الخاطر ٢٠٦ : الفيلسوف ابن رشد المظلوم الجزء 9

خواطر من الكون المجاور

يقول الله عز وجل في كتابه الكريم في سورة المطففين (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) . المطفف هو الذي يحاول أن يأخذ من الناس كل حقه ، ولكنه يغش في حقوق الآخرين ، وهو الذي عندما يقوم بتقييم آراء أو صفات الآخرين يحاول الغش فيُخفي محاسنهم ويذكر فقط مساوئهم ليظهر هو الأفضل بين الجميع . للأسف نحن اليوم نعيش في عصر المطففين . فكل علماء أمة ما (وخاصة علماء الدين) في تأليفهم للكتب المدرسية يحاولون إظهار أمتهم وكأنها أفضل الأمم من خلال تزوير الأحداث التاريخية أو إخفاء الميزات الحسنة في الأمم الأخرى ، وهذا الغش في تزييف الحقيقة زرع نوع

من العداوة والبغضاء بين هذه الأمم . لذلك حاولت في سلسلة مقالات (الفيلسوف ابن رشد المظلوم) أن أذكر محاسن بقية الأمم التي لم تذكرها كتب الأمة الإسلامية لتظهر نفسها من خلال صفحات تاريخها بأنها هي أمة الله المختارة . إذا بحثنا في كتب الأمم الأخرى سنجد أن كل أمة هي أيضا تتبع الاسلوب نفسه لتظهر نفسها بأنها هي أمة الله المختارة . ولكن الحقيقة هي أن الله عز وجل قد وزّع حكمته على جميع الأمم لذلك كل أمة لها محاسن ويجب عليها الإحتفاظ بها وذكرها ، ولكن عليها أيضا أن تذكر مساوئها لتعلم النقص فيها لتتعاون مع بقية الشعوب لتأخذ منها بقية المحاسن التي تنقصها لتتخلص من تلك المساوئ التي تمنع أمتها في تكوين مجتمع راقي حضاريا من جميع النواحي ليسير في طريق المخطط الإلهي .

أنا كمسلم في هذه المقالة والمقالات القادمة من هذه السلسلة سأتكلم عن مساوئ الأمة الإسلامية تلك التي جعلتها منذ ثمانمائة عام وحتى الآن تعيش في عصور إنحطاط ديني وحضاري ، فجميع المسلمين يعرفون محاسن أمتهم ولكن معظمهم يجهل مساوئ أمتهم والتي ظنها البعض منهم بأنها صفات حسنة وليست مساوئ . وإن شاء الله من خلال ذكر هذه المساوئ ستظهر بشكل واضح للجميع تلك المحاسن الحقيقية التي ساهمت في ظهور وإزدهار الحضارة الإسلامية والتي يعترف بها معظم علماء الأمم الآخرى . لذلك أطلب من القراء الجدد قبل أن يقرأوا هذه المقالة ، عليهم أولا قراءة المقالات الماضية من هذه السلسلة لأن معلومات هذه المقالة مترابطة بشكل وثيق مع معلومات المقالات التي قبلها وإلا فالقارئ لن يفهم شيئا وسيظن أنني أعتمد على خرافات . فمقالاتي تنظر إلى أحداث تاريخ الإنسانية كرواية واحدة تتبع مخطط إلهي واحد ، وليس أحداث عشوائية بمعانيها الفقيرة كما يحدث في كتب كل أمة . لذلك أعيد وأكرر أنني في أبحاثي أعتمد فقط على الحقائق الإلهية الموجودة في الكتب المقدسة وفي الأحداث التاريخية والتي هي عبارة عن رموز روحية وضعها الله في الأسماء والأشياء والأحداث المذكورة والتي لا تنكر صحتها أي أمة من الأمم .وكما تقول الآية القرآنية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ۙ أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ .١٥٩ البقرة) ، وفي حديث شريف سنده ضعيف ولكني أذكره هنا لأنه يوافق معنى الأية القرآنية التي ذكرتها (إذا ظهرت البدعة فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله) . في مقالاتي أذكر هذه البينات التي رأتها عيني لتراه عين القارئ أيضاً ، وأرجو الله أن يكون هو - لا أنا - من سينير عقول وروح القراء ليستطيعوا التفريق بين الحقيقة والدجل . فما يحصل اليوم أن أطفال العالم جميعا يعيشون في عصر تسيطر عليه الشوائب الشيطانية التي تحاول تدمير فطرتهم الإلهية التي وضعها الله فيهم ، وحقوق هؤلاء الأطفال فوق حقوق الجميع لأنهم هم مستقبل الإنسانية وسلوكنا نحن الكبار هو الذي سيحدد هذا المستقبل فيما إذا كان سيسير على خطوات المخطط الإلهي أو على خطوات المخطط الشيطاني .

