إعداد الدعاة ومنهج تخريجهم

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

حينما نتحدث عن "الداعية" تقفز إلى ذهننا مباشرة صورة خطيب الجمعة، والعيدين في المسجد، ونرى أغلب هؤلاء الدعاة ـ على مستوى العالم الإسلامي ـ إن أتقنوا الثقافة الدينية من قرآن وسنة وفقه، يعيشون بمعزل تمامًا عن العلوم العصرية، ومجريات الأمور في العالم، بل الوطن، ما عدا الأحداث المتوهجة المشهورة.

 وبعض هؤلاء يعجز عن اختيار الموضوع المناسب الذي يهم الناس في حياتهم، مما يصنع سدًا منكودًا بينه وبين المستمعين. وعلى المستوى العالمي: هناك عدد طيب من الدعاة إلى الإسلام، ولكنهم أقل من نصف العدد المطلوب لنشر الإسلام من ناحية، والدفاع عنه من ناحية أخرى.

 وهذا الوضع يجعلنا ـ نحن المسلمين ـ في حاجة إلى إنشاء أكاديمية للدعوة الإسلامية العالمية. وتكون مهمة هذه الأكاديمية أو هذا المعهد "تخريج الدعاة الإسلاميين" . وتصوري المبدئي لهذا المعهد يتلخص في الخطوط الرئيسية الآتية:

أ ـ ينشأ المعهد في عاصمة أو مدينة كبرى من المدن الإسلامية، وإذا نجحت الفكرة فلا مانع من تكرارها في عواصم أخرى.

ب ـ يتكون المعهد من مراحل ثلاث: المرحلة الثانوية، والمرحلة العالمية، ثم المرحلة العليا لمنح درجتي الماجستير والدكتوراه.

جـ ـ للمعهد مهمة محددة وهي "تخريج الداعية الإسلامي العالمي".

د ـ محاور البرامج، والمقررات، والمناهج الدراسية: المواد الشرعية، ومقارنة الأديان، والمذاهب الاقتصادية والسياسية، واللغات الحية، ولغات العالم الثالث، وتعمق هذه المواد مع التقدم في سني الدراسة على أن يكون "التدريب العملي" من منتصف المرحلة العالية، ويستمر إلى أن ينتهي الدارس من دراسته، والتدريب يكون على الخطابة والكتابة، والأساليب والوسائل التقنية الحديثة في الدعوة.

وبصفة خاصة يجب الاهتمام في كل مقررات التعليم بعقيدة التوحيد انطلاقًا من كتاب الله، وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع بيان أثر الإيمان بوحدانية الله في تشكيل الشخصية المسلمة: ثباتًا على الحق، وشجاعة في التصدي لأعداء الله دون تردد، أو خوف ووجل، والتحلي بطمأنينة القلب، ونقاء الضمير.

ومن مقتضيات الإيمان بوحدانية الله نفي الشريك والشبيه . وبجانب ذلك لا بد من دراسة ما في عقيدة التثليث من بهتان وبطلان، وتفنيد حجج من يدعون أنها جوهر النصرانية التي بعث بها عيسى ـ عليه السلام ـ وإبطال حجج من يدعي أن عقيدة التوحيد في الإسلام تؤدي إلى حيرة المسلم، كما تحط به كإنسان إلى أسفل الدرك، كما ذكر عدو الإسلام أرنست رينان.

هـ ـ يقبل في المعهد نوابغ الطلاب من العالم الإسلامي، ويتكفل المعهد بإسكان الطلاب، وإعاشتهم، زيادة على مرتبات شهرية مجزية.

و ـ المتخرجون في المعهد يكونون طليعة في "جيش الدعاة العالمي" الذي يباشر عمله في الدعوة الإسلامية في العالم بعامة، ودول العالم الثالث بخاصة.

ز ـ لا يخضع المعهد لسلطة حكومية معينة، حتى الدولة المقام المعهد على أرضها، بل تكون له "شخصيته الاعتبارية المستقلة" وتدبيره هيئة تتكون من أعضاء من مختلف الدول الإسلامية من المشهود لهم بالعلم والتقوى.

ح ـ يكون تمويل المعهد بمساهمة من الدول والشعوب الإسلامية جميعًا، ومن حصائل الزكاة، وانطلاقًا من مشروع ليكن اسمه "دينار الدعوة الإسلامية" في صورة "بونات" تطرح في الدول الإسلامية، والجاليات والأقليات المسلمة في العالم كله تحت شعار "ادفع دينارًا تخدم الإسلام"، ويمنح الدعاة مرتبات عالية، تليق بمراكزهم العلمية، وتضمن لهم مستقبلاً مطمئنًا بإذن الله.

