الخاطرة ١٨٦ : رمز الكعبة والحكمة من الحج إليها

خواطر من الكون المجاور

في كل عام يذهب الملايين من المسلمين من جميع بلدان العالم إلى زيارة الكعبة المشرفة في مكة وتسمى هذه الزيارة (الحج) ، الحج هو خامس أركان الإسلام وهو شعيرة دينية فرضها الله على كل مسلم له القدرة ( جسديا وماديا) على القيام بها . الحج إلى الكعبة كطقس ديني كان موجود قبل الإسلام ، حيث قامت بتأديتها امم سابقة من أتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام .

الملحدون الذين لا يؤمنون بالروحانيات ، و ينظرون إلى موضوع الحج إلى الكعبة نظرة مادية ، سيعتقدون أن المسلم يسافر مئات أو ربما آلاف الكيلومترات ليزور مبنى صغير في منطقة صحراوية مناخها قاسي ، هذا المبنى على شكل غرفة مكعبة شكلها بسيط جدا بُنيت بالحجر الأسود .

وقد يسخر الملحد من هؤلاء الذين يحجون ويضيعون وقتهم وأموالهم في تأدية هذه الفريضة والتي حسب رأيه لا تفيد في شيء على الإطلاق ، فطالما أن الملحد لا يؤمن بالروحانيات فمن الطبيعي أن لا يجد أي شيء مفيد للإنسان في زيارة الكعبة ، فحسب رأيه لو كانت الكعبة بناء عريق فيه شكل هندسي يبهر العقل والنفس عند التمعن في عناصر تكوينه ، وكذلك لو كانت المنطقة المحيطة به ذات طبيعة خلابة وطقس جميل فربما كان هناك بعض الفائدة من هذه الزيارة فالأيام التي سيقضيها وهو يتمعن في الإبداع الهندسي للمبنى وكذلك وجوده في أحضان الطبيعة الخلابة والطقس الجميل ستجعله يشعر بالإرتخاء والنشوة لتطرد عنه الهموم ومتاعب الحياة التي يحملها قبل زيارته للكعبة ليعود إلى بلده ثانية وهو بصحة نفسية أفضل ومعارف أكثر ليتابع حياته بعزيمة أقوى ولكن الكعبة كما ذكرنا حسب رأيه هي بناء بسيط وحولها طبيعة قاسية وزيارتها لا تحقق أي فائدة ملموسة .

حتى الآن لم يتكلم علماء المسلمين عن أي حكمة تجعلنا نفهم المعنى الحقيقي للحج إلى الكعبة ، وسيبدو لنا أن الحج إلى الكعبة وكأنه قد فرض على المسلمين ليكون الركن الخامس فقط من أجل إثبات إيمان المسلم بالإنصياع لما يأمره الله ، وأن الحج هو أمر إلهي وعلى المسلم تحقيقه بهدف إرضاء الله فقط. ولكن لو قبلنا بهذا المنطق سنجد أن الدين الإسلام سيقع في الكثير من المتناقضات ، فالحديث الشريف يذكر ( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ) وهذا المبدأ هو مبدأ التعاليم الإلهية ، فلا يوجد شيء فرضه الله على الناس إلا من أجل منفعتهم ولسعادتهم . وطبعا طبيعة هذه المنفعة تختلف من عصر إلى عصر مع مرور الزمن . وهنا لا نقصد المنفعة المادية أو السعادة المادية ، ولكن المنفعة الروحية والتي هي الأرقى والتي تقود الإنسان إلى السعادة الحقيقية الدائمة ، لذلك فإن الحج ركن من أركان الإسلام ليس فقط كأمر إلهي ولكن أيضا من أجل منفعة الإنسان والإنسانية.

في هذه المقالة سنتكلم عن الحكمة من وجود الكعبة وكذلك سبب الحج إليها لنوضح لكل ملحد أو أي شخص لا يرى في فريضة الحج أي فائدة أو حكمة تساهم في تحسين فهم الإنسان لما يجري حوله، وحتى نصل إلى رؤية هذه الحكمة سنذكر بعض ما يتعلق بموضوع الكعبة وموضوع الحج :

يقال أن الكعبة بناها الملائكة لأول مرة قبل آدم ، وأنها هُدمت في طوفان نوح ، وأن الله قد أوحى لإبراهيم إعادة بناءها ، ولكن في الحقيقة لا يوجد نصوص دينية تذكر أي شيء عن بناء الكعبة لأول مرة وعن دمارها في طوفان نوح ، ولكن وفق المعتقد الإسلامي أن الله تعالى أمر النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام برفع قواعد الكعبة، وساعده ابنه إسماعيل في بنائها، فقد ورد في القرآن الكريم : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - ١٢٧ سورة البقرة ).