هناك قانون في تطور الإنسانية وضعه الله ليساعد العلماء في فهم حقيقة ما يحدث في مجتمعهم . يقول الله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ .... .١١ الرعد) ويقول أيضا ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ١١٧ هود) . معنى هذا القانون أن الله يساعد الناس عندما يكون سلوكهم يسير مع المخطط الإلهي ، ولكن عندما يخرجون منه عندها يتوقف عن مساعدتهم ويتخلى عنهم ، فتأتي روح السوء لتزرع بهم التخلف والفتنة والعداوة . وحتى نفهم هذا القانون بشكل أوضح سنعرض لكم هذا المثال البسيط : النظافة من الإيمان ، فإذا سلك أفراد المجتمع طريقا مناقض لهذه الصفة وتحول مجتمعهم إلى مجتمع قذر عندها تأتي جرثومة الكوليرا وتنتشر في هذا المجتمع لتسبب به كوارث بشرية وإقتصادية . هنا العالِم الذي يملك البصيرة هو الذي سيوضح للناس بأن سبب هذه الكارثة التي حلت على مجتمعهم هي القذارة بسبب سلوكهم الذي جعلهم يُهملون شروط النظافة وأن جرثومة الكوليرا هي فقط كنوع من العقاب الألهي على سوء سلوكهم . أما العالِم الأعمى البصيرة فهو الذي سيتهم جرثومة الكوليرا فقط ولا يذكر شيئا عن النظافة . علماء الأمة الإسلامية منذ ثمانمائة عام وحتى اليوم يتهمون (الجرثومة) ، ومعظمهم بدلا من أن يبحثوا عن تلك الآراء المناقضة لتعاليم دينهم والتي بسببها أبعدت عنهم العناية الإلهية ، نراهم يحاولون إقناع المسلمين العامة بأن بقية الأمم هي السبب في حالة الإنحطاط الإجتماعي والعلمي التي تعيشها أمتهم .

إن جماعة داعش مثلا والتي اليوم ينظر إليها معظم المسلمين على أنها جماعة منافقة متوحشة مناقضة لتعاليم الإسلام ، هي نتيجة طبيعية لنوعية تلك المعلومات التي تُدرس في كليات الشريعة الإسلامية . كتاب صحيح البخاري مثلا الذي بحسب آراء علماء الشريعة السنة هو أصح كتاب بعد القرآن ، هذا الكتاب يحوي على أحاديث شيطانية تم دسها على رسول الله ، ولهذا رغم وجود الكثير من الأحاديث الشريفة الصحيحة في صحيح البخاري ولكن الأحاديث الشيطانية في هذا الكتاب هي التي سيطرت على المجتمع الإسلامي منذ ثمانمائة عام وحتى اليوم فكان من الطبيعي أن تكون نتيجة هذه الأحاديث الكاذبة ظهور جماعة داعش بشكلها الشيطاني الذي نراه . (ملاحظة : كتاب صحيح البخاري سنتكلم عنه بالتفصيل في المستقبل إن شاء الله ) .