 وقد يقال إن هناك كليات للدعوة والشريعة وأصول الدين في أزهر مصر، وغيرها من البلاد العربية، مما يغنينا عن مثل هذا المشروع.

وأرد على ذلك بأن ما أعنيه شيء آخر يسجل الفروق الآتية بينه وبين الكليات والمعاهد الموجودة حاليًّا. وهذه الفروق تتمثل فيما يأتي:

1 ـ اشتراك البلاد الإسلامية كلها أو أغلبها في هذا المشروع، مما يحقق "جزءًا" من الوحدة الثقافية، ويجعل لهذا المعهد طابعًا إسلاميًّا عالميًّا.

2 ـ الالتحاق به ليس مطلقًا، بل مقيدًا بنبوغ الطلاب، فهو يعتمد على الانتقاء الدقيق لثقل المهمة التي سينهض بهذا الداعية.

3 ـ تحتل المواضعات، والتيارات الفكرية، والتقنيات العلمية في الدعوة مساحة واسعة في المناهج والمقررات. فيكون هناك جمع شامل وقوي بين العلوم الدينية والتقنيات الحديثة، وبذلك يستطيع الداعية المسلم أن يزاحم بجدارة المنصرين المنتشرين في العالم على نطاق واسع.

4 ـ الاهتمام باللغات على نطاق واسع.

5 ـ التخصص الرأسي الدقيق جدًّا: فهذا مثلاً داعية للدعوة إلى الإسلام في نيجيريا فيكون ضمن إعداده: إتقان اللغة السواحلية إتقان علماء لا طلاب، ودراسة البلد الذاهب إليه: موقعًا، وتاريخًا، وعادات، وتقاليد، وطبائع السكان.. إلخ، زيادة على دراسة أنجع الوسائل لهذه المنطقة بالذات.

أي لا يكفي دراسة الخطوط العامة المشتركة للدعوة كما هو موجود في الكليات والمعاهد الموجودة حاليًّا، ولا بد من التخصص العلمي الدقيق، مع المراجعات الدائمة في ضوء التجارب التي يخوضها هؤلاء الدعاة.

 ومن الضروري التصدى بفكر رصين وتخطيط علمي مدروس لدعاوى التضليل: ولكن الأهم والأكثر خطورة وتأثيرًا والأسرع وصولاً الآن هو "شيكات الإنترنت" التي تقدم حاليًّا بيانات ضخمة جدًّا، يستفاد منها على مستوى العالم كله، وقراءة وسماع الأخبار العالمية والمحلية، واستخدام البريد الإلكتروني إلى كل أنحاء العالم في دقائق، زيادة على نشر الصحف (عرضها على شاشة الحاسوب)، ونشر الإعلانات المختلفة للوظائف والسلع والمنتجات والاطلاع عليها، وكذلك التسوق، ويستفيد من هذه الخدمات مئات الملايين على مستوى العالم.

 وقد أثبتت هذه المواقع أهميتها، ونجحت في شد أنظار العالم، ولكن الدعوة الإسلامية ما زالت في حاجة إلى المزيد من هذه المواقع للدعوة إلى الإسلام من جهة، والتصدي بالتفنيد لأكاذيب أعداء الإسلام وأضاليلهم من جهة أخرى.

 وعلى الدعاة الذين ينهضون بمثل هذا العمل عن طريق هذه الشبكات أن يرصدوا مفتريات الأعداء وأباطيلهم، ويجمعوها ويدرسوها دراسة وافية، حتى تأتي الردود عليها قادرة على تفنيدها ونقضها.

 وقد يستحسن تجميع هذه الأباطيل والردود عليها في كتب، ونشرات بلغات مختلفة، وتوزع على مستوى العالم، وبذلك يوظف الدعاة وسيلتين لهما قيمتهما في الدعوة والتصدي لأعداء الإسلام.

***

5 ـ بعث روح الأخوة الإيمانية وحمايتها من حملات التضليل: وهذا العنصر أهم العناصر كلها في الوقاية والعلاج، ففي عالم اليوم لا مكان "للشعب الواحد المعزول" وصدق الشاعر العربي القديم إذ قال:

أخاك أخاك إن من لا أخًا له =

             كساعٍ إلى الهيْجَا بغير سِلاح

وفي هذه الظروف التي تزداد سوءًا لا بد من العودة إلى الله، وغسل الأيدي والقلوب، والتجمع من جديد بروح إيمانية، وحب مكين، وهذا هو ما يخشاه أعداؤنا، ونأمل أن يكون ذلك قريبًا بإذن الله.