فتح مكة (2)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

لما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة ، وخزاعةُ في عقده وعهده ، خرج عمرو بن سالم الخزاعى ، ثم أحد بني كعب ، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ،وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس ، فقال:‏

يا رب إني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتمُ ولدا وكنا والدا * ثمّتَ أسلمنا فلم ننزِع يدا

 فانصر هداك الله نصراً أعتدا * وادعُ عباد الله يأتوا مددا

 فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربّدا

 في فيلق كالبحر يجري مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا

 ونقضوا ميثاقك الموكدا * وجعلوا لي في كداء رصدا

 وزعموا أن لست أدعوا أحدا * وهم أذلُّ وأقلُّ عددا

 هم بيتونا بالوتير هُجَّدا * وقتلونا ركعا سجدا

يقصد أن خزاعة أسلمتْ

قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ نصرت يا عمروُ بنَ سالم ‏.‏ ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنانٌ من السماء ، فقال ‏:‏ إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ‏.‏

ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ‏:‏ كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقد ، ويزيد في المدة ‏.‏

ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد في المدة ، وقد رهبوا الذين صنعوا ‏.‏

فلما لقي أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال ‏:‏ من أين أقبلت يا بديل ‏؟‏ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال ‏:‏ تسيرت في خزاعة في هذا الساحل ، وفي بطن هذا الوادي ؛ قال ‏:‏ أو ما جئت محمداً ‏؟‏ قال:‏لا ؛ فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان ‏:‏ لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففتّه، فرأى فيه النوى ، فقال ‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديلٌ محمداً ‏.‏

إضاءة:

1-  إن اعتداء بني بكر حلفاء قريش على بني خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومساعدة قريش لهم على هذا الاعتداء ينقض العهد بين الطرفين ويجعل الطرفين في حل منه إلاّ إذا كانوا جميعا راغبين في استمرار العهد فإنهم يوثّقونه ويؤكدونه. وهذا يستدعي لقاء ممثلين عن الطرفين لإصلاح ما فسد .

2-  يلجأ الطرف الضعيف المعتدى عليه إلى حليفه يستصرخه ويوضح ما حصل من إخلال بالاتفاق ، لقد مضى على إبرام العهد عامان من السنوات العشرة – مدة الاتفاق- نقضت فيه قريشٌ وحليفتها بنو بكر صلح الحديبية حين اعتدت بنو بكر على خزاعة حليفة المسلمين فكان لا بد من اللجوء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتخذ قراره.

3-  ينطلق أحد زعماء خزاعة من بني كلب " عمرو بن سالم الخزاعي "إلى المدينة المنوّرة للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبَسْط ِالأمر بين يديه ، فما إن يصل إلى مسجده صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهراني الناس حتى بستصرخه – كعادة العرب- بقصيدة وضّح فيها اعتداء قريش وحليفتها على قبيلته ، ويطلب النجدة .

4-  فصّل عمرو بن سالم الشكاة حين ناشد رسولَ الله الوفاء بالحلف وذكّره بالعلاقة الوطيدة بينهما قبل الإسلام ، ثم أعلن أن بني خزاعة أسلمت فزاد على الحلف قوةُ العقيدة التي جمعت بين خزاعة والمسلمين ( والمؤمنون إخوة ) وطلبَ النصرَ والمدد حين شكّت قريشٌ أن ينتصر رسولُ الله – وهو في المدينة - لمسلمي خزاعة - وهم في مكة بين ظهراني المشركين.

5-  كان الإيجاب النبوي سريعاً حين قال النبي صلى الله عليه وسلم( نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم ) والمسلم أخو المسلم لا يخذله فاستعمل الفعل " نُصِرَ " بصيغة الماضي المبني للمجهول . قالها على ملأٍ من المسلمين الذين يملأون المسجد ، فترتاح نفس عمر بن سالم ، ويحمل البشرى إلى قومه في مكة .