أيضا في مذهب الشيعة اليوم نجد شيخ شيعي في خطبته أمام المصليين يقسم بالله ثلاث مرات ويقول بأنه لو أتى اليوم نبي الإسلام وجميع الأنبياء وجميع الملائكة ولو أتى الله نفسه لن يستطيعوا أن ينقذوا الأمة الإسلامية من مشاكلها، فقط المهدي الإمام الثاني عشر هو الذي لديه المقدرة على إنقاذها . هذا الشرك في الله الذي يرفع مكانة المهدي فوق الله لم يأتي من شيخ مجنون ولكنه نتيجة طبيعية لتلك المعلومات التي يدرسها طلاب الشريعة في الكليات الشيعية . إنحطاط الأمة الإسلامية سببه الأول هو أخطاء هذه الأمة . لذلك قبل أن يتهم المسلمون الأمم الأخرى لكل سوء يحدث في أمتهم يجب عليهم أن يبحثوا في أخطائهم التي بسببها تخلى الله عنهم . وأن يتوقفوا عن شتم بقية الأمم أو المذاهب الأخرى لأن الشتيمة تؤجج نيران الفتنة وتفتح باب الشيطان على مصرعيه . من يصحح أخطائه يقترب من الله والله سينصره ، أم الذي يثير الفتنة بين المذاهب والشعوب فيقترب من الشيطان فتسوء حالته باستمرار من السيء إلى الأسوأ .

حال الأمة الإسلامية وما تعاني منه اليوم من فتن وتفكك وسوء سمعة هو حقيقة إلهية لا ينكرها سوى أعمى البصيرة ، وهنا سأحاول أن أوضح الأسباب التي ساعدت في ظهور تلك الأخطاء التي أبعدت الأمة الإسلامية عن تعاليم دين الإسلام التي فرضها الله على المسلمين . ليعلم المسلم حقيقة مفهوم الدين الإسلامي ، فدين الإسلام بشكله الحالي هو دين مناقض لدين محمد صلى الله عليه وسلم لذلك كان من الطبيعي أن تكون نتيجة تعاليم الدين الحالي وخيمة على الأمة الإسلامية. الحديث الشريف يذكر ( بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ) . دين محمد اليوم هو دين غريب عن معظم المسلمين.

أهم فكرة خاطئة تسيطر على عقول المسلمين هي أنهم يعتقدون أن الدين الإسلامي هو فقط الدين الصحيح وأن بقية الديانات هي على ضلال ، لذلك ومن واجبهم كمؤمنين ان ينشروا عقائد دينهم في جميع الأمم ليتحول جميع الناس إلى مسلمين . فهل حقا الدين الإسلامي تم فرضه من الله على جميع الأمم ؟ للإجابة على هذا السؤال سأذكر لكم حقيقة إلهية على شكل حادثة تاريخية لا ينكر صحتها أي طرف من الاطراف :

في عام (٤٩ هجري) ، في عهد خلافة معاوية بن ابي سفيان حاول المسلمون ﻷول مرة دخول أوروبا عن طريق فتح القسطنطينية التي كانت تعتبر بوابة القارة الأوروبية ، ولكن فشلت محاولتهم. بعد خمس سنوات أرسل معاوية مرة أخرى جيشه لفتح القسطنطينية وبدأ الحصار الثاني وإستمر لمدة سبع سنوات ورغم ضخامة الجيش اﻹسلامي ولكنه فشل للمرة الثانية .

