الخاطرة ٢٣٥ : دموع الجوكندا الجزء ٢

خواطر من الكون المجاور

خرجت من المبنى وأنا أعتقد تماما أن قصتي مع هذه المرأة في تلك اللحظة قد انتهت وإلى الأبد .

كان صديقي ابراهيم ينتظر خروجي بلهفة ، فبمجرد أن رآني أتى إلي مسرعا وسألني :

- ماذا حدث ؟

واصطنعت نفسي وكأنني نسيت سبب خروجه ، فأجبته :

- تمام ؟

إتسعت الفرحة على وجهه وسألني ثانية ليتأكد أكثر :

- يعني وافقت ؟

- على ماذا ستوافق ؟

- على الخروج معك .

- آ ، لا ، لم أتحدث معها في هذا الموضوع .

- لماذا لم تتحدث معها ؟ جميع تصرفاتها كانت تدل على شدة إعجابها بك وأنها تود أن تنشأ بينكم علاقة .

طلبت منه أن نتابع سيرنا ونتحدث ، ثم قلت له :

- حتى وإن كان شعورك هذا على صواب ، ولكن الموضوع ليس له علاقة بما تريده هي أو ما أريده أنا أو ما تريده أنت ، فطالما أنها متزوجة هذا يعني أن هناك زوج وأبناء ..

قاطعني قائلا بحدة :

- لماذا تصر على أنها متزوجة ؟ لماذا لا تكون مطلقة ؟ ...

قاطعته بنفس الحدة :

- إذا أخذنا فقط الإحتمالات التي تناسبنا ، الدنيا ستصبح خراب . ماذا سيحصل إذا كانت متزوجة ورآنا زوجها ..

قاطعني ثانية :

- لو كانت متزوجة لما تجرأت أن تظهر إعجابها بك بهذه الشدة

فذكرت له مازحا مثل شعبي على فرضية (لو) :

- لو مات لولو لولولولوا

ولكنه أصر على محاولة إقناعي برأيه قائلا :

- جاري "ياني" تعرفه أليس كذلك ؟

هززت رأسي بالإيجاب ، فتابع كلامه :

- هل تعلم بأنه متزوج ومطلق وله ابن صغير ؟

أستغربت كثيرا من هذه المعلومة ، فجاره "ياني" كان شابا بعمرنا ،فسألته بدهشة :

- متى تزوج ومتى لحق أن يطلق ؟

- هذا ما أريد أن أخبرك به ، أنت لست في مجتمع شرقي ، هنا مجتمع أوروبي ، يتزوجون فقط من أجل إنجاب الأطفال ثم ينفصلون ليأخذ كل واحد حريته في التصرف كما يشاء .

ما سمعته عن جاره "ياني" ، أثر في نفسي كثيرا ، فسلوكه كما أعرفه عنه ، كان وكأنه شاب مراهق متهور لا يحمل في نفسه أي مسؤولية لا عن زوجته ولا حتى عن إبنه الذي أنجبه وتخلى عنه في بداية طفولته وكأنه لم ينجب إنسانا بل كلبا صغير أو قطة لا يلزمها سوى لقمة طعام فقط لتنمو !

تأثري بمصير زوجة وابن "ياني" جعلني أود إغلاق موضوع حديثه وعدم مناقشته ثانية ، فقلت لصديقي :

- على كل حال ، سواء كانت متزوجة أو مطلقة ، وسواء أرادت فعلا أن أخرج معها أو لا ، الموضوع قد إنتهى ومهما حاولت أن تقنعني الآن فلن أعود إليها لأتكلم معها بهذا الموضوع ، لهذا من الأفضل أن نغلق هذا الموضوع .

هز صديقي رأسه يمينا ويسار وكأنه يقول في نفسه ( يا خسارة ، يا خسارة).

كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي أجد فيها تناقضا بين ما تطلبه مني مشاعري وبين ما يطلبه مني عقلي ،فأحيانا عندما تحصل مثل هذه المواقف المتناقضة كنت كعادتي سرعان ما أرى الأمور بشكل أشمل تجعل عقلي يُدخل في تحليلاته أشياء لم تكن موجودة من قبل لتؤكد على صحة صدق مشاعري ، فتكون ردة فعلي الأخيرة موافقة تماما لما طلبته مني أحاسيسي . وكوني كنت أتابع نتائج ردود فعلي على الأحداث التي كان لها أثر في تكوين شخصيتي وسلوكي نحو الآخرين ، كنت راضيا عن نفسي تماما وأن إحساساتي نادرا ما تخطئ ، فرغم أنني أذكر أنني قد ارتكبت في حياتي أخطاء ، ولكن ومع ذلك كانت أكثر هذه الأخطاء هي أخطاء تتعلق بمصيري أنا فقط ، وليس مصير الآخرين ، ولهذا معظم نتائجها السلبية كانت تختفي من الوجود بعد ساعات أو أيام قليلة ، والتي تبَقى منها كان تأثيرها السلبي على جسدي فقط وليس على سلوكي ، فمثلا ذوقي يفضل الطعام المالح رغم أن عقلي يعلم أنه مضر للكلية . وأنا متأكد تماما لو أن علماء التاريخ والإجتماع أعادوا النظر في مراحل تطور الإنسانية بناءا على تفسير تلك الرموز الروحية التي تركها لنا الأقدمون ، لوجدوا أن جميع الأحداث الإيجابية أو السلبية التي لعبت دورا في تغيير مجرى التاريخ قد حصلت نتيجة السلوك الإحساسي وليس السلوك العقلي ، ولو تمت كتابة هذه الكتب إعتمادا على تفسير السلوك الروحي لكانت كتب التاريخ والفن والدين وحتى كتب العلوم المادية أيضا قد كتبت بطريقة مختلفة تماما عما هي اليوم . فعلى الرغم من أنني كنت أرى أن سلوكي يسير ضد التيار العلماني الحديث الذي يسيطر على المنهج الفكري ، وأن هذا التيار العلماني أحيانا كان يحاول أن يضعني في حالة شك من سلوكي ، ولكن كانت محبة الناس وإعجابهم بي ، بالنسبة لي هو أكبر إثبات يقيني يؤكد لي بأنني على حق ، وأنه يجب علي أن أستمر على هذا المنهج لأنه يحقق أركان الإيمان : الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح التي تضمن تحقيق سعادة جماعية وسعادة شخصية روحية .

العقل بشكل عام بالنسبة لي لا يملك كامل السيطرة على سلوكنا اليومي كبشر ولكن جزء منه ، فهو أداة تسمح لنا بتحليل نتائج سلوكنا فيما إذا كان قد حدث بتوجيه من روح الخير أو روح السوء لنستطيع فهم انفسنا لإصلاحها . وما حصل في ذلك اليوم كان أقوى دليل على إعتقادي هذا ، فرغم أنني عندما خرجت من مبنى شركة الهواتف كنت معتقدا تماما أن التحليل العقلي هو الذي انتصر في الأخير ، ولكن في الحقيقة كانت إحساساتي هي التي تسيطر على سلوكي وفرضت علي الإنصياع لها . فبمجرد أن أبتعدنا عن مبنى شركة الهواتف بضع دقائق ورأيت الأطفال في باحة المدرسة وهم يصرخون ويلعبون ، تذكرت شيئا جعلني أتوقف في مكاني فجأة ، مما جعل صديقي يستغرب وهو يراني متوترا أبحث في جيوبي ، فسألني عما أصابني ، فأخبرته بأنني ربما قد نسيت أن أستعيد بطاقة الإقامة ، وعندما تأكدت فعلا بأن الإقامة ليست في جيبي ، طلبت من صديقي أن ينتظرني لأعود إلى شركة الهواتف ، ولكن قبل أن أخطو خطوة واحدة رأيته يمسك ذراعي بقوة وعلامات الفرح على وجهه ويقول لي :

- فرصة لا تعوض ، حاول هذه المرة أن تطلب منها رقم هاتفها .

