مع سليمان عليه السلام في سورة النمل (2)

مع سليمان عليه السلام

في سورة النمل (2)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

نقرأ قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام ( أن لا تعلوا عليّ واتوني مسلمين) فننتشي طرباً وفهماً لكلام نبي كريم يعلم أن :

1-  اتباعه واجب إنساني ، فهو لا يريد للكفر أن يعلو على الحق الذي جاء به

2-  ونلحظ عزة القائد المسلم في النهي : (لا تعلوا عليّ ).. ومن يعلو على صاحب الدعوة الحقة وممثلها ؟!

3-  وفي هذه الدعوة تهديد قريب من الصراحة - وإن اكتسى النصحَ المطلوبَ في الداعية – والنهيُ دليلٌ على التهديد الذي فهمته بلقيس تماماً فتحاشته.

4-  وما بعد التهديد إلا الأمر ( واتوني مسلمين ) فحصرها وقومَها (بالنهي والأمر) . فكان الخطاب على إيجازه واضحاً وقوياً .

5-  لم يقل : ( ائتوني صاغرين ولا أذلاء خاضعين أو مسالمين ) ، فهو لا يريد السيطرة عليهم ليستغلهم ولا ليقهرهم ، إنه يريد أن يسلموا لله رب العالمين ، ومن كان هذا ديدَنه ومَهمّته فقد أراد العزة للناس في الدنيا والآخرة. ، وهذا دأب الدعاة المصلحين.

كانت الملكة عاقلة لبيبة قرأت الكتاب وعلمت مرماه ، فتدرّجت في ترويض قومها للأمر الذي أزمعت أن تنفذه :

1-  خاطبت أشراف قومها وكبارهم بالاحترام والتقدير ( يا أيها الملأ ) والملأ : كرام الناس وسادتهم.

2-  استشارتهم وطلبت رأيهم ( أفتوني) والإفتاء تقليب أوجه الرأي وتمحيص الأمر للوصول إلى القرار الصائب على الرغم أن الأمر عائد إليها في آخر المطاف ( في أمري) ولم تقل في الأمر . والشورى ملزمة هنا ( ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون). ولم تقل ما كنت لأقطع أمراً ، إنما قالت : (ماكنت قاطعة ) فاستعملت الصفة وهي أقوى من الفعل في التأكيد .

3-  حين تكون الشورى ملزمة يشعر أهل الرأي بعظم مكانتهم وأهمية أمرهم ودقة دورهم، فيخلصون في المشورة  ويبذلونها راغبين مهتمين ، فينتج القرار السليم الأقرب للصواب .

4-  إنهم أخلصوا لها في الجواب حين أعلنوا أنهم يجمعون بين أمرين مطلوبَين لقوة الدولة  : نحن أقوياء بما فيه الكفاية لرد أي عدوان . والقوة هنا كثرة العتاد والعدة . أما الثاني فالبأس الشديد والتدريب المحكم . ( نحن أولو قوة وألو بأس شديد ) .

5-  يقدم المستشار مشورته واضحة ثم يترك تقدير الأمر للقائد والملك ليتحمل مسؤولية قراره عن قناعة ويُعدَِّ له العدة المناسبة . ( والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ) ولا أظنهم خرجوا عن المألوف ، فللقيادة آفاق من المعرفة أشمل لورودها معلوماتٍ أكثرَ وأدقّ كما ذكرنا في مقدمة الفكرة.

كتاب سليمان عليه السلام القوي الذي وصفته الملكة بالكتاب الكريم يدل على إصرار صاحبه أن يصل إلى هدفه ما لم يستجب المرسل إليه إلى أوامره ، وهو – سليمان – الملك المرهوب الجانب القوي السلطان لن يتوانى في مهاجمة مملكة سبأ ويجعلها أثراً بعد عين .

قالت حكمتها التي سجلها القرآن بأحرف من نور ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)

1-  والمقصود بالإفساد الخراب والدمار ، فالحرب لا تبقي ولا تذر ، ألم يقل الشاعر الحكيم :

        وما الحرب إلا ما علمتم وذقتُمُ ..... وما هو عنها بالحديث المرجّمَ

قتلٌ وإهلاك وسلب ونهب وإذلال واستعباد .. وتنقلب الحياة ألماً وحسرة  وتشرداً ويتماً وفقراً وضَعة ...  هذه نتيجة المعركة  وهي – ملكة سبأ - أضعف من أن تقف أمام ملك قويّ ذي هدف يسعى إليه ، ولن تضيّع شعبها في عمل غير محمود العواقب.