في عام (٩٨ هجري) ،في عهد خلافة سليمان بن عبد الملك كانت المحاولة الثالثة لفتح القسطنطينية حيث جمع جيشا ضخما جدا برا وبحرا لم يعرف المسلمون مثله من قبل، وأعطى سليمان بن عبد الملك عهدا لله بأن لن ينصرف حتى يفتح القسطنطينية ، ولكن الجيوش اﻹسلامية هذه المرة أيضا فشلت فشلا ذريعاً ، حيث مات الخليفة سليمان ولما اعتلى عمر بن عبد العزيز الخلافة من بعده أمر بفك الحصار وعودة الجيش إلى دمشق.... كما تذكر الوثائق التاريخية الإسلامية بأن جيش المسلمين خسر أكثر من ربع مليون شهيد على أطراف جدران مدينة القسطنطينية ، كثير من العلماء المسلمين يعللون بأن خسارة الجيش اﻹسلامي كانت بسبب عدم تأقلم الجنود المسلمين بمناخ المنطقة البارد ، وكذلك بسبب فرار العديد من المصريين اﻷقباط الذين أتوا إلى مشاركة الجيش اﻹسلامي البحري لفتح القسطنطينية . ولكن الوثائق التاريخية المسيحية تذكر بأن الطقس في عام حصار القسطنطينية كان قاسي جدا فسكان المنطقة لم يروا مثل قساوته من قبل ، فالثلوج ظلت تغطي المنطقة لعدة أشهر متواصلة مما أدى إلى سد جميع الطرق أمام جيوش المسلمين لمدها بالمؤن الغذائية ، أما الأسطول البحري فقد تدمر بأكمله بسبب الرياح الشديدة ، حتى أن الجنود المصريين الذين كانوا قد هجروا دينهم المسيحي وإعتنقوا اﻹسلام وجاؤوا كمسلمين للمساعدة في فتح القسطنطينة عندما رأوا التغييرات الفجائية في الطقس من صقيع وثلج ورياح عاتية ، شعروا عندها وكأن غضب الله يحيط بجيش المسلمين ليمنعهم من دخول القسطنطينية فإرتدوا عن الدين اﻹسلامي وفروا إلى الجيوش البيزنطية ليساعدوهم في الدفاع عن القسطنطينية كمسيحيين ضد المسلمين.

الجنود المسيحيين في القسطنطينية في تلك اﻷيام القاسية كانوا يقضون يومهم داخل بيوت جدرانها من الحجارة لديهم الدفئ والطعام الوفير ، ينامون نوما هنيئا ، ولكن من خلف جدران مدينة القسطنطينية ، كان المسلمون في خيامهم يرجفون من البرد والصقيع ، والجوع يلسع بطونهم والأمراض تفتك بهم . المصادر المسيحية تذكر أن المسلمون بسبب شدة قساوة الظروف الطبيعية أصيبوا بنوع من الهلوسة جعلتهم من شدة جوعهم بعد أن أكلوا جميع خيولهم أن يأكلوا لحوم أمواتهم ، هذه المعلومة صحيحة وليست كاذبة وقد ذكرها الله لتكون آية للمسلمين (.. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ .١٢ الحجرات ) ، إبن كثير أيضا ذكر ما حصل بالمسلمين بعبارة مشابهة " من شدة جوعهم أكلوا كل شيء ما عدا التراب" . ربع مليون شهيد في جيش المسلمين ، معظمهم كان سبب وفاتهم ليس طعنة سيف أو سهم من جندي مسيحي ولكن سببه الحقيقي كان البرد والجوع واﻷمراض.

هذه الحادثة التاريخية كانت بالنسبة لمسيحيي أوروبا علامة إلهية تؤكد وكأنها يقين تام أن الله معهم وأنه يطلب منهم أن يتمسكوا بدينهم وأنه سيساعدهم في منع اﻹسلام من السيطرة على أوروبا. وأن يؤمنوا إلى اﻷبد أن دينهم المسيحي على حق .

هذه الخسارة الفادحة التي حصلت في الجيوش اﻹسلامية بعد الحصار الفاشل للقسطنطينية جعلت كل حكام المسلمين من بعد هذه الخسارة يعتقدوا أن مدينة القسطنطينة فيها نوع من اللعنة تحل على كل جيش يحاول دخولها، لذلك امتنع جميعهم عن التفكير في اﻹقتراب من القسطنطينية ، وهكذا بقي الجيش اﻹسلامي بعيدا عن مدينة القسطنطينية لمدة أكثر من ٧٠٠ عام.