في تلك اللحظات كنت قلقا جدا فالمكاتب الحكومية تغلق أبوابها الساعة الواحدة والنصف ، وتبقى مغلقة حتى يومي السبت والأحد ، وهذا يعني بأنني إذا لم أحصل اليوم على بطاقة الإقامة فيجب أن أنتظر يومين ،وربما تضيع البطاقة خلالهما بين الأوراق ، وإذا ضاعت عندها يجب علي بإعادة القيام بإجراءات طويلة ومتعبة لأحصل على إقامة جديدة كبدل ضائع . ورغم أنني شرحت لصديقي هذا الأمر ، ولكنه كان مصرا على منعي بالقيام بأي خطوة إذا لم أعده بأنني سأتكلم مع الموظفة بموضوع الخروج معها .

سلوك صديقي في تلك اللحظات لم يكن طبيعيا أبدا ، لا أدري ماذا أصابه وكأنه هو الآخر قد سيطرت عليه أحاسيسه ولم يعد عقله يعمل ، فلم يقبل أن يتفهم الوضع ليترك ذراعي ، ولم يعد يهمه أي شيء في تلك اللحظات سوى أن يتأكد من أنني سأحقق رغبته في أخذ موعد من الموظفة .

وبينما نحن على هذا الوضع العجيب ، سمعنا صوت نسائي من بعيد ينادي إسمي ، إلتفتُّ إلى مصدر الصوت ، كانت هي ...بنفسها.. قادمة إلينا من بعيد بخطوات متسارعة ، سحبت ذراعي من صديقي بقوة واتجهت نحوها مسرعا ، فتوقفت هي وأنتظرت وصولي إليها .

أقتربت منها وانا ألهث ليس بسبب الجهد العضلي الذي بذلته وأنا أركض إليها ولكن بسبب حالتي النفسية التي كنت عليها في تلك اللحظات ، فرغم أني رأيت أن الوضع كان فعلا مناسبا جدا لأطلب منها موعدا أدعوها على فنجان قهوة لنتعرف على بعضنا أكثر ، ولكنني لم أتجرأ على طلب ذلك لسبب بسيط وهو أنني لم تكن لدي أية خبرة بهذا النوع من الأحاديث، لذلك كل الذي استطعت قوله لها وأنا أقترب منها :

- آسف جدا ، لقد أتعبتك معي اليوم أكثر من اللازم .

كان وجهها يبدو وكأنها سعيدة جدا لما حصل ، فعلقت على كلامي بابتسامة ملأت كل وجهها قائلة :

- العفو ، ما حصل كان بسببي أيضا .

ثم مدت يدها وأعطتني الإقامة ، فأخذتها منها قائلا :

- حصل خير .

ولكن وقبل أن أضع بطاقة الإقامة في جيبي لاحظت أن مع البطاقة توجد قصاصة ورقية صغيرة ، فأخذت الورقة مستغربا ، ورفعت بصري نحوها وكأنني أستفهم سبب وجودها مع البطاقة ، فرأيتها تخفض بصرها وتختفي البسمة من على وجهها لتحل بدل منها ملامح لم أفهمها ، نظرت إلى قصاصة الورق ، فرأيت مكتوب فيها ( السيدة Iren ، هاتف رقم .... من الساعة ٦ - ٩ مساء ) . فقط أسمها كان مكتوبا بالأحرف اللاتينية .

في تلك لحظة علمت أن ما رأيته في وجهها كان ليس إلا نوع من أنواع التعبير عن خجلها ، لأنها قد إضطرت هي أن تقوم بالخطوة الأولى والتي وجب على الرجل أن يقوم بها وليس المرأة . تأثرت كثيرا لما سببته لها ولجعلها تخجل من فعلتها .

يبدو أنها قرأت ملامح وجهي وشعرت تماما بما كنت أشعر به في تلك اللحظة ، فحاولت أن تقلل إحساسي بالذنب ، فقالت لي وقد عادت البسمة لتملأ وجهها ثانية :

- إذا أردت أن تسأل أي شيء عن موضوع الهاتف بإمكانك الإتصال بي على هذا الرقم .

ولأول مرة وجدت الشجاعة في نفسي بأن أنظر إليها وكأنني أعرفها منذ زمن بعيد ، بحيث أن نظرتي لها جعلتها تخفض بصرها وشيء من الإحمرار يظهر على خدودها ، فقلت لها :

- لا أدري كيف أستطيع أن أعبر لك عن شكري لكل ما فعلتيه من أجلي .

