بين الخليل والضليل

بين الخليل والضليل

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

الحوار بين المتناقضين فكراً وهدفاً أمرٌ عادي تراه في حديث الدعاة وأصحاب المبادئ وفُرَقاء السياسة وأرباب العلم والأدب . وفي القرآن أمثلة واضحة تدل على وجوب الحوار الهادف للوصول إلى الحق أو لدحض الطرف الآخر . منها ما كان بين سيدنا إبراهيم عليه السلام وملك زمانه الذي أمر بطرحه في النار ، فلما أنقذه الله منها كان بينهما لقاء قرأناه في سورة البقرة ، أول الجزء الثالث من القرآن الكريم :

)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)(.

ولعلك ترى في قوله تعالى( ألَمْ ترَ) دعوة إلى التفكر والتدبر في أمور عدّة ، منها :

1-  أن على المرء أن يتفكر ويتدبر فيما يجري حوله ليصل إلى الهدف المنشود.

2-  وأن على العاقل أن يمحص الأمور ويقلبها معتمداً على فهم الواقع والعظات والعِبر.

3-  وأن يكون الهدف من الحوار حضوراً أو اشتراكاً فيه الوقوف على الحق والتزامه.

قد يغتر الإنسان بنفسه حين يغتني ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ألم يقل الرجل الغني المكابر للمؤمن الأقل منه مالاً وولداً متفاخراً ( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) يظن أنه بكثرة ماله وولده أكرم منه وأقرب عند الله. أو أعظم مكانة من غيره ، والحقيقة أن الغنى والفقر امتحان واختبار ، وقد قال الله تعالى في هذا المعنى ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرَمَنِ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي اهانَنِ ) ويأتي الجواب ( كلا ..) وهذا الملك الذي يحاوره إبراهيم الخليل عليه السلام يَدِلُّ عليه أنه ملك عظيم ... وينكر على إبراهيم عبادة الله ( حاجّ إبراهيم في ربه) ومن كان ملكاً استعبد الناس واستعلى عليهم، وفرض عليهم نفسه إلهاً

والملاحظ أن المستكبر لا يملك -على الأغلب – آلية الحوار والمبادرة فيه سوى الامر الواجب على الآخرين أن ينفذوه دون تباطؤ. لقد بدأ إبراهيم عليه السلام بالحوار قائلاً : إن الإله يحيي ويميت ، وما ذكر هاتين الصفتين إلا لأنهما من أوّليّات الألوهية الحقة فما كان من الملك السفيه إلا ان ردّ ( أنا أحيي وأميت) دون أن يفهم مرام الكلمة ، فمن صفات المحيي والمميت أنه أبدي سرمدي ، وأنّى لمخلوق مهما علت مرتبته واشتدت قدرته أن يَحيَى إلى الأبد ، ونسي هذا المدّعي أن له بداية ، ومن كانت له بداية لا بد أن تكون له نهاية ، فهو ميّت وعاجز مقهور [ والميّت بتشديد الياء :الحي الذي سوف يموت ، وقد خاطب الله تعالى نبيه الكريم : إنك ميّت وإنهم ميّتون؟]  ، وظن الملك المستكبر الجاهل أن العفو عمّن استحق عقوبة الموت إحياءٌ وأن قتل الغافل عن الظلم إماتة ، فجاء باثنين قتل أحدهما وأبقى على الثاني، وهذه غاية الحماقة في المتكبرين

لا بد -إذاً – من تعجيز واضح ينهي الجولة بما لا يحتمل التاويل . فأخبره أن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فليأتِ بها من المغرب . وهذا الكلام جاء صاعقة على الملك المغرور ، فما كان يتوقع هذه الضربة القاصمة التي تشل تفكيره وتسكت غروره ، فانتهى الحوار سريعاً حين أُخرس مُدّعي الألوهية وظهرت حجته واهية أو قلْ : تعرّى أمام ملئه حين أُفحم وأُبلس. لقد كانت الشمس تسير في دائرتها المخططة لها قبل أن يولد الملك والبشرية كلها وفق نظام محكم لا تحيد عنه إلى أن تقوم الساعة.

ومن اساليب الحوار المفحم ان تبادر من تحاوره بما لا يتوقعه ، فيُسقط في يده ويظهر ضعفه سريعاً فتنتهي جولة الحوار قبل أن تبدأ ، واستعمل القرآن كلمة ( بُهِتَ )  التي تصور صمته المفاجئ وفمه المفتوح ،وحركته المتوقفة ، وانفراج عينيه وميلان رأسه للأمام . ثم تصوّر – أخي -  الصمت الذي ران على الحضور والعيون المراوحة بين إبراهيم عليه السلام والملك المفجوع بالجواب المخرس.

وتأتي القفلة الرائعة توضح سبب خسارة الملك الضليل ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) .

وهل أظلم ممن ادّعى ما ليس له.؟

وهل أظلم ممن كذب على الناس؟

وهل اظلم ممن استعبدهم وأبعدهم عن الهدى؟

وهل أظلم ممن يحاول وأد النور وإشاعة الكفر والضلال؟.

إنهم لا يتعلمون ممن سبق ويستمرون على غيهم وفسادهم ، ويقعون في الخطإ نفسه الذي وقع فيه أمثالهم من الظلمة المجرمين ، وقد صدق فيهم قوله تعالى ( ونذَرُهُم في طغيانهم يعمهون).