6-  وينظر النبيُّ الكريم إلى السماء فيرى سحاباً يمتد في أفق المدينة المنوّرة، فيتفاءل برضى رب السماء عن نصرة المظلوم وما السحاب إلى عنوان الغيث والنُّصرة، وينقل تفاؤله هذا إلى أصحابه يشجعهم ويستنهض هممهم حين يقول مبشراً بفتح الله تعالى (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب).

7-  كانت هذه الجملة إيذاناً بانتهاء صلح الحديبية واستهلال فتح مكة ، وكأنه يقول لهم : أوقعَتْ قريش نفسها بحبائلها. وفتحت لنا طريقاً إلى مكة كان قبلُ مغلقاً .

8-  ولتأكيد خزاعة ما استصرخ له عمرو بن سالم قام وفد من خزاعة بزيارة المدينة بقيادة شيخها " بديل بن ورقاء الخزاعي " يشرح للرسول صلى الله عليه وسلم بالتفصيل ما فعله بنو بكر بمظاهرة قريش حليفتها من اعتداء صارخ على خزاعة فسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يُرَطب خاطرهم ويأسو جراحهم.

9-  حين يكون القائد عليماً ببواطن الأمور ، خبيراً بحال عدوّه وإمكاناته ،بصيراً بردة فعله يستشف ما يمكن أن يفعله الطرف الآخر . ورسول الله صلى الله عليه وسلم قرشيٌّ مُطّلع على خبايا زعماء قريش وتفكيرهم وقد آتاه الله تعالى الحكمة وحسن تقدير الأمور . فاستشرف ما قد يفعله أبو سفيان زعيم مكة للحفاظ على العهد وتلافي الخطأ الذي وقعت فيه قريش وحليفتها، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه ( كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العَقد ، ويزيد في المدة).

10-  وكان ما توقعه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ،فقد التقى وفد خزاعة بقيادة بديل بن ورقاء – وهم عائدون - بأبي سفيان بن حرب زعيم مكة منطلقاً إلى المدينة المنوّرة ليشد العقد ، ويزيد في المدة ، وقد رهب المشركون ما صنعوه في لحظة انفعالية لم يحسبوا عواقبها ، التقوه في ( عسفان على طريق المدينة قريبة من ساحل البحر).

11-  خاف أبوسفيان بن حرب أن يكون وفد خزاعة سبقه إلى المدينة يؤلب المسلمين على قريش ، فأحب ان يتأكد حين سأل بُديل بن ورقاء عن المكان الذي جاء منه، فكانت الاستعانة على قضاء الحوائج تستدعي الكتمان والسرية ، فكان جوابُ بديل أنه كان وأصحابُه في بعض بيوت خزاعة على الساحل ، فلما صارحه أبو سفيان بظنه قائلاً : أوَ ما جئت محمداً ؟ قال : لا . والحربُ كما نعلم خُدعة ، وتأزُّمُ الموقف بين خزاعة وقريش حرب خفية تنبئ القلوبُ والألسنة عن خباياها.

12-  التحرّي عن الحقيقة مطلب يعين على اتخاذ الموقف الأقرب للواقع، فلما لم يقتنع أبو سفيان بِردّ بديل ولم يكن بين الاثنين سوى اللقاء العابر، ثم مضى بديل بوفده إلى خزاعة يقول أبو سفيان :لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى. فنزل أبو سفيان عن ناقته يستجلي حقيقة الأمر ، فأتى مبرك ناقة بديل ،ففتّتَ بعرها فصدق حدسه إذ رأى نوى المدينة واستيقن أن القوم كانوا عند محمد صلى الله عليه وسلم يشكون قريشاً وبني بكر.

13-  انطلق أبو سفيان إلى المدينة ليشد العقد ويزيد في المدّة وهو يعلم أن المهمّة شاقة ، ولا أشق من خطإ جسيم يرتكبه المرء حماقة ثم يحاول رتقه ، ولا أصعب من موقف فيه ضعف يقفه المرء دون أن يحسب له حساباً.