رفعت بصرها ثانية نحوي وقالت :

- العفو ...

ثم تابعت قائلة :

- سررت كثيرا بمعرفتك سيد .. (وذكرت أسمي)

- أنا سررت أكثر بمعرفتك سيدة إيرين

إبتسمت وكانت ابتسامتها هذه المرة وكأنها هي الأخرى تعرفني منذ زمن بعيد ، ثم غادرت إلى عملها .

صديقي ابراهيم كان ينتظر وكأنه واقف على جمر ، فبمجرد أن رآها تصل إلى زاوية الشارع وتختفي ، أسرع نحوي وعلامات الفرح على وجهه وكأنه كان يعلم تماما بأن ما كان يود أن يحصل قد حصل ، وعندما وصل إلي سألني وكأنه مطمئن :

- كل شيء على ما يرام ، اليس كذلك ؟

- طبعا ، طبعا.

تنفس الصعداء وهو يقول ( الحمدلله) . وبعد عدة خطوات من المسير سألني :

- متى ؟

- بعد ثلاث سنوات.

توقف فجأة وكأنه صُدم من إجابتي، وأمسك بيدي لنتوقف عن السير . ونظر إلي مستغربا ، فتابعت كلامي قائلا :

- وربما أربع .

فقال لي وقد إتسعت عيناه من التعجب :

- موعد بعد ثلاث سنوات !

- لا ، أنا أتكلم عن موعد وصول خط الهاتف .

- دعك من الهاتف ، أنا أسألك عن موعد خروجك معها .

- آ ، لا لا لم أتكلم معها بهذا الموضوع .

فضرب بيده على جبينه وكأنه لا يصدق ما سمعته أذناه ، وراح يعاتبني على سلوكي ، قائلا لي أن الفرصة كانت من أفضل ما يكون كوني كنت معها لوحدنا وبعيدا عن جميع الأنظار ، فحاولت تبرير موقفي مكررا ما قلته له في المرة الماضية ، ولكنه قاطعني وكأنه لا يريد أن يسمع مني شيء ، وطلب مني أن نتوقف عن الكلام عن هذا الموضوع ، فطالما أنني لم أستغل الفرصة الذهبية التي أتيحت لي ، فلا داع لنقاشه ثانية . وتابعنا طريقنا بصمت وكأننا لا نعرف بعضنا البعض .

إنَّ ظن صديقي بأنه لم يحصل أي حديث جانبي بيني وبين السيدة أيرين رغم ما رأته عيناه من سلوكها نحوي كان قد أثر عليه بطريقة غير طبيعية لا يمكن أن يصدقها عقل إنسان ، كانت تلك المرة هي الاولى التي يتحدث معي بهذا الأسلوب وطوال الطريق كان يسير مطأطأ الرأس ، حزين ومنزعج في الوقت نفسه وكأن مصيبة حلت عليه فجأة . لكني كنت أعلم تماما سبب حزنه الذي جعله ينزعج مني بشدة ، فرغم أن عقله كان يتصور أن العلاقة بيني وبين السيدة إيرين - لو حصلت - ستكون علاقة جنسية ، ولكن إحساسه كان غير ذلك ، فإصراره الشديد في محاولة إقناعي لتحقيق رغبة السيدة إيرين ، كان سببه الحقيقي هو تماما ما رأته عيني أنا أيضا في ملامح وجه هذه المرأة ، فصديقي ابراهيم رغم أنه كان من النوع الذي لا يعارض المعاشرة الجنسية ، ولكنه كان إنسانا طيب القلب ويلبي أي طلب في مساعدة الآخرين ، وكان الجميع يحترمه . وأنا كنت متأكدا تماما أن إحساس صديقي بالسيدة إيرين ، لم يكن إحساس رغبة جنسية ، ولكن إحساس روحي كان غايته تحقيق شيء من الفرحة لقلب هذه المرأة ليجعل بسمتها الحزينة تختفي من وجهها ، فملامح وجه السيدة إيرين بالإضافة إلى تلك البسمة الحزينة كانت هناك ملامح أخرى تعبر عن الطيبة والحنان . ولهذا إنزعج صديقي كثيرا من تصرفي ظانا أنني تصرفت بقساوة معها لأنني خيبت أملها ورفضت إسعادها .

