أولو الألباب 2+3

أولو الألباب

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

2

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) البقرة.

لن نخوض في صحة الإحرام بالحج في غير أشهر الحج ولكن ننوه إلى أن الشافعية قالوا به في أشهُرِ الحج فقط ، وجوّزه الأحناف في كل شهور السنة

وأشهُرُ الحج المعلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة غير أن الأشهر الحرم يدخل فيها المحرّم ويخرج منها شوال ، وينفرد رجب.

وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج والله أعلم.

1- فمن أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب (الرفث) وهو الجماع كما قال تعالى " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " ويَحرُم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك وكذلك التكلم به في  حضرة النساء . وروي أن ابن عباس كان يحدو وهو محرم وهو يقول :

                  وهُنَّ يمشين بنا هميسا         إن تصدقِ الطير نَنِكْ لميسا

فراجعه أبو العالية : فقال تكلمُ بالرفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء. وقال عبد الله بن طاوس عن أبيه :سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل " فلا رفث ولا فسوق " قال : الرفث التعريض بذكر الجماع، وهو أدنى الرفث . وقال عطاء بن أبي رباح : الرفث الجماعُ وما دونه من قول الفحش . وكذا قال عمرو بن دينار. وقال عطاء : كانوا يكرهون (العرابة) وهو التعريض وهو مُحرِمٌ . وقال طاوس : وهو أن يقول للمرأة إذا حللتُ أصبتك . ويدخل فيها القبلة والغمز .

2- أما " الفسوقُ" فعصيان الله صيداً أو غيره ، وهو – كذلك- السبابُ وخصام المسلمين وإيذاؤهم، والتنابز بالألقاب وإتيانُ معاصي الله في الحرم. كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم وإن كان في جميع السنة منهيّاً عنه إلا أنه في الأشهر الحرم آكد ولهذا قال : " منها أربعة حرم ،ذلك الدين القيِّم فلا تظلموا فيهن أنفسكم " وعصيان أوامر الله وتناسيها ظلم للنفس وبُعدٌ بها عن حياة المسلم الحقِّ. وقال في الحرم : " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمُّه" . وقال:" والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " أخرجه مسلم وغيره , وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض من عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال ) , وقال الفقهاء : الحج المبرور هو الذي لم يُعصَ الله تعالى فيه أثناء أدائه.

3- وللجدال معانٍ ذكرهاالعلماء ، منها:

أ- نسيء الاشهر الحُرم التي كان بعض العرب يفعلونها ، فيُقدِّمون بعض الأشهر الحِلّ ويؤخرون بعضها للغزو أو الرعي ..

ب- جدال الناس من غير الحجاج أيام الحج في حياتهم ،وكأن عليهم أن يشاركوا الحجيج مناسكهم

عن بعد، وقد حثّنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر العمل الصالح في الأيام العشر الأولى من ذي الحجة ، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام- يعني أيام - العشر قالوا يا رسول اللهِ ولا الجهادُ في سبيل الله قال ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".وروى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال:": يُكفِّرُ السَّنةَ الماضيةَ والباقيةَ ، وسُئل عن صومِ يومِ عاشوراءَ فقال : يُكفِّرُ السَّنةَ الماضيةَ".

ج- وفي قوله سبحانه " وما تفعلوا من خير يعلمْه الله" تنبيه إلى علم الله تعالى بأحوالنا وأعمالنا وتحذيرٌ من مخالفة أمره ، وذكرَ القرآنُ كلمة (الخير) وتجاوزَ عن كلمة (الشر) اختصاراً وتربيةً، وكأنه سبحانه بعدم ذكرها يحضنا أن نكون من أهل الخير ونترك فعل الشر.

د- ويدعونا الله تعالى بقوله:" وتزوّدوا ، فإن خير الزاد التقوى"إلى أكثر من أمر:

- أن تكون التقوى معيارَ حياتنا ، والحجُّ من التقوى.فهو من أركان الإسلام.

- أن يتزود الرجل في سفره إلى الحج فإن لم يستطع فليس عليه حجٌّ، ولا يعتمد على غيره في زوّادة حجه.

- أن يكون الحاجُّ كريماً يطعم إخوانه من الحجاج من أطايب طعامه الذي يحمله معه .ويعين أهل الحرم ( وكان هذا ديدن الحجاج قبل يُسر أهل الحرم).

هـ-  والآيات التي سبقت هذه الآية تحدد مناسك الحج ، وتوضحها ، فمن التزمها كان تقياً وصحّ حجُّه ،إن تقوى الله تعالى السبيلُ إلى رضاه ،وما يفعل ذلك إلا أولو الألباب.

