البطولة العجيبة: بطولة غسان زقلوطة

البطولة العجيبة:

بطولة غسان زقلوطة

م. محمد عادل فارس

[email protected]

ترى الرجلَ النحيلَ فتزدريه        وفي أثوابه أسدٌ هصورُ

غسان هو الأخ الشقيق لزهير زقلوطة، وهو أصغر من زهير قليلاً، لعله من مواليد 1951م.

أما زهير فهو البطل الذي أعدمه المجرم "داعية الديمقراطية" رفعت الأسد، شنقاً في سجن القلعة مطلع شباط 1980 مع أربعة أبطال آخرين هم: حسني عابو وياسر الخطيب وهيثم شمّاع وماهر جمّال.

وإذا كان زهير طويل القامة، ممتلئ الجسم، رياضياً، فإن غسان ضئيل الجسم، متوسط الطول، نحيل، لا يتجاوز وزنه الستين كيلو غراماً، بل ربما لا يتجاوز الخمسة والخمسين!. لكنه صلب المراس، يتمسك بالمثاليات، فإذا كان معظم الدعاة والمجاهدين يقولون: لئن تعرضنا للاعتقال فلن نبوح بكلمة واحدة ولو قُطّعنا إرْباً إرْباً... ثم إنهم يتفاوتون في مدى ثباتهم وصبرهم، فإن غسان يلتزم بهذا المعنى التزاماً حرفيّاً تاماً.

عندما داهم عناصر المخابرات بيتهم، كانوا يريدون اعتقال أخيه زهير. ولم يكن زهير موجوداً. وحين تفتيش البيت وجدوا بعض ما له علاقة بالسلاح، وكان غسان موجوداً وسألوه عن أخيه وعن هذا الذي وجدوه عند التفتيش، فنفى أي علم له بما سئل عنه. اعتقلوه واقتادوه إلى فرع مخابرات حلب، وبدأ التحقيق معه، تارةً باللين، وأخرى بالشدّة. وتارةً بالتهديد، وأخرى بالضرب بكل الأساليب: بقبضات الأيدي، وبالخيزرانات، وبالحشر في الدولاب، وبالتعذيب بالكهرباء، فضلاً عن الشتائم والبذاءات والتهديد بما يُستحيَى من ذِكره... وهو على جوابه: لا أدري. ليس عندي علم بما تسألون عنه.

وكان المحقق أليف وزّة (نقيب من الساحل) حريصاً على استخلاص معلومات تؤدي إلى اعتقال زهير، ومعرفة أسماء أصدقائه وكل ارتباطاته... وكان ثبات غسان وعناده يزيدان من قناعة المحقق أن لدى هذا الإنسان الموقوف كنزاً من المعلومات لابدّ من الحصول عليه بأي وسيلة.

لذلك لجأ أليف إلى أسلوب فريد! استدعى غسان إلى مكتبه في الطابق الأعلى، وأخرج له ظرفاً باللون الخاكي، مختوماً بالشمع الأحمر، وقال: يا غسان. هذا الظرف جاءنا من إدارة المخابرات العامة، مكتوب عليه: قضية الموقوف غسان زقلوطة/ يفتح بحضوره!

وأمسك أليف الظرف وفتحه أمام غسان وقرأ ما فيه:

( حكم بالإعدام

- يحكم الموقوف غسان زقلوطة بالإعدام رمياً بالرصاص

- مكان الإعدام حقل الرمي في "جبل السيدة".

- وقت تنفيذ الإعدام: الساعة الثالثة صباحاً، يوم الإثنين 30/4/1979

- يطلب من الموقوف تقديم وصيته، وتنفذ الوصية.)

أما حقل الرمي فهو معروف لدى كثيرين، فهو بجوار أحد الأحياء في حلب، وكثيراً ما يدرّب فيه طلاب الفتوّة على الرمي.

وأما الزمان فهو الليلة القادمة. أي إن أمام غسان حوالي 15 ساعة فقط.

قال غسان: وصيتي هي أن تقدموا هذه البدلة التي ألبسها (الطقم) إلى أهلي، لعلهم يستفيدون منها، فأنا – كما تعلمون - من أسرة فقيرة.

قال المحقق: لن ننفذ هذه الوصية. ولكن إذا كان لك وصية أخرى.

قال : نعم، وجبة من اللحم المشوي والحلويات.

قال المحقق: أما هذه فنعم!.

وأعيد غسان إلى غرفته في السجن، وما هي إلا ساعة حتى جاءت الوجبة، وجعل يأكل منها ويدعو رفقاء الغرفة إلى الأكل معه!.