2-  وهي تعلم نفسية الملوك حين يغضبون ، لهذا قالت متأكدة مما تقول : ( وكذلك يفعلون ).

3-  والرائع في الأسلوب القرآني في هذه الآية الكريمة مجيء جوابُ: إذا الشرطية المتعدد في صيغة الماضي ( أفسدوها وجعلوا ) للتعبير عن مستقبل مشهود كأنه حاصل ابتداءً فالملوك حين يغضبون لا يرحمون أحداً ، والتاريخ شاهد على ذلك .

4-  ولكن تستبق الأحداث بجس النبض عند العدو ، فإن كان تهديده لمال يريده أعطيناه ، وكفينا أنفسنا مؤونة التصدي له ، وما أكثر الذين يجيشون الجيوش لاكتناز ما يستطيعون في هذه الدنيا ، وقد يكون سليمان – على رأي الملكة – واحداً منهم ، وهي لا تعلم حقيقته ، فلِمَ لا تتقي شره بهدية مناسبة ؟! .( وإني مرسلة إليهم بهدية ، فناظرة بم يرجع المرسلون) واستعملت الصفتين ( مرسلة وناظرة) بدل الفعلين ( سأرسل وأنظر ) للوقوف على أمر سليمان بحكمة وتأنٍّ دالين على فهم ثاقب للأمور .

5-  فإن رضي بالهدية الثمينة كان كغيره من الملوك البطرين فاكتفينا أمره بالهدايا المتواترة وأزحنا عن أنفسنا ضرره وأذاه ، وإن كان غير ذلك نزلنا على أمره فأتيناه كما أمر. وهذا ما يفعله المغلوب على أمره الواعي لواقعه.

وتصل الهدية الفخمة الى نبي الله سليمان عليه السلام ، فيفهم مراد الملكة بلقيس وهدف أهل سبأ منها ونلحظ ما يلي :

1-  أن سليمان عليه السلام يستصغر ما فعلوه ، فهو ليس من هؤلاء الذين يطربون لما يغنمون من حطام الدنيا ولعاعها ، إن الله تعالى أعطاه من كل شيء ، وعطاء الخالق يغطي على عطاء المخلوق ، فهو – سبحانه يعطي عن جود وكرم ، وهي تعطي عن خوف وتملق ،     ( وشتان ما ين السماء والأرض...) . ( أتمدونَنِ بمال ؟! فما آتانيَ الله خير مما آتاكم) وإذا كان عطاء الله تعالى لسليمان أفضل مما أعطاها فإن عطاءها لسليمان يتقزّم كثيراً ..

2-  ( بل أنتم بهديتكم تفرحون) كلمة قالها سليمان عليه السلام لرسل الملكة فوصلت إليها قاصمة للظهر مخيفة ، إنه تهديد بالهجوم الكاسح الذي حاولت جهدها أن تتحاشاه ، فهو عليه السلام لم يرسل لها الكتاب مبتزاً أو مستكثراً ... فأسرعت إليه  لاتلوي على شيء.

3-  ويُفهمُ من قوله عليه السلام : ( بل أنتم بهديتكم تفرحون) تظنون أنكم ملكتم مني ما تريدون وحصلتم على ما رسمتم ، وهيهات هيهات لما خططتم ، فأمركم مكشوف وهدفكم واضح لا يخفى عليّ .

4-  وكأنه حين قالها كانت إعلانَ حرب تأكل الأخضر واليابس إن لم تتدارك ملكة سبأ الأمر..      ( ارجع إليهم ، فلنأتيَنّهم بجنود لا قِبَل لهم بها ، ولنخرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون) .وتأمل معي قوله المفاجئ ( إرجع إليهم) لتقيس نبض الرسول المتسارع وهو يسمع هذه الكلمة ، وتأمل التفاتة سليمان عليه السلام إلى قادة جيشه – ورسول الملكة حاضر يسمع التهديد المخيف (فلنأتيَنّهم بجنود لا قِبَل لهم بها ، ولنخرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون) فيسرع هذا المسكين إلى ملكته يلقي عليها النبأ الصاعق ، فتسرع إلى سليمان تسابق الريح.