والسؤال هنا موجه لكل مسلم يؤمن بفكرة ان الله فرض دين الإسلام على جميع الامم : لماذا سخر الله كل شيء لصالح الجيوش اﻹسلامية في فتوحاتها لتصل في سنوات قليلة إلى الهند شرقا وإلى إسبانيا غربا ، ولكن بمجرد وصولها إلى مدينة القسطنطينية عاصمة الحضارة المسيحية وبوابة أوروبا، إنقلبت اﻷمور رأسا على عقب حيث نجد ان الله قد سخر القوى الطبيعية من صقيع وثلج ورياح في حماية القسطنطينية من المسلمين ؟ لماذا إنقلبت اﻷمور فجأة فبدل أن يساعد الله المسلمين صار ضدهم و ساعد المسيحيين؟ لا يوجد سوى جواب واحد على هذا السؤال، وهو أن الله عز وجل أراد أن تبقى الديانة المسيحية هي الديانة الرسمية لجميع الدول اﻷوربية ،وذلك ﻷن الأمة المسيحية لها دور مختلف عن دور الأمة اﻹسلامية ويجب على هذه الأمة أن تقوم بدورها في تطوير اﻹنسانية . لذلك وجب أن تبقى الديانة المسيحية إلى يوم الدين ، ﻷنه لو إستطاع المسلمون فتح القسطنطينية في ذلك الوقت لكانت الديانة اﻹسلامية اليوم هي الديانة الرسمية لجميع الدول الأوروبية ، ولكن الله منع المسلمين من دخول أوروبا من مدينة القسطنطينية وسمح لهم دخول أوروبا فقط عن طريق إسبانيا ﻷن إسبانيا بعيدة عن مركز القوة اﻹسلامية حيث إستمرار الفتح اﻹسلامي داخل أوروبا من هناك سيحتاج إلى تمديدات غزيرة بالجنود والسلاح والمؤنة وهذا كان صعبا جدا تحقيقه ، وهذا يعني أن دخول اﻹسلام من اسبانيا إلى أوروبا لم يكن هدفه نشر الدين اﻹسلامي فيها ولكن ليكون هناك صلة وصل حضارية بين المسلمين والشعوب الأوروبية ، تساعد في دخول نور الحضارة اﻹسلامية - وليس الدين اﻹسلامي - إلى أوروبا . ولهذا نجد اليوم أن الكثير من مفكري الغرب المسيحيين يعترفون بالدور الكبير الذي لعبته الحضارة اﻹسلامية في حماية العلوم وتطويرها وكذلك دورها في ظهور حضارة عصر النهضة اﻷوروبية والتي لعب أول دور في تأسيسها الفيلسوف اﻷندلسي محمد بن رشد.

ليس من الصدفة أن مدينة القسطنطينة سقطت أولا على يد الجيوش الصليبية في عام ١٢٠٤ الذين أتوا من شمال أوروبا ، حيث دخلوها وأحرقوا مبانيها العامة وسرقوا ثرواتها وكنائسها ، وعندما وصل الجيش العثماني لفتحها عام ١٤٥١ كانت مدينه القسطنطينة قد خسرت الكثير من معانيها وأهميتها بالنسبة للأوربيين ولم تعد بوابة أوربا كما كانت من قبل ﻷن حضارة عصر النهضة التي ظهرت من غرب أوروبا راحت تنشر نورها في معظم البلدان اﻷوربية لتقف أمام تقدم الجيوش العثمانية ، ففي تلك الفترة كانت الحضارة اﻹسلامية قد دخلت في عصور اﻹنحطاط وحلت محلها حضارة عصر النهضة اﻷوربية في متابعة تطوير المعارف، فكان لها هي دور إكتشاف القارة اﻷمريكية ، فإن تحول القارة الأمريكية إلى دول مسيحية لم يحدث صدفة ولكن حسب مخطط إلهي ، لأنها من شعوب الغرب .