3

الحكمة رزق كريم، وفضل عميم، من تحلّى بها فقد نال الكرامة في الدنيا وأوصلته مع الإيمان بالله والعمل الصالح إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولا ينالها إلا المحظوظ.

 ورسول الله صلى الله عليه وسلم آتـاه الله الحكمة ليعلمها المسلمين، فينتفعوا "لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" آل عمران (164).

 وقال تعالى في الآية الثانية من سورة الجمعة:

"هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" .

وقال تعالى منبهاً إلى الطريقة المثلى في الدعوة إلى الله:

"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" النحل (125)

قال القرطبي في تفسيرها: الحكمة: تلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف.

وعيسى عليه السلام آتاه الله الحكمة كذلك:

"وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" المائدة (110).

وأخبرنا عن داوود عليه السلام:

"وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب" ص (20).

وقال في حق لقمان الحكيم:

"ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله". لقمان (12)

فما هي الحكمة؟

قال مالك: المعرفةُ بالدين، والفقه بالتأويل، والفهمُ الذي هو سجيّة ونورٌ من الله تعالى.

وقال قتادة: هي السنّة، وبيان الشرائع.

وقيل: هي الحكم والقضاء خاصة.

وقيل: الحكمة شكر الله تعالى.. ألم يقل الله تعالى:

"ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله؟!"

وأرى أن الحكمة في الدعوة تراعي مقتضى الحال:

1 – فمن كان ذا عقل وبصيرة خوطب بالحجة والبرهان.

2 – ومن كان عالماً بُسِطت له الأدلة ووسائل التدبُّر.

3 – ومن كان لطيفاً مهذباً خوطب بما يناسبه.

4 – ومن كان جاهلاً عُلِّم واعتني به.

5 – ومن سفِه وتطاولَ قُمعَ، ونُهر.

وقال تعالى- [وهنا بيت القصيد في مقالنا هذا]:

"يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ" (269) البقرة.

فلا ينال الحكمة إلا من شاء الله تعالى له المكانة العالية  في الدارين ، ولهذا جاء قولُه سبحانه:" يؤتي الحكمة من يشاء " شرحها ابن عباس رضي الله عنهما: (المعرفة بالقرآن ناسخِه ومنسوخِه ومحكمِه ومتشابهِه ومقدمِه ومؤخرِه وحلالِه وحرامِه وأمثاله)

وقال الحسنُ البصري رحمه الله تعالى : هي الوَرَعُ

وقال مجاهد: (الحكمةُ الإصابة في القول والعلم والفقهُ والقرآن).

وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله فإن خشية الله رأس كل حكمة ، وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه، وقال بعضهم : السنّة والفهمُ والفقهُ في دين الله

وقال السدي : الحكمة النبوةُ .والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة والرسالة أخص ،( قالها ابن كثير).

وقال القرطبيُّ في تفسيره:( إن الحكمة مصدرٌ من الإحكام ،وهو الإتقان في قولٍ أو فعلٍ , فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس , فكتابُ الله حكمة , وسنة نبيه حكمة , وكلُّ ما ذكر من التفضيل فهو حكمة . وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه , فقيل للعلم حكمة لأنه يمتنع به , وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح , وكذا القرآن والعقل والفهم .

عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول :(لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها ) رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهما."

وذكرَ ثابتُ بن عجلان الأنصاري قال : كان يقال : إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم المعلم الصبيان الحكمة صرف ذلك عنهم . والحكمة ( القرآن)

فمن أوتي هذه الفضائل فقد دخل ابوابَ الخير كلها، وأعطي ما لم يُعطَ غيرُه. ولعلنا نذكر قوله تعالى" وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " [ الإسراء : 85 ] . فسمى عطاء الحكمة خيراً كثيراً ; وكان العلم إلى جانبها قليلاً ،فكانت الحكمة جوامع الكلم .

وحين أعطى الله بعض أهل الدنيا مالاً كثيراً سمّاه متاعاً ، والمتاع زائل فقال " قل متاعُ الدنيا قليل" وسمّى الحكمة خيراً كثيراً

وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لبٌّ وعقلٌ يعي به الخطاب ومعنى الكلام .وما يعرف الحكمة وفضلها إلا أولو الألباب ، ولا ينالها سواهم ، فهم وحدهم من يعرف فضلها ،ويعمل بها ، وصاحب اللب ذكي زكي ، أديب اريب...

اللهم ارزقنا الفهم والدراية وحُسن العمل واجعلنا من ( أولي الألباب)