المحاسبة... خيرٌ نسعى إليه، أم شرٌّ نُقاومُه؟!

لا يخلو الإنسان في مسيرة حياته من ارتكاب خطأ أو تقصير، فتكليفات الحياة معقدة وكثيرة، والإنسان ينسى مرة، ويضعف مرة، ويميل مع الهوى مرة. "كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون". رواه أحمد والترمذي.

لذا كان من الواجب على الإنسان أن يزكّي نفسه أولا ليعوّدها الصبر والدأب والاستقامة، ويجنبها الزلل والخطأ ما أمكن.

وكان عليه بعد ذلك أن يعترف بخطئه إذا أخطأ، ويعود إلى الصواب، حمايةً لنفسه ومجتمعه.

وكان على المجتمع، ممثلاً بأفراده وهيئاته وقيادته، أن يحاسب أفراده فيكافئ المحسن، ويعاقب المسيء: (قال: أما مَن ظَلَمَ فسوف نُعذّبه ثم يُردّ إلى ربّه فيُعذبه عذاباً نُكراً، وأما مَن آمنَ وعملَ صالحاً فله جزاءً الحسنى، وسنقول له من أمرنا يسراً). {سورة الكهف: 87، 88}.

"إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه". حديث شريف، رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

"مَثَلُ القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استَهَموا على سفينة... فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً". حديث صحيح، رواه البخاري.

ولولا الحساب والجزاء لتساوى المُخطئ والمُصيب، وهو عين الشطط، بل هو تثبيت للخلل. لذلك اقتضت حكمة الله أن يشرع العقوبات في الدنيا، ويجعل يوماً للحساب، ينال فيه كل إنسان ما يستحق في ميزان الله: (ونَضَعُ الموازينَ القسطَ ليوم القيامة فلا تُظلم نفسٌ شيئاً. وإن كان مثقالَ حبةٍ من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين). {سورة الأنبياء: 47}.

وحين يتأذى أحدنا من تقصيرٍ ناله، أو ظلم وقع عليه، أو جناية مست دينه أو وطنه أو عرضه أو ماله... نادى: أين مبدأ المحاسبة؟ ومن ذا يأخذ على يد الظالم؟!. وحين ترى أحد المسؤولين أو الموظفين قد ظهرت عليه علائم الغنى غير المتوقع ننادي بمبدأ: "من أين لك هذا؟"، وبمبدأ: "هلّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر: أيُهدى إليه أم لا؟".

نعم، نجدنا في كل حين نرى خطأ وخللاً وانحرافاً... وننادي بتطبيق مبدأ المحاسبة حتى تستقيم الأمور، ويعود الحق إلى نصابه. ولا نختلف في وجاهة مبدأ المحاسبة وأحقيّته.

ولكن ماذا لو اتجهت أصابع الاتهام نحو أحدنا، أو نحو مَن ندين له بالحب والولاء، أو مَن تربطنا به مصلحة أو قرابة؟!. ماذا لو أثير السؤال بحثاً عما في جيوبنا، أو تقويماً لأعمالنا وتصرفاتنا؟!. هل نبقى منسجمين مع مبدأ المحاسبة الذي طالما طالبنا به وأكّدناه؟.

وهل نَخضع للمحاسبة التي كنا نتمنى أن تسود مجتمعنا؟!.

إنه الامتحان العسير، فمن وجد نفسه منسجماً بالفعل مع ما كان يدعو إليه من قبل، ورضي بالحساب، كائنةً ما كانت النتيجة، فهو على طريق الخير، ونسأل الله له تمام الخير.

ومَن عدّ المحاسبة عندئذ مسّاً بالكرامة، وتحيّزاً وتحاملاً، واتهاماً لمَن هو فوق الاتهام، وتصفيةً لحسابات شخصية أو فئوية.. فهو يتهرّب من مسؤولية طالما نادى غيره ليتحمّلها، وهو مشمول بما خاطب الله تعالى بني إسرائيل حين قال لهم: (أتأمرون الناسَ بالبرِّ وتَنسَون أنفسَكم وأنتم تتلون الكتاب؟ أفلا تعقلون؟). {سورة البقرة: 44}.

الكيل بمكيالين خلل أخلاقي، ومطعن في التقوى، وتجاوز لمقتضى العقل السليم: (أفلا تعقِلون؟).

والويل لمن يكيلون بمكيالين: (ويل للمطفّفين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم؟!). {مطلع سورة المطففين}.

وطوبى لمَن حاسب نفسه قبل يوم الحساب: (يوم تجد كلّ نفسٍ ما عملت من خير مُحضراً، وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً).

إنها دعوة إلى الاحتكام إلى دين الله فيما شَجَرَ بيننا، حين يكون أحدنا طالباً أو مطلوباً، حاكماً أو محكوماً، مُتّهِماً أو مُتّهَماً.

وسوم: العدد 1074