يوم عاشوراء وطبيعة هذا الدين

علاء سعد حسن حميده

باحث مصري مقيم بالسعودية

[email protected]

يوم عاشوراء واحد من المناسبات الإسلامية الهامة يحتفل فيه المسلمون ويتقربون إلى الله عز وجل بالعبادة خاصة الصوم الذي سنّه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم.. وواحد من أفضل أيام العام أجرًا وثواباً عند الله تعالى إذ يكفّر بصيامه عن العبد سنة ماضية[1] .. يوم عاشوراء حلقة في سلسلة متواصلة من النفحات الربانية وفرص التوبة والمغفرة التي يمدّ الله عز وجل بها يد تفضله ونعمائه إلينا لنغتنمها ونتعرض لها.. ويوم عاشوراء كذلك واحد من أهم المناسبات التي يحافظ على إحيائها بالصيام والطاعات عامة المسلمين في واقعنا المعاصر حتى تكاد تشعر أنك في شهر رمضان وأن الصيام صيام فريضة لا تطوع من كثرة الصائمين لهذا اليوم.. ويوم عاشوراء هو يوم يشف بوضوح عن طبيعة هذا الدين وعن بعض خصائصه.. إنّ الاحتفال بيوم عاشوراء هو مناسبة مركزة للاحتفال بالأنبياء والرسل السابقين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.. ففي الحديث عن بن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال ما هذا؟ قالوا: يوم صالح, نجّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى.. فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا أحق بموسى منكم.. فصامه وأمر بصيامه ) [2] ثم أمر بالإضافة إليه وصيام التاسع معه[3].. وهذا ليس بغريب على دين الإسلام الذي يجعل من شروط صحة إسلام العبد ومن تمام إيمانه الإيمان بجميع الأنبياء والرسل وعدم التفرقة بينهم ( لا نًفرّق بين أحدٍ منْ رُسُلِه) البقرة 285..

والدين عند الله دين واحد وليس أديان متعددة، هو دين التوحيد وهو الإسلام ( إنّ الدينَ عند اللهِ الإسلام ) آل عمران 19، وما الأنبياء والرسل إلا حلقات متتالية في سلسلة الدعوة إلى هذا الدين الواحد.. ولذا هم أخوة في العقيدة وهم أخوة كذلك في المهمة والوظيفة وشركاء في الرسالة السامية المقدسة التي شرفهم الله بها.. فما هي خصائص دين الإسلام في ظل الاحتفال بيوم عاشوراء؟

1 – دين البناء والإتمام والاستكمال لا الهدم والنقض والاستبدال.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن أحق بموسى منهم".. ويقول في الحديث " إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" [4].. ويقول: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل هذا البناء إلا موضع لبنة فيه فأنا هذه اللبنة".. يعترف الإسلام بالبناء العقائدي والأخلاقي والقيمي الذي مثّل تراث البشرية منذ هبط آدم إلى الأرض إلى أن بعث الله تعالى نبيه الخاتم.. فلم يأتِ الإسلام ليهدم ويزيل كل ما سبقه ثم يبني بناء جديدا مغايرا، ولكنه أرسى دعائم ذلك البناء الإنساني الشامخ واستكمل البناء لا استبدله، وأضاف إليه ولم ينقص منه.. ومهمة المسلم في الأرض أن يلتقي مع كل قيمة نبيلة راقية وأن يتواصل مع الرصيد الإنساني الكريم.. وأن يمد يده بالبناء وليس بالضرورة بالهدم لوضع لبنات بناء جديد.. المسلم لا يحتاج أو لا يلزمه أن يهدم كل ما سبقه، ولكن هو يقوم فقط بإزالة التعدّيات على المنظومة العقائدية والأخلاقية، وينكّس ما شابها أو شوّه مسيرتها من متناقضات ويُبقي على البناء الأصيل ويضيف إليه ويتممه..

2- دين يشارك الناس لا يتفرد عنهم ولا يخالفهم لغرض المخالفة بحتا مطلقا ولكن هو معهم ما استقاموا في الطريق القويم المستقيم، فإن خالفوا أو حادوا تميّز وأمعن في تمّيز الخط الأصيل الملتقي مع الفطرة السليمة التي فطر الله عليها البشر جميعا.. نلمح بعض هذه المعاني في فريضة مثل فريضة الحج.. يقول الله تعالى ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) البقرة199.. فلا يدعونا هاجس التميز أن نعمل بعيدا عن الناس أو في معزل عنهم.. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد شهدت في دار عبد بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت )[5].. فمشاركة الآخرين في التعاون على البر والتقوى من مقاصد الدين ومن طبيعته التي لا تنفك عنه..

3 – دين السماحة المطلقة والنظرة الأصيلة الثاقبة والحكم العادل على الأمور.. لا يُلهينا أو يلفتنا تشتت الأتباع وتفرقهم وتحريفهم عن حقيقة الأديان التي هي حلقات في دين واحد، ولا يمكن أن نحكم على نبي الله موسى عليه السلام من خلال مواقف من يدّعون إتباعه ومناصرته معنا من عداء وخصومة.. فنحن أولى بموسى منهم.. نحن قوم نتقرب لله تعالى بتسمية أبنائنا بأسماء الأنبياء والرسل ونتعبّده بذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تسموا بأسماء الأنبياء "[6].. فكم تنتشر أسماء موسى وعيسى ومريم وهارون في الشعوب المسلمة، بينما أسماء نبي الإسلام ورموزه من كبار الصحابة محرّمة عند أتباع الديانات الأخرى!.. إن التوقف عند هذه الحقيقة وحدها بإحصائيات دقيقة أو عفوية ليرد على المتخرّصين على الإسلام بالتعصب والعنصرية، لما فيه من سماحة لا نظير لها..

