أهله وقرابته ومعارفه على ذلك، فهو مهاجر ومجاهد ، ومن ساعد غيره على هجر ما نهى الله تعالى عنه ، وعلى مجاهدة نفسه بالقرآن الكريم ،وبسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم  ،ونصره في ذلك ، فهو ناصر ومجاهد .

وإذا كان الكثير منا يدعي الإيمان بلسانه ، وقد يتجرأ بعضنا  حتى على ادعاء كماله  ككمال إيمان المهاجرين والأنصار ، فإنه لا يخطر لنا على بال أن نستحضر مع حلول مناسبة الهجرة ما ابتلى به الله تعالى المؤمنين من الرعيل الأول وهو ما جعلهم يستحقون درجة كمال الإيمان ، ويفوزون بمغفرته ، وبرزقه الكريم .

وأخيرا نقول ،إن استحضار مناسبة الهجرة  ليس مجرد فرصة لتبادل التهنئة بحلول العام الهجري الجديد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل هي فرصة صلح مع كتاب الله عز وجل ، ومع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أحوالنا  وظروفنا ،خصوصا وأن كيدا  خطيرا وخبيثا يستهدفنا ليصدنا عنهما صدا  من شأنه أن يجعلنا نضيّع إيماننا ، ونضيّع هويتنا الإسلامية ، ونخلع علينا هويات الأغيار ممن أضلهم الله تعالى ضلالا بعيدا.

إن الاحتفال بالعام الهجري ليس فرصة استراحة ، وأكل وشرب ، بل فرصة مراجعة الذوات ، وقياس المسافات الفاصلة بيننا وبين الإيمان من أدنى درجاته إلى أعلاها ، والموفق الفائز منا هو من وفقه الله تعالى للمحافظة على رصيد إيمانه ، وحرص على تنميته بشكل متواصل ، وجعل مناسبة حلول الهجرة منطلق هذه التنمية .

اللهم اجعل  لنا في حلول هذه المناسبة المباركة الخير، واليمن، والبركات ، واجعلها لنا فرصة تصالح مع كتابك الكريم ، ومع سنة نبيك عليه أفضل الصلوات والسلام . اللهم أعنا على هجر كل ما نهيت عنه من قول وعمل ، واجعل هجرتنا إليك ، و اجعل جهادنا في سبيلك ، واجعلنا نصرتنا لدينك ، ولا تحرمنا كمال الإيمان ، واغفر لنا، وأرحمنا ، وارزقنا الرزق الكريم يا أرحم الراحمين ، ويا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 1041