خواطر من الكون المجاور الخاطرة ١٦٤ : روحانية الزمن الجزء ٤

في المقالة الماضية ذكرنا أن الحديث الشريف ( لم يكن نبيُّ إلا وعاش نصف عمر الذي كان قبله) له معنى رمزي ورأينا أن الأنبياء كما هو مذكور في سفر التكوين حسب التسلسل الزمني كانوا على مجموعات وأن كل مجموعة كان لأنبيائها نصف عمر المجموعة التي قبلها كما يذكر الحديث الشريف ، فمثلا النبي عابر ( هود) عليه الصلاة والسلام الذي ينتمي إلى المجموعة الثانية عاش(٤٦٤ سنة) وهو نصف عمر نوح عليه الصلاة والسلام(٩٥٠) الذي ينتمي إلى المجموعة الأولى .

ولكن هل هي حقيقة أن الإنسان في العصور القديمة كان يعيش مئات السنين ، للإجابة على هذا السؤال يجب علينا ان نعتمد منطق الحديث الشريف الذي ذكرناه في بداية المقالة فإذا أخذناه بمعناه الحرفي فسنجد انه مناقض للواقع فأعمار هؤلاء الأنبياء حسب تسلسلهم الزمني إبراهيم ١٧٥ سنة ، إسماعيل ١٣٧،إسحاق ١٨٠، يعقوب١٤٧، يوسف ١١٠ سنة . يناقض المعنى الحرفي للحديث الشريف.

إن عدم تطابق أرقام أعمار هؤلاء الأنبياء مع قانون الحديث الشريف ، يعني أن معنى هذا الحديث الشريف هو رمزي وليس حرفي، وكذلك أرقام أعمار الأنبياء هو رمزي أيضا ، حيث كل نبي يعبر عن مرحلة تطور معينة سواء كانت مرحلة تطور الكون او تطور الحياة او تطور الإنسان ، ولكن ما يهمنا هنا هو علاقة هذا الحديث الشريف بمفهوم الزمن . وهذا ما سنشرحه في الأسطر التالية.

في اللغة العربية نستخدم كلمة (سِن) في التعبير عن الزمن ، فكلمة (سنة) والتي تعني عام ، أصلها من كلمة سن ، وكذلك نقول أن فلان سنه ٢٤ عام أي أن عمره ٢٤ عام، ولكن كلمة (سِن) أيضا نقصد بها تلك القطعة العظمية الصغيرة الموجودة في الفم والتي عملها قطع الطعام ومضغه ( الأسنان)، فما هي العلاقة بين كلمة (سِن) التي نقصد بها عمر الإنسان مع كلمة ( سِن) التي نقصد بها احد أسنان الفم .

اللغات بشكل عام ظهرت بشكل فطري ولم يكتشفها الإنسان ، فالإنسان لم يجلس ليفكر قي تسمية الأشياء ولكن خرجت من فمه بشكل روحي من وحي إلهي كما تذكر الآية القرآنية ٣١ من سورة البقرة (وعلم آدم الأسماء كلها ....) ، اللغة العربية والتي هي لغة القرآن الكريم ليست من صنع الإنسان ولكن من صنع الله عز وجل ، لذلك أسماء الأشياء في اللغة العربية ليست صدفة ولكن موضوعة ضمن خطة إلهية تساعدنا في رؤية المخطط الإلهي من خلال فهم ما يحدث حولنا، فجميع التطورات لها معنى روحي ودراستها من خلال علم الفيزياء فقط ، لن يفيدنا في فهم علاقة الظواهر الكونية في التكوين الروحي والجسدي للإنسان، وأفضل مثال على إثبات ذلك هو كلمة( سن) ، فكلمة سِن التي نستخدمها كتعبير زمني وكذلك كتعبير عن القطع العظمية الصغيرة في الفم ( الأسنان) لم يحدث صدفة ولكن ليساعدنا على فهم حقيقة مفهوم الزمن ودوره في تطور الكون وكذلك علاقة تطور الكون مع تطور الإنسان روحيا وجسديا .