أول المهاجرين المسلمين الذين وصلوا إلى مناطق العالم الجديد (أمريكا) كان في النصف اﻷول من القرن العشرين ، أي بعد أكثر من ثلاثمئة عام من دخول المسيحيين لها ، أي بعد إنتشار الديانة المسيحية فيها لتصبح هي الديانة الرسمية لهذه الدول ، فلو كان الدين اﻹسلامي هو الدين الذي فرضه الله إلى اﻹنسانية كافة كما يعتقد المسلمون ، إذن لماذا لم يسخر الله الطبيعة لمساعدة المسلمين في فتح القسطنطينية في بداية القرن الثامن ؟ فإذا كان الدين المسيحي على ضلال كما يعتقد معظم علماء المسلمين، فهل من المعقول أن يسخر الله الطبيعة لنصر المسيحيين ، فقط ليخدعهم ليبقوا على ضلالهم إلى اﻷبد ؟ لماذا المسلمين عندما تحدث معهم أشياء ميتافيزيقية ( خارج قوانين الطبيعة ) يأخذونها كمعجزة وكدليل إلهي على أنهم على حق وأن الله معهم، وعندما يحدث نفس الشيء مع شعوب الديانات اﻷخرى ، ينظرون إليها وكأنها قد حدثت بالصدفة وأنها لا تعني شيئا.

للأسف معظم علماء الدين اﻹسلامي في العصر الحديث، ينظرون إلى معاني آيات القرآن الكريم والكتب المقدسة وإلى ما يجري حولهم من أحداث تاريخية من زاوية صغيرة تناسب تعصبهم الديني ( الدين اﻹسلامي هو آخر الديانات) لذلك يعتقدون بأنه يجب على شعوب العالم بأجمعها إعتناق اﻹسلام ، ولكن الأحداث التاريخية تعارض هذه الظن. يقول يسوع عليه الصلاة والسلام في إنجيل متى. .5 :17 ( لا تظنوا أني جئت ﻷنقض الناموس أو اﻷنبياء. ما جئت ﻷنقض بل ﻷكمل ) أي أنه لم يأتي ليلغي الديانة اليهودية من الوجود ولكن ليأتي بديانة جديدة تكمل الديانة القديمة. ويقول رسول الله في حديثه الشريف ( إنما بعثت ﻷتمم مكارم اﻷخلاق ) بمعنى أن الدين اﻹسلامي لم يأتي ليحذف الديانات اﻷخرى من الوجود ولكن ليأتي بأشياء جديدة غير موجودة في الديانات اﻷخرى . ومعنى هذا أن الله عز وجل هو من منع الديانتين اليهودية والمسيحية من الإنقراض .

فكرة أن الدين الإسلام لم يفرضه الله على جميع الأمم ولكن فقط على الأمة الإسلامية يمكن إثبات صحتها في حقيقة إلهية أخرى :

في القرن السادس قبل الميلاد تحدث بعض الأحداث الهامة جدا تؤثر بشكل جذري على طبيعة مجتمعات الأمم وعلى مصير الإنسانية بأكملها وهي :

- في عام ٥٨٧ قبل الميلاد ، الملك البابلي نبوخذنصر ينتصر على اليهود ويدمر هيكل سليمان ( سليمان هو النبي الذي انعم الله عليه بعلوم الحكمة).

- عام ٥٨٠ قبل الميلاد في اليونان ، يولد بيثاغوراس الذي أطلق على علوم الحكمة لأول مرة مصطلح (الفلسفة) والذي قاد الحضارة اليونانية إلى عصرها الذهبي ، وقد تحدثنا عن دوره بشيء من التفصيل في المقالات الماضية من هذه السلسلة وبينا فيها أن بيثاغورس هو من اولئك المنذرين الذين عبر الله عنهم في الآية القرآنية (... إِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ .٢٤ فاطر).