5-  وكان سليمان عليه السلام يعلم أن النصر من عند الله لا من كثرة جيشه وقوته ، فقد ذكرنا في المقال السابق أنه كان يعزو كل الفضل لله تعالى ، لكنه حين يهدد العدو يخاطبه بما يفهم ليس غير.  ولهذا قال مهدداً ( فلنأتينهم بجنود لا قِبَل لهم بها ) . وعزز بقوله ( ولنخرجنهم منها اذلة وهم صاغرون ) خوفها من حربه عليه السلام ،وهذه الحرب الإعلامية الاستباقية.

6-  ونشعر بالقسم المؤكد باللام في ( لنأتينهم ، لنخرجنهم) يؤزم الموقف ويرسم موقف التحدي في إثبات الذات والصورة المعبرة عن اتخاذ موقف التحرك نحو سبأ.

أما مجيء الآية التالية : ( قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل ظأن يأتوني مسلمين. ) فانتقالٌ سريع إلى موقف آخر سبقته مواقف عديدة خففت من التأزم السابق حتى رأينا صورة مختلفة ، فيها النبي سليمان عليه السلام ينتظر ملكة سبأ بين لحظة وأخرى تدور فيها محاوة بينه وبين مستشاريه من الجن والإنس:

1-  نجد النبي الملك سليمان يتباسط مع الحاضرين في الحديث ويستعين بأصحاب القُدُرات في إظهار المملكة بمظهر القوة أمام الضيف القادم ، وهذا ( بروتوكول ) مطلوبٌ يحشد فيه القائد دلائل القوة والعظمة ليبعث رسائل معلومة وواضحة لضيفه المنافس .

2-  وأعظم ما عند المرأة عرشها المصنوع بإحكام يدل على الأُبّهة ( ولها عرش عظيم) ، فإن كان لضائفها مثله فقد ساواها ، وإن جلبه إليه بقوة قادر فقد فاقها في السلطة والمكانة. ( أيكم يأتيني بعرشها) قبل مجيئها يحوطها وفدُها.

3-  بدأ عفريت قويٌّ القولَ : أنا آتيك به قبل أن ينتهي لقاؤك مع مجلس شوراك – والمسافة آلاف الأميال - إنه لعَرضٌ مغْرٍ يدل على التمكن والقوة ( وإني عليه لقوي أمين). وجميل أن يعرض المرء قُدراته حين يطلب عملاً ، وهذا سيدنا يوسف قال للملك ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) .... ولهؤلاء الجن قوة لا تُضاهى تفوق قوة الإنس بمراحل لا تُقَدّر. .. فهل من عرض آخر؟!

4-  يعرض أحد الرجال من الإنس مقرّب من ربه أعطاه الله سر اسمه الأعظم و( عنده علم من الكتاب ) عرضاً تغيضُ أمامه قُدُرات ذلك الجني العفريت وتتلاشى:  أنا آتيك به بأقل من الثانية – في لمح البصر-   ( أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طَرْفُك) ومهما كان المخلوق ضعيفاً أمام المخلوقات الأخرى فإنه بعون الله وتيسيره يفوق الآخرين قَدْراً وقُدُرات. " فكن مع الله ترَ الله معك " ومن كان ولياً لله علّمه الله ، وما اتخذ الله ولياً جاهلاً ، ولو اتخذه لعَلّمه.

5-  ما كان لذلك الجني أن يعرض ما عنده لو عَلِم ما عند الإنسيّ من إمكانات مكتسبة وموهوبة ف : ملك الملوك إذا وهب .... لا تسألَنّ عن السبب

      الله يعطي من يشـاء ..... فقف على حدّ الأدب

إنه اسم الله الأعظم الذي إن سألتَ به وصلتَ، وإن طلبتَ به أُجـِبْتَ. وعرَضَ هذا الرجلُ ما عنده بعد عَرْضِ الجنّيّ ليعلم الجميع أن الله تعالى قادر أن يفعل ما يشاء ، وأن يهب ما يشاء لمن يشاء. .. سبحانك اللهم ملك الملك ، هبنا رضاك والجنة ...