إذا تمعنا في تكوين الأسنان في فم الإنسان سنجدها تتألف من عدة مجموعات حسب التسلسل التالي : أضراس الطواحن ، اضراس الضواحك ، الأنياب والقواطع .. إذا تمعنا جيدا في شكل هذه الأسنان سنجد أنها تتبع قانون الحديث الشريف ( لم يكن نبيُّ إلا وعاش نصف عمر الذي كان قبله) فبشكل عام الأسنان الخلفية وهي أضراس الطواحن لها أربعة جذور ، أما الأسنان المتوسطة وهي الضواحك فلها جذرين أثنين أي نصف عدد جذور الأسنان التي قبلها ، أما الأسنان الأمامية والتي تستخدم في عملية قطع الطعام وهي الأنياب والقواطع فلها جذر واحد أي نصف عدد جذور الأسنان التي قبلها .

الحديث الشريف هنا يوضح لنا العلاقة المتناقضة بين دور الأنبياء ودور الأسنان ، فالنبي دوره دفع التطور نحو الإرتقاء وذلك عن طريق توحيد الأشياء بشكل منسجم لتتحول من شكل بسيط إلى شكل أرقى وأكثر تعقيداً ، بينما الأسنان دورها تمزيق وطحن الأشياء أي بمعنى تحطيم الروابط بينها لتعود إلى شكلها الأبسط والأدنى، لذلك كلمة سن لها أيضا معنى زمني لتساعدنا في معرفة وجود نوع آخر من الزمن فهناك نوعين من الزمن الزمن السلبي والزمن الإيجابي ، الزمن السلبي يعمل بشكل معاكس للزمن الإيجابي الذي نعرفه. فالزمن الأيجابي هو مولد للطاقة اللازمة لاستمرار عملية التطورات الكونية ، بينما الزمن السلبي هو الذي يحطم هذه الطاقة ويفنيها من الوجود . لتوضيح هذه الفكرة بشكل أفضل لا بد من شرح أسطورة إله الزمن .

الله عز وجل عدا الكتب المقدسة أوحى لبعض الناس بأفكار وصور والتي منها نتجت ما نسميه أساطير، هذه اﻷساطير هي حكايات تساعدنا في فهم بعض اﻷشياء الروحية والتي يصعب على عقل اﻹنسان إكتشافها بمفرده ، ورغم أن كثير من هذه اﻷساطير عبر التاريخ تم تشويهها فظهرت بصور مختلفة عن شكلها البدائي ولكن اﻷساطير التي جاءت من عند الله بقيت كما هي ، ومن يبحث في مضمون اﻷساطير ويقارنها بقصة الخلق وقصص اﻷنبياء ، وباﻹستعانة بالعلوم المختلفة يمكن للباحث أن يحدد تلك اﻷساطير التي بقيت كما أوحى بها الله في شكلها الصحيح.

إحدى هذه اﻷساطير هي اﻷسطورة إله الزمن ( كرونوس ) الإغريقية.

اﻷسطورة تذكر أن إله الزمن ( كرونوس ) قتل والده وإستولى على عرشه، وﻷن والده قبل موته قد أخبره بأن أحد أبنائه سيفعل به كما فعل هو بأبيه ، لذلك راح يلتهم كل طفل مذكر تنجبه له زوجته ليحافظ على حياته وعرشه. وعندما رأت زوجته (ريا ) يلتهم إبنها ( آذيس ) ثم إبنها الثاني (بوسيذون ) قررت أن تحتال على زوجها لإنقاذ حياة أطفالها. لذلك عندما أنجبت إبنها الثالث ( زيوس) أرسلته إلى جزيرة كريت ليكبر هناك بعيدا عن أعين زوجها ، وبدلا منه راحت وقدمت لزوجها حجرة على شكل طفل رضيع ،فأخذها وإلتهمها ظاناً بأنها إبنه الجديد.

عندما كبر اﻹبن الثالث زيوس وأصبح شابا عاد إلى بلاده لينتقم من أبيه ، وطلب المساعدة من زوجته ( ميتيس) ، وهذه بدورها ذهبت وأعطت إله الزمن ( كرونوس ) شرابا جعله يتقيأ ويخرج من معدته إخوة زيوس (أذيس وبوسيذون ). وهكذا وبمساعدة إخوته اﻹثنين شن زيوس معركة ضد أبيه دامت عشر سنوات ومعروفة بإسم ( صراع الجبابرة ) حيث إنتصر فيها زيوس على أبيه وأخذ العرش منه، تماما كما تنبأ له والد كرونوس قبل وفاته.ومنذ ذلك الوقت راح سكان تلك المنطقة المعروفة اليوم بإسم ( أولمبيا ) يقومون بتنظيم اﻷلعاب اﻷولمبية كل أربع أعوام إحتفالا بذكرى إنتصار زيوس على أبيه كرنوس إله الزمن.

