دروس للمجاهدين في سورية

د. أبو بكر الشامي

قال تعالى في كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وبشر الصابرين: الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون )البقرة 155  صدق الله العظيم

لا بد من تربية النفوس بالبلاء , ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد , وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات . .

أيها الشعب السوريّ العظيم ، يا أهلي الكرام : قد يتساءل البعض منكم فيقول : لماذا كل هذا البلاء وهذا العناء الذي نتعرّض له ، ونحن مسلمون ، مؤمنون ، ونحن على حق ، وعدوّنا على باطل ، وقد خرجنا نطالب بأبسط حقوقنا البشرية ، الكرامة والحريّة .!؟

 ويأتيكم الجواب من الله العليّ الأعلى فيقول لكم : أيها الشعب السوري الصابر المجاهد : لا بد من هذا البلاء الذي تتعرّضون له ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة , كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف . والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى . فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين . وكلما تألموا في سبيلها , وكلما بذلوا من أجلها . . كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها . كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها . . إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ، لما قبلوا هذا البلاء , ولا صبروا عليه . . وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها , مقدرين لها , مندفعين إليها . . وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجا . .

ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى . فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة ; وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد . والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون , والران عن القلوب .

وأهم من هذا كله , أو القاعدة لهذا كله . . الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها , وتتوارى الأوهام وهي شتى , ويخلو القلب إلى الله وحده . لا يجد سندا إلا سنده . وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات , وتتفتح البصيرة , وينجلي الأفق على مد البصر . . لا شيء إلا الله . . لا قوة إلا قوته . . لا حول إلا حوله . . لا إرادة إلا إرادته . . لا ملجأ إلا إليه . . وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح ( ما لنا غيرك يا الله ) . .

والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق:

وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:إنا لله وإنا إليه راجعون. .

إنا لله . . كلنا . . كل ما فينا . . كل كياننا وذاتيتنا . . لله . . وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير . . التسليم . . التسليم المطلق . . تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة , وبالتصور الصحيح .

هؤلاء هم الصابرون . . الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل . .

وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل:

(( أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة , وأولئك هم المهتدون )). .

صلوات من ربهم . . يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه . . وهو مقام كريم . . ورحمة . . وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون . .

وكل أمر من هذه هائل عظيم . .

وبعد . . فلا بد من وقفة أمام هذه الخاتمة في تلك التعبئة للصف الإسلامي . التعبئة في مواجهة المشقة والجهد , والاستشهاد والقتل , والجوع والخوف , ونقص الأموال والأنفس والثمرات . التعبئة في هذه المعركة الطويلة الشاقة العظيمة التكاليف .

إن الله يضع هذا كله في كفة . ويضع في الكفة الأخرى أمرا واحدا . . صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون . . إنه لا يعدهم هنا نصرا , ولا يعدهم هنا تمكينا , ولا يعدهم هنا مغانم , ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات الله ورحمته وشهادته . .

إنّ الله يعدّكم أيها السوريون الأماجد ، ويا أيتها السوريات الماجدات  لأمر أكبر من ذواتكم وأكبر من حياتكم .

وبالتالي فهو يجردكم من كل غاية , ومن كل هدف ، ومن كل رغبة من الرغبات البشرية - حتى الرغبة في انتصار العقيدة والحريّة التي خرجتم من أجلها إنّ الله  يجردكم من كل شائبة تشوب التجرد المطلق لله ولطاعته ولدعوته . .

وكأنه يقول لكم : عليكم أن تمضوا في طريقكم لا تتطلعون إلى شيء إلا رضى الله وصلواته ورحمته وشهادته لكم بأنكم مهتدون . .

هذا هو الهدف , وهذه هي الغاية , وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوب المؤمنين بالله حقّ الإيمان . . فأما ما يكتبه الله لكم بعد ذلك من النصر والتمكين فهو ليس لكم وحدكم , إنما هو لدعوة الله التي تحملونها ، وللعرب والمسلمين والإنسانية جميعاً .

إن لكم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء وكفاء .

جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات ...

 وجزاء على الخوف والجوع والشدة ...

وجزاء على القتل والشهادة . ..

إن الكفة ترجح بهذا العطاء فهو أثقل في الميزان من كل عطاء .

أرجح من النصر ، وأرجح من التمكين  ، وأرجح من شفاء غيظ الصدور من العصابة الأسدية القاتلة المجرمة . .

هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم الأول ليعده ذلك الإعداد العجيب , وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد أن يسير على نهجهم إلى يوم الدين ...

(( يا أيها الذين آمنوا اصبروا ، وصابروا ، ورابطو ، واتقوا الله لعلكم تفلحون )).