6-  علمنا سيدنا سليمان شكر الواهب . إنه حين ذكر نعمة الله عليه وعلى والده قال " إن هذا لهو الفضل المبين" وحين سمع النملة تحدث قومها قال مبتسماً ضاحكاً " رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ .." وقال ابتداءً مع والده داوود عليهما السلام " الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" وهنا يقول حين رأى العرش مستقراً عنده :    ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ، ومن كفر فإن ربي غني كريم) . إن العطاء ابتلاء واختبار كالمنع سواء بسواء. فلنَعِ ذلك ولْنفهمْ.

7-  من شكر ارتد الشكر لصالحه – هكذا قالت الآية آنفاً - لكنّ الأدب الذي نتعلمه من النبي الصالح سليمان عليه السلام أنه لم يقل : ومن كفر فإنما يكفر على نفسه ويضرها. وهذا كلام لا يُلام المرء عليه فهو تحصيل حاصل. إنما أراد أن يعلمنا  أن الله تعالى غني عن العباد وعبادتهم كريم في نفسه ، فإن لم يعبده أحد فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد . وهذا كما قال موسى مخاطباً قومه " إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " وفي صحيح مسلم " يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ".

ولعل سليمان تعجب أن يرضى أهل سبأ بامرأة تحكمهم ، فأراد أن يختبر فهمها وذكاءها ، فأمر بتغييرٍ في عرشها ليرى حكمها فيه حين تراه.

1- ورغب كعادته التي علمناها في حسن الخلق الذي يتحلى به صلوات الله عليه أن تتعرف على عرشها بعد تنكيره فقدم الهداية وذكر ضميره ( أتهتدي ) وأخّر عدم الهداية وجعله مجهولاً حين قال " أم تكون من الذين لا يهتدون" ولم يقل : أتهتدي أم تضل . وهذا ما رأيناه في خطابه للهدهد ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين)

2- ينبغي التعرف على قدرات من تعاشرهم حتى تنزلهم منازلهم .. يروى أن رجلاً جسيماً يرتدي حلة فاخرة جلس بوقار إلى حلقة أبي حنيفة النعمان وهو بين تلاميذه يناقشهم في بعض المسائل ، وكان يمد رجله متعباً  في جلسته متباسطاً معهم ، فجمعها إليه حين جلس هذا الرجل بينهم ، ثم بدا للرجل أن يتكلم فسأل سؤالاً لا يدل على ذكاء وفهْمٍ ، فضحك ابو حنيفة ، وقال : آن لأبي حنيفة أن يمد رجله .. وهنا نجد نبي الله سليمان يريد أن يختبر الملكة بلقيس ، ويتعرف جدارتها في حكم أهل سباٍ ، فقال لمساعديه : " نكّروا لها عرشَها ننظرْ أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون " فغيّروا في عرشها بعض معالمه ، فلما وصلت واستقبلها أشار إلى عرشها يسألها بذكاء الأنبياء ولباقتهم : " أهكذا عرشُكِ " ولم يسألها أهذا عرشك؟ والفرق بين الطريقتين واضح . فالأول فيه شك وجواب الثاني نفي أو إثبات . فكان جوابها على قدر السؤال حين قالت : " كأنه هو " فلم تنفِ ولم تثبت. وتركته في دائرة الشك . هذا كان الاختبارَ الأول .

أما الاختبارُ الثاني فكان أن طلب إليها  دخولَ  الصرح المبني بصفائح الزجاج فوق الماء ، فلم تتبين الزجاج ، فكشفت عن ساقيها تظن أنها ستخوض لُجـّته ، فلما قيل لها " إنه صرح ممرد من قوارير " علمت أنه يريد أن يريها ملكاً أعظم من ملكها ففطنت إلى مراده فاستسلمت ، وأذعنت ثم أسلمت بعد أن أقرّت بما كانت عليه من الكفر . وقيل كما في القرطبي  - بتصرف - : عمله ليختبر قول الجن فيها : إن أمها من الجن، ورجلها رجل حمار؛ قاله وهب بن منبه. فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد بها الغرق : وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر. "وكشفت عن ساقيها " فإذا هي أحسن الناس ساقا؛ سليمة مما قالت الجن،  فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان بعد أن صرف بصره عنها " إنه صرح ممرد من قوارير" والممرد المحكوك المملس

ولما رأى سليمان عليه السلام قدميها تزوجها عند ذلك وأسكنها الشام.