- عام ٥٦٥ قبل الميلاد في شمال الهند يولد بوذا فتتكون العقيدة البوذية ، البوذية ليست دين بمعناه الحقيقي ولكن هو مذهب فكري روحي أقرب إلى الفلسفة .

- عام ٥٥١ قبل الميلاد في الصين يولد الفيلسوف كونفوشيوس فتتكون العقيدة الكونفوشيوسية التي أثرت على السلوك الاجتماعي والأخلاقي في منطقة شرق آسيا بأكملها.

- في القرن الأول بعد الميلاد أي بعد ستة قرون من ولادة هؤلاء الثلاثة ، تظهر الديانة المسيحية وبعد ستة قرون من ظهورها شيئا فشيء تدخل الحضارة المسيحية في عصر الإنحطاط.

- في نهاية القرن السادس الميلادي يولد نبي الإسلام وفي بداية القرن السابع يظهر الدين الإسلامي فتولد الحضارة الإسلامية وفي القرن الثالث عشر أي بعد ستة قرون من ظهور الإسلام تدخل الحضارة الإسلامية شيئا فشيء في عصر الإنحطاط .

- في القرن الثالث عشر أي بعد ستة قرون من ظهور الإسلام تولد حضارة جديدة في أوربا سميت حضارة عصر النهضة .

كما نلاحظ هنا أن هناك تناوب زمني في تبدل الحضارات من أمة إلى أمة مقداره ستة قرون . الآية القرآنية تذكر (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ .٣٤ الأعراف) وفي الكتاب المقدس المسيحي رؤيا يوحنا الإصحاح ٢٠ الآية ٧ تذكر (ثم متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه) . السنة هنا هي سنة زهرية أي (مدة دوران كوكب الزهرة حول الشمس مرة واحدة ) و ١٠٠٠ سنة زهرية تعادل ٦١٦ عام في التقويم الشمسي ، هذه المدة هي بالضبط عدد السنوات بين نزول جبريل على مريم ليبشرها بولادة عيسى عليه الصلاة والسلام وبين نزول جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ليعلن له بتأسيس ديانة جديدة . وهذه المدة الزمنية هي أيضا المدة بين ولادة حضارة وولادة حضارة أخرى في أمة أخرى.

فكما تذكر الآية أن كل ستة قرون يخرج الشيطان من سجنه ويدخل في نفوس ناس الأمة فتتوقف حضارتها عن العطاء وتدخل في عصور الإنحطاط ، حتى نفهم هذه الفكرة بشكل أوضح سنعرض عليكم هذا المثال البسيط : النور هو الضوء الأبيض ، والضوء الأبيض هو ضوء مركب يتألف من عدة ألوان وهي ألوان قوس قزح ، الله عز وجل وزّع هذه الألوان على جميع الأمم حيث كل أمة أخذت لونا واحدا فقط ، لهذا فإنه بإتحاد ألوان جميع الأمم مع بعضها البعض يتم تشكيل اللون الأبيض (النور الإلهي) ، فعندما يأتي دور كل أمة تحاول هذه الأمة أن تضيف اللون الخاص بها إلى النور فتولد حضارة جديدة في هذه الأمة ولكن عندما تعطي هذه الأمة اللون الخاص بها بأكمله تنفذ طاقتها النورانية وعندها يذهب هذا النور إلى أمة أخرى لتضيف إليه لونها الخاص بها الذي أنعم الله عليها ، فتدخل الأمة الأولى في عصر الإنحطاط وتولد في الأمة الثانية حضارة جديدة من نوعية مختلفة ، وعندما تنفذ طاقتها النورانية هي أيضا تدخل في عصر الإنحطاط ويذهب النور إلى أمة أخرى وهكذا. والذي يحصل في كل أمة أنه عندما تصل حضارتها إلى قمة العطاء تأتي فئة متعصبة من العلماء لا تملك شيئا جديدا لتضيفه لهذه الحضارة فتحاول أن تقارن أمتها ببقية الأمم التي تعاني من الإنحطاط في تلك الفترة فتسخر منها وتدعي بأن أمتها هي أفضل الأمم فيصدقها بسطاء العقول فيعتقدون ان أمتهم فعلا هي أرقى الأمم فتنتقل هذه الفكرة من جيل إلى جيل ومع مرور الزمن تصبح الفكرة جزء من وعي معظم أفراد هذه الأمة فلا يستطيع أذكى الأذكياء الإنتباه لها ليبحث فيها ويتحقق من صحتها بسبب صعوبة التواصل مع بقية الأمم ، هذه الظروف تفرض على كل عالم في هذه الأمة ان يعتمد على هذه الفكرة (أمته هي أمة الله المختارة) في أبحاثه فتكون نتيجتها إستمرار الإنحطاط نحو الأسوأ . هكذا تماما ما حصل مع الأمة الإسلامية فعندما فقدت طاقتها النورانية ظهر علماء دين مزيفين سيطروا على عقول البسطاء وجعلوهم حتى اليوم يعتقدون أنهم أمة الله المختارة ، في بداية القرن العشرين فقط عندما ذهب بعض المفكرين في الأمة الإسلامية لمتابعة دراستهم في الدول الأوربية وعرفوا حقيقة ما يحدث شعروا عندها بمدى تخلف أمتهم في جميع نواحي الحياة .