كثير من أصدقائي يرون بعض الأحيان أنني أتصرف بطريقة غريبة تعارض مصلحتي أو سعادتي الشخصية ، ورغم الإلحاح الشديد من بعضهم ليفهموا أسبابها ولكن ومع ذلك لم أحاول ولو لمرة واحدة أن أفسر لهم عن الأسباب الحقيقية لهذا السلوك الغريب ، تماما كما حدث مع صديقي ابراهيم ، فكان بإمكاني مثلا أن أريه قصاصة الورقة ليستعيد فرحته وينتهي الأمر ، ولكني لم أفعل ذلك لأنني كنت متأكدا تماما بأنه سيذهب ويخبر بقية الأصدقاء بما حدث معي ، ظانا أنه بفعلته هذه سيرفع أكثر من شأني أمامهم ، فأن تطلب إمرأة يونانية من رجل ليتعرف عليها كان في ذلك الوقت نوع من الفخر لهذا الرجل وخاصة إذا كان هذا الرجل مسلم ومن الدول النامية . ولكن الأمر بالنسبة لي لم يكن كذلك ، فهناك صور محفورة في ذاكرتي منذ أن كنت طفلا تجعلني أرى حقيقة مضمون أي تصرف من سلوك كل إنسان . فهكذا شاءت الأقدار وأنا في التاسعة من عمري أن أرى بأم عيني طفلة من حينا وهي تلفظ روحها منتحرة بسبب قسوة أخيها عليها ، وأمرأة أخرى تحرق نفسها ، لأن زوجها هجرها ليعيش مع أمرأة أخرى وتركها لوحدها تتحمل مسؤولية تربية أبنائه ، فلم يكفيها ما فعله زوجها بها رأت كذلك ابنها ذو الثالثة عشرة من عمره قد تحول إلى فتى مشاكس محب للعنف يشتكي جميع سكان الحي من سوء سلوكه برغم بذل الأم ما استطاعت من أجل إصلاحه ولكن كان سلوكه يزداد سوءا يوما بعد يوم ، ولا أزال حتى اليوم أذكر تلك المرة التي رأته أمه وهو يشاكس طفلا أصغر منه ، فصرخت به ولكنه لم يتوقف ، فجرت نحوه لتمسكه ولكنه استطاع الهرب ، فتابعت جريها خلفه بكل ما تستطيع لمسافة طويلة وهي مصممة ان تمسك به ، المسكينة نست أنها ليست صغيرة وأنها قد تجاوزت الأربعين وأن قلبها لن يتحمل هذا المجهود الكبير ، فتوقفت فجأة وهي تلهث وتنظر إلى إبنها الذي وقف من بعيد ينظر إليها ويضحك ، كان لون وجهها مصفرا وكأنه خال من الدم أو كأنه سيغمى عليها ، شعرتُ في تلك اللحظة وأنا أنظر إليها وكأنها تريد أن تنفجر بالبكاء ، ولكنها كتمت ما بداخلها وأخفضت رأسها وعادت الى البيت . وبعد عدة أيام كانت قد إنتحرت تلك الأم ! ..في ذلك العام شعرت روحي بداخلي أن كبار الحي لا يستطيعون رؤية حقيقة ما يحدث مع الآخرين ، لهذا لم يحاول أحدهم أن يمنع وقوع مثل هذه المآسي ، فقررت روحي ومنذ ذلك الوقت أن تتدخل وأن آخذ زمام الأمور بيدي . فتحولت عندها من طفل بسيط يجلس في زاوية الشارع ويشاهد بقية الأطفال وهم يلعبون ، إلى طفل يسيطر على جميع أطفال الحي دون أن يشعروا بذلك لأجعل سلوكهم مشابه تماما لسلوكي أنا ، لكي لا يكون أحدهم يوما ما سببا في إنتحار أخته الصغيرة أو إنتحار أمه . في فترة قصيرة أستطعت أن أتفوق على جميع أطفال الحي بجميع الألعاب التي يتمتعون بممارستها ، وبدلا من أن يتشاكسوا مع بعضهم لأتفه الأسباب ، جعلتهم ينبهرون بما افعله ، فانطلق كل واحد منهم يطلب مني أن أعلمه شيئا من تلك الألعاب التي يفضلها وخاصة رياضة الجمباز وكرة القدم . وتحولت شلة أصدقائي التي كانت تتألف من عدد قليل من الأطفال إلى شلة كبيرة ينتمي إليها أطفال شارعنا وأطفال الشارع المجاور . وأصبحوا وكأنهم أخوة من عائلة واحدة ، وكان أهاليهم في بيوتهم مطمئنين على أطفالهم وهم يلعبون في الشارع لأنهم كانوا يعلمون تماما بأن أطفالهم قد إتخذوني قدوة لهم وأنهم لن يفعلوا شيئا يؤذون به أنفسهم أو ما يسبب لأهاليهم أي حزن أو خجل .