للأسف جميع العلماء والمفكرون - وخاصة علماء الدين - ينظرون إلى هذه الأسطورة على أنها خرافة من خرافات الشعوب القديمة، لذلك فهم لا يحاولون الربط بين ما يحدث في هذا الكون وبين أحداث هذه الأسطورة، ولكن من يتمعن بها جيدا ويحاول فهم مضمونها يستنتج أنها ليست من عقل إنسان ولكنها من عند الله ،وأن أحداثها لها معاني رمزية تساعدنا في فهم الناحية المادية لقصة الخلق. فقصة الخلق المذكورة في الكتب المقدسة هي القسم الروحي منها أما اﻷساطير فهي قسمها المادي لذلك حتى نفهم قصص الكتب المقدسة ونحدد مكانها في الكون وتطوره لابد من دمجها مع اﻷساطير التي تناسبها.

أنظروا جيدا إلى توافق أبطال الأسطورة مع أﻷبعاد اﻷربعة كما وضعها أنشتاين في نظريته النسبية ، ولكن بطريقة محرفة تماما. في النظرية النسبية، نجد أن الزمن هو بعد رابع مثله مثل بقية اﻷبعاد الثلاثة اﻷخرى ( الطول ،العرض ،اﻹرتفاع ) ، ولكن في الأسطورة ، نجد أن الزمن ليس بعدا ولكنه هو الذي يصنع اﻷبعاد الثلاثة اﻷخرى فالزمن هو اﻷب الذي ينجب اﻷبعاد الثلاثة اﻷخرى ( أبنائه : أذيس، بوسيذون، زيوس)، أنظروا إلى التوافق بين معاني اﻷبعاد ونوعية عمل كل إبن :

- الإبن اﻷول آذيس هو إله العالم السفلي ويمكن إعتباره البعد الأول من بعدي القاعدة وهو ( الطول).

- الإبن الثاني بوسيذون وهو إله البحار ، ويمثل البعد الثاني من بعدي القاعدة وهو (العرض) ، فإجتماعه مع البعد اﻷول يعطينا مستوى القاعدة اﻷفقي، تماما كما يحدث على سطح الماء المستوي. لذلك كان اﻹبن الثاني رمزه إله البحار.

- اﻹبن الثالث زيوس وهو إله السماء (البرق ) والذي يمثل البعد الثالث ( اﻹرتفاع). لذلك باتحاده مع القاعدة يتشكل الحجم.

هذه اﻷسطورة تصور لنا ما حدث قبل ااﻹنفجار الكبير حيث كان الزمن فيها من النوع السلبي أي التغيير فيها كان يسير نحو الفناء المطلق ، فمع طرد الإنسان من الجنة ظهر الزمن السلبي الذي قام بفناء البعد الأول الطول ثم البعد الثاني العرض ، وأراد فناء البعد الثالث الإرتفاع ، ولكن اتحاده ثانية مع اﻷبعاد (الطول والعرض ) أدى إلى التضخم الفجائي المعروف بإسم اﻹنفجار الكبير (big bang) والذي في الأسطورة يمثل (صراع الجبارة) وعندها ولد الزمن اﻹيجابي وظهرت المادة ( الحجم ) ، وتشكلت جميع مكونات الكون كما نعرفها اﻵن. فما حدث قبل اﻹنفجار الكبير يحدث بنفس الطريقة في الثقوب السوداء ،حيث يتحول الزمن من زمن إيجابي ( مولد للمادة ) إلى زمن سلبي ( مدمر للمادة ).لذلك نجد أن كلمة الزمن بمعناه العام في اللغة اليونانية هي ( خرنوس ) وتعبر عن الزمن اﻹيجابي حيث الحرف الأول فيها يختلف عن كلمة إله الزمن السلبي فبدل حرف (ك) نجده قد تحول إلى حرف (خ ) للتفريق بين الزمن السلبي (كرونوس ) والزمن اﻹيجابي( خرونوس)، فالزمن في الثقوب السوداء هو من النوع السلبي ( كرونوس ) أما خارج الثقوب السوداء فهو إيجابي من النوع (خرونوس ) ، فما يعرفه علماء الكون عن الثقوب السوداء وعن إستخدامها في تحقيق عملية السفر عبر الزمن هو من أغبى الخرافات التي ظهرت في تاريخ اﻹنسانية ، ﻷن كل شيء يدخل الثقب الأسود يتحول فيه الزمن مباشرة من إيجابي إلى زمن سلبي حيث تنهار اﻷبعاد الثلاثة للمادة (الطول والعرض واﻹرتفاع ) ويختفي من الوجود نهائيا ، فما يحدث في الثقوب السوداء هو في الحقيقة الموت المطلق وليس السفر عبر الزمن كما يعتقد معظم علماء الفيزياء، واﻹيمان بصحتها لا يدل سوى على جهل مطلق لمفهوم التطور الكوني.

