مع الله

حسام مقلد *

[email protected]

في غمرة الحياة ووسط زحمتها وضجيج أحداثها المتواصل كثيرا ما يذهل المرء عن نفسه وينشغل عن غاية وجوده العظمى وهي عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)" [الذاريات:56-58].

وفي لحظة من اللحظات تتكشف الحقيقة ويدرك الإنسان أنه انغمس بل أوغل فيما كان يحذره بشدة، وما هي إلا تأملات يسيرة في حال نفسه وحال غيره حتى يدرك أن القرب من الله تعالى والعيش في معيته سبحانه هو سر السعادة، وطريق السكينة والطمأنينة، ولن يتأتَّى ذلك بكثرة الكلام عن الإيمان فقط، أو كثرة ترديد أقوال أهل العلم دون تمثلها والعمل بها، بل لا بد من قلب عامر بالتقوى، ومن مجاهدة هوى النفس وحملها على طاعة الله عز وجل في السر والعلن، ومراقبته سبحانه في كل الأعمال الظاهرة والباطنة، ولا بد للمرء كذلك من العمل الصالح، ومخالطة الناس ومعاملتهم بالحسنى، والتحلي معهم بمكارم الأخلاق والسلوكيات الحسنة، وبذل النصيحة والكلمة الطيبة لهم، وإسعاد جميع من حوله وإدخال البهجة على قلوبهم.

وكل هذه المعاني الجليلة لن تبقى حاضرة في الذهن حية في الوجدان ما لم يحرص الإنسان دائما على تقوية صلته بالله عز وجل، وما أعظم الجلوس مع الله عز وجل في خلوة خاشعة ذاكرة؛ لتدبر آياته في كونه، والتأمل والتفكر في عظمته وقدرته وحكمته سبحانه، مع حضور القلب، وصفاء الذهن، وعمق الفكر، والانقطاع إلى الله عز وجل عمن سواه، والندم على ما فات من أخطاء، والنظر بعين الثقة والرجاء فيما هو آت، فذلك هو مفتاح السعادة، ومنبع القرب من الخالق جل وعلا، فالقرب منه سبحانه ليس بكثرة الأماني وقلة العمل، ولا بكثرة كلام اللسان عن الإيمان دون معايشة الجوارح له، ووالله إن سعادة الإنسان في هذه الحياة لسر عظيم من أسرار الله عز وجل، وهي ـ في ظني ـ شعور نوراني عميق يقذفه الله في قلب عبده؛ فتسمو روحه، وترتفع نفسه على هموم الدنيا ومصائبها، نعم قد يحزن ويتألم لكنه لا يجزع، بل يبقى على عهده مع الله تعالى، ويشتد تعلقه به سبحانه، ويزداد يقينه بحكمة الله البالغة، فيرضى بحكمه، ويصبر لقضائه، ويحتسب الأجر عنده سبحانه؛ فيكون ذلك سببًا للفرج القريب والفرحة العظيمة التي لا توصف.

ولننظر إلى جموع المصلين في المساجد، وأفواج الطائفين حول الكعبة المشرفة في البيت الحرام، لقد خرج الواحد منهم من ذاته وتخلص من الأنا التي بداخله، وأصبح جزءا متناغما مع المجموع، مع أن كل فرد يلهج لسانه بدعاء معين، ويتضرع إلى الله مخبتا ومنيبا على طريقته الخاصة، ووالله فإن ذكر الله تعالى والعيش معه سبحانه لهو حياة القلوب وأنسها وبهجتها وربيعها الدائم، عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت" (متفق عليه) وقد قال أحد السلف الصالح:"حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهنِيء في الحياة مع الله تعالى وحده". 

والعيش في معية الله تحتاج إلى قلب خالٍ مما سواه، قلب سليم مخبت منيب، وكلما مرض قلب الإنسان كلما ابتعد عن الله تعالى، واقترب من الدنيا واستوطنه حبُّها، والشغفُ بها، واللهفةُ عليها، حتى يركن إليها ويصير من أَهلها والعياذ بالله.

وما أجمل أن يحب المؤمن الله تعالى بكل جوارحه، فيتعلق قلبه به سبحانه وتعالى، ويلهج لسانه بذكره عز وجل وبحمده وشكره والثناء عليه، ومثل هذا المؤمن يحيا حياة طيبة؛ لأنه ينشغل بالله جل وعلا طوال نهاره وليله؛ فهو يوقن أنه لا راحة، ولا سرور، ولا فلاح، ولا نعيم، إلا برضاه وقربه والأنس بهِ، فبه تطمئن القلوب، وإليهِ تسكن الأرواح، وبه جل ثناؤه نعتصم ونحتمي وإليه نلجأ ونأوي، وبهِ تقدست أسماؤه نسعد ونفرح، وعليه نتوكل، وبهِ نثق، وإياه نعبد، وإليه نسعى ونحفد، ورضاه وحسن ثوابه نرجو، ومن انتقامه وغضبه نخاف؛ فما أروع أن نقبل على الله تعالى بكل جوارحنا، فذكره عز وجل هو غذاء القلب وحياته، ونعيمه ولذته وسروره، و المؤمن الصادق لا يفْتُر عن ذكر ربه، ولا يسأم من دعائه والتضرع إليه، ولا يأنس بغيره.

                

 * كاتب إسلامي مصري