الإسلام دين يحكم على الحقيقة، يفصل بين النظرية والتطبيق، بين الدين وبين الأَتباع.. ليس تحريف الأتباع عيبا في الدين ذاته.. ويرفض التعميم ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطارٍ يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينارٍ لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائماً )آل عمران 75 ،( ليسوا سواء ) آل عمران113.. فهو دين قائم على العدالة والإنصاف وأداء الحقوق..

4 – موقف الإسلام من معاداة السامية.. لنأخذ يوم عاشوراء يوماً عالمياً لمناهضة معاداة السامية.. الإسلام دين لا يميّز ضد جنس ولا شعب ولا لون ولا عنصر: كلكم لآدم وآدم من تراب .. والمسلمون يوم عاشوراء يحتفلون بمناسبة تاريخية عند اليهود في حرص شديد.. ليست قضية المسلم مع اليهودي ولا مع غيره فالله تعالى يقول ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) البقرة 256.. قضية المسلم قائمة مع عدو اغتصب أرضه واستباح دمه وعرضه.. وليفهم العالم وليفقه الناس كلهم أجمعين أن الإسلام دين لا يرضى بالبغي والعدوان.. يكف أهله عن العدوان فيقول الله تبارك وتعالى وهو يضع معالم الجهاد في الإسلام: ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) البقرة 190.. وهو دين يحارب البغي ولو كان بين أتباعه بعضهم البعض.. فيضع القرآن الكريم قانون كفّ الاعتداء بين المؤمنين ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلحوا بينهما ) الحجرات9.. فالإسلام يقاتل البغي أيا كان وبصرف النظر عن ديانة الباغين أو جنسهم.. ولو كانوا مسلمين.. لأنه ينهى عن البغي ولا يرضى به.. ومشكلة المسلم مع الصهاينة في العصر الحديث ليست قضية اختلاف في العقيدة، وقد عاش المخالفون في العقيدة ( نصارى ويهود ) في ديار المسلمين ويعيشون أربعة عشر قرنا من الزمان وهم آمنون رغم كونهم أقلية.. لم يمارس المسلمون ضدهم أي نوع من التمييز الطائفي ولا التطهير العرقي.. بعكس ما حدث ويحدث ضد المسلمين في بلاد شتى تدين بديانات مختلفة..

5 – الإسلام وقبول الآخر.. في يوم عاشوراء لا يعترف الإسلام بالآخر فحسب، بل يحفى الإسلام بهذا الآخر ويحتفل به فيقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أنا أولى بموسى ).. فالآخر أمام الإسلام ولو كان آخر عقائديا فهو واقع موجود وليس وهم متخيل، فالإسلام يعترف بوجوده ويدعو إلى الحوار معه يقول تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125، ويقول عز من قائل: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ... }العنكبوت46،  فالإسلام يؤكد دائما على الحوار الذي لا يقوم أساسا إلا على مبدأ قبول الآخر والالتقاء معه على نقطة سواء، أو نقطة انطلاق {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ... }آل عمران64

6 – الإسلام والعنصرية.. مسلموا مصر وهم نسبة لا يستهان بها في العالم الإسلامي يحتفلون بيوم عاشوراء ويتقربون به إلى الله تعالى بصيامه إتّباعاً لسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا دققنا النظر إلى المناسبة التاريخية نجد أن فرعون حاكم مصر وأتباعه وجنده وهم من جند مصر حاربوا نبي الله موسى عليه السلام وحاربوا قومه من قبله وهم بني إسرائيل  {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }إبراهيم6 ، الحرب إذن أو المعركة كانت بين بني إسرائيل وبين آل فرعون ومنهم أو كثير من أتباعهم كانوا هم شعب مصر.. لكن الإسلام لم يقدم لنا القضية أو المواجهة باعتبارها قضية قومية.. ولكنه قدمها لنا كقضية حق في مواجهة باطل، وعدل في مواجهة ظلم وطغيان، وإيمان في مواجهة كفر.. فمسلمو مصر اليوم يحتفون بنجاة بني إسرائيل وينتصرون لهم على فرعون ملك مصر وأحد رموز حضارتها التاريخية.. فالإسلام دين الله للعالمين وليس دين قومية محدودة أو عنصرية ممجوجة أو عرقية ضيقة،  {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107

هذا هو الإسلام الدين الخاتم الذي يجعل الإيمان بكافة الأنبياء والرسل من شروط صحة العقيدة، والذي يجعل تخليد ذكرى الأنبياء بتسمية المسلمين بأسمائهم قربى وعبادة، والذي يحتفل بيوم عاشوراء وهو يوم نجَّى الله تعالى فيه بني إسرائيل ونبيهم موسى عليه السلام.. هذه هي سماحة الإسلام فأرنا سماحتك أيها العالم المتحضر في القرن الواحد والعشرين..

                

[1]  -  من حديث أبي قتادة رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

[2] - متفق عليه

[3]  - ( لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ( يعني مع يوم عاشوراء) رواه أحمد ومسلم

[4]  -  رواه الإمام مالك والإمام أحمد والطبراني

[5]  - بن هشام ج1 ص 113 ت الرحيق المختوم ص 56

[6]  - ابو داوود والنسائي