رَمَضَانُ ربيعُ النُّفُوس

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

إذا كان "ربيع الزمان" هو فصل الصحو، وجمال الطقس، والتفتح، والخضرة، والنضرة، والنماء، والنشاط، والحيوية؛ فإن شهر رمضان هو "ربيع النفوس والأرواح"؛ إنه الواحة اليانعة الغنّاء التي رصدها الله ـ سبحانه وتعالى ـ للمسلم ليركن إلى أفيائها، ويتملى جمالها، ويتمتع بثمارها، بعد مسيرة أحد عشر شهرًا من العناء في ضجيج الحياة ومادياتها، وضوضائها وهمومها.

فلا عجب إذن أن كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل بعثته ـ يقضي طيلة هذا الشهر في غار حراء، يعبد ربه، ويسبح بحمده، ويتملى عظمته في خلقه، حيث الهدوء يلف الكون من حوله فيسمح للنفس بالانطلاق المتأمل بلا موانع وبلا معوقات.

ويكفي هذا الشهر فخرًا وعظمة أنه يحمل في أيامه ليلة لقدر، التي هي خير من ألف شهر، إذ بدأ نزول القرآن فيها، وفيها تنزل الملائكة والروح، وتظل هذه الليلة سلامًا حتى مطلع الفجر.

وبنص القرآن الكريم في آية أخرى نقرأ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).البقرة - 185

جاء هذا التعظيم في هذا النص القرآني للشهر الكريم، قبل ورود الأمر بصيامه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) البقرة -185. أي عليه أن يصوم شهر رمضان. أيّ رمضان؟ رمضان المعظم بنزول القرآن الهادي إلى الحق، والمبين للسبيل المثلى، والمفرق بين الحق والباطل حتى يكون المسلم على بينة من كل شيء.

فارتباط رمضان بالقرآن إذن إنما هو ارتباط عضوي، أو بتعبير آخر: ما يطلب من المسلم هو "صيام رمضان القرآني" ـ الذي يمثل القرآن بأوامره ونواهيه وجوهره ونخاعه.

ولكن الشيء المؤسف حقًّا أن الغالبية العظمى من المسلمين يتعاملون مع هذا الشهر الكريم على أساس أنه شهر طعام وشراب وتخمة "فالموائد تكون غاصة بأكوام من الطعام الدسم الثقيل، والمقبلات، والحلوى بكل أنواعها، وما يلقى في أوعية القمامة أضعاف ما يؤكل على الموائد. وما يلتهمه المسلم في وجبتي الإفطار والسحور يكفيه ـ في الأيام العادية ـ لخمس وجبات. وأنا أعرف كثيرًا من الأصدقاء يزيد وزنهم وشحمهم ولحمهم في هذا الشهر، وبذلك يفوتهم الحكمة الطيبة العلاجية من هذا الشهر الكريم.

ومن ناحية أخرى نجد المظاهر الترفيهية  تكاد  تلتهم المظاهر الدينية، في برامج التلفاز من "الفوازير" و "الأفلام" و "اللقاءات العابثة الهازلة" وبذلك تفلت من المسلم "الحكمة الروحية" من الشهر العظيم.

مظهر مؤسف آخر، وهو أن كثيرين ينظرون إلى الشهر الكريم على أنه للاسترخاء والكسل والتقاعد "بسبب الصيام" مع أنه في عهد أسلافنا: كان شهر الجهاد، والعمل: ففيه ـ على سبيل التمثيل ـ كانت غزوة بدر، والفتح، وغيرها.

ومما يؤسف له أيضًا أن بعض المسلمين "تفلت" أعصابهم، ويثورون لأتفه الأسباب، ويعاملون الآخرين بفظاظة وشراسة، ويعتذرون عن ذلك "بالصيام" الذي حرمهم من "اعتدال المزاج" بالسجارة وفنجان القهوة. وبذلك يفقد المسلم حكمة أخرى من حكم الصيام هي الحكمة التربوية السلوكية.

وبهذه الطريقة يصبح شهر رمضان شهر "مفقودات" في مجالات النفس، والعقل، والروح، والمجتمع. وهو الذي شرعه الله يكون شهر "موجودات إيجابية" لتجديد بناء الفرد والمجتمع في شتى المجالات. ألست معي ـ يا عيزيزي القارئ ـ بأننا قد ظلمنا هذا الشهر العظيم بفهمنا المعكوس، وسلوكنا الموكوس، وبذلك نكون قد ظلمنا أنفسنا ظلمًا فادحًا، ويا له من ظلم صارخ فادح!!!