وراح بعض رفقائه يشككون في حكم الإعدام، ويقولون: نظن أن الأمر مجرد تمثيلية، ولن ينفّذوا فيك إعداماً ولا غيره، إنما يلعبون بأعصابك. وراح غسان يؤكد لهم أن الأمر جِدّ، وأنه شاهد كتاب الإعدام بنفسه.

وراح السجانون والجلادون يمرّون على غسان، الواحد تلو الآخر: يا غسان سامحْنا!. إننا حين كنا نعذّبك إنما نحن عبيد، ننفّذ أوامر رؤسائنا. ولكن لا نريد بك شرّاً. سامحنا. سامحنا!.

واستمرّ الأمر على ذلك ساعات. ولا تخلو ساعة من مجيء واحد من الجلاوزة أصحاب الشهامة! وهم يعتذرون.

وكان المحقق أحياناً يأتي فيقول: بإمكانك يا غسان أن تتعاون معنا، وأتصلُ عندئذ بالإدارة من أجل إلغاء حكم الإعدام. فيقول غسان: لا تفعل. إنها الفرصة التي كنت أنتظرها طوال حياتي. إنني ما زلت أتمنى الشهادة، وقد جاءت، فلن أضيّعها!.

ويعود المحقق خاسئاً ذليلاً أمام هذا الجبل الشامخ.

وفي الساعة الثانية ليلاً، وقد بقي لتنفيذ الحكم ساعة واحدة، جاء بعض الجلاوزة واقتادوا غسان، ووضعوا القيد في يديه، وأركبوه في سيارة اللاندروفر، ومعه المحقق وجلاوزة آخرون، ومع المحقق جهاز لاسلكي.

وانطلقت السيارة باتجاه حقل الرمي، وعادت المساومات: "يا غسان، بإمكانك أن تتعاون معنا، ونتصل بالإدارة لإلغاء حكم الإعدام. إنك ما تزال في مقتبل العمر، وفي ريعان الصبا، وأهلك بحاجة إليك. حرام عليك أن تضيّع حياتك. تعاون معنا وتنجو من الإعدام..."

ويكون ردّ غسان:

"إنها الفرصة السانحة لنيل الشهادة. لا ينبغي لي أن أضيّعها. لطالما تمنيتُ أن يختم الله لي بالشهادة. و لتكن خاتمة حياتي النطق بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله. محمد رسول الله".

ويشعر المحقق بالصَّغار والقماءة، فهو كالصرصور والجُعَل أمام أسد هصور.

وتقترب السيارة من حقل الرمي ولم يبق بينها وبينهم إلا نحو مئتي متر، ويتصل المحقق باللاسلكي ثم يتوجه إلى البطل: هنيئاً يا غسان، لقد كُتب لك عمر جديد، فها هو ذا رئيس إدارة المخابرات العامة يتصل بي باللاسلكي ويطلب وقف الحكم!.

فيقول غسان: حسبنا الله ونعم الوكيل!. لقد كنت أتمنى أن لا يحرمني الله من أن أُقتل شهيداً!.

وتعود السيارة بغسان والفئران إلى الفرع.

وفي اليوم الثاني يتم نقل مجموعة من الموقوفين من فرع مخابرات حلب، إلى الفرع الداخلي بدمشق، يتم نقلهم جميعاً بالباص، إلا غسان فينقل بسيارة صغيرة، ومعه النقيب أليف وزة المحقق الصغير!.

ويصل الموكب: باص كوستر وفيه اثنا عشر معتقلاً، وسيارة صغيرة فيها البطل غسان والمحقق أليف، ومرافق مسلح. يصل الموكب إلى الفرع الداخلي في شارع بغداد – دخلة الخطيب، في دمشق، مع شروق الشمس. وبعد إجراءات الاستلام والتسليم يوزَّع المعتقلون في غرف السجن وممراته وزنزاناته ويكون حظ غسان أن يحبس في الحمام! تُربط يده بالقيد إلى حنفية البانيو طوال الوقت فيحس بآلام القيد والوقوف المتعب فضلاً عن وحشة الانفراد... لكن شعوراً يملأ قلبه فيعوضه عن الآلام كلها، ويشعره بالسعادة كلها: إنه عبد لله، مجاهد في سبيله، يستمد منه الأنس والعون والأمل، ويدعوه أن يختم له بالشهادة التي عاش من أجلها منذ أن تربّى على المبادئ الخمسة:

الله غايتنا، الرسول قدوتنا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا

وقد سمع الله له ووهبه الشهادة التي كان يطلب.

أما المجرمون وأجراؤهم فقد أعيتهم الحيلة وعجزوا عن استنطاق البطل بكلمة تشفي غليلهم فلم يجدوا بداً من التخلص منه لتكون روحه في حوصلة طير أخضر، وليعودوا هم بالذل والصَّغار.

رحم الله غسان وأخاه زهيراً وأبطال الإسلام أجمعين.