وأن جبريل جلب لإبراهيم الحجر الأسود ، ولم يكن في بادئ الأمر أسود ولكن كان ناصع البياض مثلما يذكر الحديث الشريف ( الحجر الأسود من الجنة وكان أشد بياضا من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك ). ولما اكتمل بناء الكعبة أمر الله إبراهيم أن يؤذّن في الناس بأن يزوروها ويحجوا إليها .

وقد جاء في القرآن الكريم بأن الكعبة هي أول بيت لله في الأرض (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ .٩٦ سورة آل عمران).

أيضا الكعبة لها أسم الدَّوّار ، ومعنى هذه الكلمة حسب لفظها تعني شيء يدور حول نفسه ، أو أن أشياء تدور حوله .

مع ظهور الإسلام سميت الكعبة ببيت الحرام لأن الله حرم القتال فيها (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . الآية٩٧ سورة المائدة).

الكعبة هي قبلة المسلمين في صلواتهم، وإليها يأتي المسلمون من جميع أنحاء العالم ليطوفوا حولها أثناء أداء فريضة الحج .

إذا تمعنا في الامور التي ذكرناها عن الكعبة بشكل حرفي قد لا نصل إلى أي شيء جديد عما هو معروف في المعتقدات الدينية حتى الآن كي يساعدنا في توضيح الحكمة الإلهية من الكعبة لذلك يعتبر الملحد أن الحج إلى الكعبة لا فائدة منه على الإطلاق ، ولكن إذا أعدنا النظر للأشياء التي ذكرناها عن الكعبة وتمعنا جيدا في الرموز المذكورة فيها فإننا سنسلك طريق في تساؤلاتنا له جوانب عديدة تحتاج البحث فيها . مثلا :

- لماذا بنيت الكعبة من حجارة ذات لون أسود ، أو بمعنى آخر لماذا كانت حجارة المنطقة لونها أسود ؟

- لماذا الكعبة موجودة في منطقة صحراوية ذات طقس حار قاسي ، وما هي الحكمة من وجودها في هذه الظروف المناخية القاسية ؟

- ما معنى أن يتحول لون الحجر الذي جلبه جبريل من الجنة من اللون الناصع البياض إلى لون حالك السواد طالما أن الكعبة هي بيت الله وليس بيت الإنسان؟

- لماذا يتم كسوة الكعبة بغطاء أسود طالما ان اللون الأسود هو رمز خطايا أهل الشرك ؟

- لماذا سُميت الكعبة بالدَّوّار ، ولماذا يدور الحجاج حولها ؟

- لماذا الصلاة في الإسلام يجب أن تكون فيها أجسام المسلمين دائما بإتجاه الكعبة ؟

- ما علاقة المعنى الروحي لارتكاب جريمة القتل مع المعنى الروحي للكعبة والذي عليه سميت ببيت الحرام ؟

في الآية ٩٧ من سورة المائدة التي تتحدث عن الكعبة تنتهي بالعبارة (ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كل ما ذكرناه من أمور تتعلق بالكعبة والتي تجعل الملحد يشعر بالتناقضات والتي أيضا قد تبعث فينا تلك التساؤلات التي ذكرناها هدفها في الحقيقة توضيح طبيعة الكون الذي يحيط بنا وعلاقته بتكوين الإنسان ( السماوات والأرض) ، فهناك أشياء لا يمكن لعلماء الفيزياء الكونية فهمها لأنها من الروحانيات فالفيزياء هو علم يدرس المادة ولكنه عاجز عن دراسة ما وراء المادة ونقصد الروح ، لذلك كانت الكعبة وشعيرة الحج إليها رموز تساعدنا في فهم ما وراء المادة وبالتالي فهم حقيقة الكون وتكوينه الشامل الروحي والمادي وليس فقط المادي كما يحصل اليوم والذي جعل معلوماتنا عن الكون وعن الإنسان معلومات عشوائية ورغم صحة الكثير منها ولكنها لا تساهم في تصحيح سلوك الإنسان روحيا. وإن شاء الله في المقالة القادمة سنشرح بشكل مفصل الحكمة الإلهية من جميع تلك الأمور المتعلقة بالكعبة و علاقتها بتكوين الكون والإنسان .

وسوم: العدد 786