النظرية النسبية تحوي معلومات هامة وهذا لايمكن الشك به ولكن سلبيتها تكمن في طريقة تفسيرها للظواهر الكونية، فقد طرحها أنشتاين بشكل خاطئ ومضلل، لذلك وللأسف بدلا من أن تساهم في محاولة فهم المبدأ العام في تطور الكون لنستطيع فهم سبب وجودنا فيه ، ساعدت آراءه في تشتت جميع زوايا النظر لما يحدث في الكون وحولته من كون ذو مفهوم روحي إلى كون مادي خالِ من الروح، حيث كل منطقة منه تسير على هواها.

الزمن بمعناه الروحي هو واحد في كل مناطق الكون ، ﻷنه يسير على ساعة مراقب واحد فقط وهذا المراقب هو الله عز وجل. واﻹنسان نفسه يتبع هذه الساعة في محاولة فهمه لما يحصل في داخل الكون ، فحادثة ولادة عيسى عليه الصلاة والسلام مثلا كحدث تاريخي هي حدث ثابت حدث في نفس اللحظة في جميع أنحاء الكون ، فهو حدث روحي حصل عندما وصل التطور الروحي للكون بأكمله إلى اللحظة المناسبة لولادة عيسى ، لذلك حدثت هذه الولادة ،فهذا الحدث إنتهى قبل 2000 عام بالنسبة للكون بأكمله وليس فقط بالنسبة للكرة اﻷرضية. هذه الحادثة تم تسجيلها في الساعة اﻹلهية وهي الساعة التي تسير عليها أحداث الكون بأكملها حيث جميع عناصره مترابطة فيما بينها ترابط مطلق.

أما أن نفكر بنفس منطق فكر أنشتاين في نظريته النسبية ،فنقول بأن حادثة ولادة عيسى بالنسبة لمخلوقات تعيش في مجموعات نجمية تبعد عنا مسافة 3000 سنة ضوئية لم تحدث بعد ، ﻷن الضوء يحتاج إلى 3000 سنة ضوئية ليصل إليها وهذا يعني أن ولادة عيسى ستحصل بالنسبة لهم بعد 1000 عام ،فهذا اﻹعتقاد ، إعتقاد ساذج ،ﻷنه لا يوجد هناك مخلوقات ذات وعي لتستطيع فهم المعنى الروحي لولادة عيسى . فولادة عيسى كانت حدث روحي عظيم ولا يهم سوى اﻹنسانية نفسها ﻷن اﻹنسان هو هدف جميع التطورات الكونية لأن الإنسان هو فقط المخلوق الذي يحوي في داخله جزء من روح الله. فالكون بأكمله يسير بناءً على تطور روح اﻹنسان. والكرة اﻷرضية هي مركز الكون روحيا ﻷنها المنطقة الوحيدة التي تحوي على الوعي ،والوعي موجود فقط في اﻹنسان الذي يعيش عليها. وهو سيد مخلوقات هذا الكون الفسيح. فما يحدث في الكرة اﻷرضية مشابه تماما لما يحدث في دماغ اﻹنسان ، فبدون الدماغ ، يخسر اﻹنسان إحساس الوعي لما يجري حوله وينتهي وجوده ككائن حي واعي ، هكذا هو تماما الكون أيضا ، بدون اﻹنسان الكون بأكمله ينتهي كوجود. والزمن هو الصورة الأخرى لروح الله في هذا الوجود والذي منه تولد تلك الطاقة اللازمة لتحدث الحركة والتطور المستمر.

وسوم: العدد 758