القرآن الكريم هو كلام الله وهو كتاب كامل بنوره الإلهي ، ولكن حتى يرى المسلمون فيه نوره الإلهي بأكمله في القرآن يجب أن يستعينوا بمعارف وديانات جميع الأمم ، لأن معارف الأمة الإسلامية لها لون واحد فقط وهذا اللون الوحيد سيجعل المسلم لا يشعر بوجود بقية الألوان في القرآن . لذلك كانت الحكمة الإلهية أن يكون تصميم آيات القرآن على نوعين : (...آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات .... ٧ آل عمران) . الآيات المتشابهات هي الآيات التي تخص معارف الأمة الإسلامية والتي منها ظهرت الحضارة الإسلامية وفي فترة ظهورها فقط أي من القرن الأول وحتى السادس الهجري ، أما الآيات المحكمات التي هي أم الكتاب فتخص الإنسانية بأكملها في كل زمان وكل مكان . جميع الكتب المقدسة تحوي على آيات متشابهات وآيات محكمات ، علماء الإسلام منذ أكثر من ثمانمائة عام وحتى اليوم يعتمدون الآيات المتشابهات فقط في أبحاثهم (...فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ... ٧ آل عمران) وهكذا أيضا فعل علماء المسيحية واليهودية في تفسير آيات كتبهم المقدسة ، لهذا كل أمة اليوم تعتقد نفسها أنها هي أمة الله المختارة وأن بقية الأمم على ضلال . أما أبحاثي فتعتمد على جميع آيات القرآن والتوراة والإنجيل المحكمات والمتشابهات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ١٣ الحجرات) ، فكما هي حاجة الذكر والأنثى لبعضهما البعض لتكوين عائلة ولإستمرار الإنسانية ، هكذا هي حاجة الأمم لبعضها البعض من أجل تحقيق إستمرار تطور الإنسانية نحو الكمال الروحي والمادي ، ولهذا السبب يجد القارئ أن معلومات مقالاتي المأخوذة من تعاون معارف الأمم ، غريبة عن معلومات جميع علماء الدين الإسلامي .

في المقالة القادمة إن شاء الله سنذكر حقائق أخرى ستوضح الأمور أكثر عن حقيقة الأمة الإسلامية وسنذكر الأسباب التي جعلتها اليوم تبدو بنظر بقية الأمم وكأنها أمة عنف وشهوة جنسية .

وسوم: العدد 807