بعد سنوات وعندما كبرت وعلمت جارتي أنني سأسافر إلى اليونان لأقيم مع إبنيها هناك ، حيث كان أحدهم يدرس والآخر يعمل ، فرحت فرحا شديدا وطلبت مني أن أنتبه على أبنيها كما كنت أفعل دوما . في اليونان ومن الأيام الأولى من وجودي هناك علمت الوضع على حقيقته وشعرت بأن الزمن يعيد نفسه مرة أخرى ، وأنه يجب علي أن أفعل تماما ما فعلته وأنا طفل صغير ، فالوضع في اليونان كان وضع حرج جدا ، فمعظم أصدقاء صديقيَّ اللذان كنت أقيم معهما ، كانوا قد ترعرعوا في مناخ حروب ، كانوا جميعهم مسيحيون ، بعضهم عراقيون ممن عاشوا فترة مراهقتهم حرب العراق مع إيران ، وبعضهم لبنانيون عاشوا فترة الحرب الأهلية في لبنان . وكانوا في اليونان لاجئين ينتظرون قبولهم للهجرة إلى أقربائهم في أمريكا أو كندا أو أستراليا ليبدأوا هناك حياة جديدة مستقرة ، ولكن عملية قبول المهاجرين كانت بطيئة جدا فبعضهم كان ينتظر لمدة أربع سنوات وبعضهم منذ أكثر من ستة سنوات ، وهذا التأخير كان قد حطم أعصابهم وبعضهم قد وصل إلى مرحلة الإنهيار النفسي الذي أدى بهم في الواقع الى اللامبالاة أو بمعنى أدق العيش بلا مبادئ . شعرت حينئذ أن أمهات هؤلاء الشباب اللواتي بقين في بلادهن يظنَّن أن أبنائهن قد نجوا من أهوال الحروب ولكنهن في الحقيقة لم يعلمن أن أبنائهم كانوا على وشك الدخول في عالم مظلم من نوع آخر قد يقضي على مستقبلهم وإلى الأبد . فشعرت وكأن هذه الأمهات تطلب مني كما طلبت جارتي أم صديقي أن أهتم بأبنائهن أيضا ولا أتركهم يضيعون في هذا العالم المظلم . فشعرت أنه كما فعلت وأنا طفل صغير وجب علي أن أفعله مرة أخرى . كنت مؤمنا تماما بأن الإنسان هو كائن بطبيعته محب للخير ولكنه قد يضطر مجبرا بعض الأحيان على تغيير طبيعته هذه بسبب بعض الظروف ، لهذا حاولت أن أجعل من نفسي بينهم وكأنني ضميرهم الذي خرج من داخلهم ليقف أمامهم ويحاسبهم على كل تصرف يقومون به . لم أحاول بتاتا أن أنصح أحد منهم فالكلام لا يؤثر في النفس ، كل الذي فعلته هو أن أجبرهم بدون أن يدروا أن يراقبوا سلوكي . خلال شهور قليلة استطعت أن أجعل جميع هؤلاء الشباب ينظروا إلي كقدوة مثالية . كان أصدقائهم الشباب الذين يدرسون في الجامعات يعتذرون منهم لأنهم لا يستطيعون أن يلتقوا بهم بحجة أنهم يدرسون وأن دراستهم تشغلهم عنهم ، أما أنا فكنت أعمل وأدرس وأشاركهم في معظم نشاطاتهم ، حتى أن أحدهم من شدة دهشته لما رآه وسمعه عني ظن بأنني ( إنسان لا ينام) . ورغم أني كنت المسلم الوحيد بينهم ولكن سلوكي جعل معظمهم ينظرون إلي وكأنني أفضل صديق يمكن أن يثقوا به ليتحدثوا معه عن أي مشكلة يعانون منها مهما كانت . حتى أن بعضهم عندما علم بأنني أملك قدرة غريبة في التأثير على مشاعر الآخرين وبأنني بجمل قليلة أستطيع جعل الذي أمامي يذرف دموعه من شدة تأثره أو حتى أن ينفجر من الضحك كانوا يطلبون مني مساعدتهم في كتابة الرسائل إلى أهاليهم تجعلهم يفرحون ويطمئنون عليهم ، أو أن أكتب لهم مثلا الأحداث التي حصلت معهم في بلادهم بطريقة مؤثرة لتقديمها لمنظمات الهجرة ليتم قبولهم كلاجئين مهاجرين . كان بيتي الذي أسكنه بمفردي بالنسبة لهم مكان يجدون فيه حلا لجميع مشاكلهم .

لهذه الأسباب أخفيت عن صديقي ابراهيم حقيقة ما حدث بيني وبين السيدة إيرين ، خشية من أن يظن بقية الأصدقاء أنني تحولت إلى دونجوان يطارد النساء فيحاولوا هم أيضا تقليدي . فقد كنت أعلم تماما أن الغريزة الجنسية عندما تأخذ حريتها تتحول إلى أقوى إحساس في الرجل ويمكن لها في بعض الرجال أن تجعل ضميرهم يدخل في سبات عميق ولا يستيقظ حتى يجدوا أنفسهم قد دمرت حياتهم ، وأن الغيرة الجنسية أيضا يمكن لها أن تدمر أقوى الصداقات .

في ذلك اليوم وبعد عودتي من شركة الكهرباء ، ورغم أني كنت مسرورا أنتظر متى ستأتي الساعة السادسة لأتصل بالسيدة إيرين ، ولكن رغم ذلك كنت قد إتخذت قرارا يحدد لي فيما إذا كان يجب علي أن ألتقي بها أم لا ، وكان قراري الذي إتخذته يتوقف على ثلاث إحتمالات : إذا سمعت صوت رجل يرد علي من بيتها فهذا يعني أنها متزوجة وليس مطلقة ، فعندها سأعتذر له وأدعي انني أخطأت بالرقم ولن أعيد الإتصال بها مرة أخرى ، أما إذا سمعت صوت فتاة صغيرة فهذا يعني أنها علامة من القدر بأن علاقتي مع أمها ستكون نتيجتها سلبية على حياة هذه الفتاة الصغيرة وعندها سأفعل أيضا كما في الإحتمال السابق ، أما إذا سمعت صوتها هي فعندها فقط سأتكلم معها وأترك نفسي تحت تصرف مشيئة القدر .

عندما إقتربت عقارب الساعة من السادسة كنت في الشارع بقرب الهاتف ، أمسكت بالسماعة وضغطت على الأرقام المطلوبة ورحت قلقا أنتظر صوت من سأسمع من الطرف الآخر .... رن جرس الهاتف ثوان قليلة فوجدت أنه كان صوتها الذي سمعته ، ورغم أنها نطقت كلمة واحدة فقط (ألو) ولكني كنت متأكدا جدا من أنه كان صوتها . فقلت لها :

- مساء الخير أنا ..

ولكنها قاطعتني قائلة ( لحظة من فضلك) ، وصمت الهاتف مرة أخرى . وبعد ثوان قليلة عادت وتكلمت معي ، فذكرت لها اسمي ، فأخبرتني أنها عرفت أنني المتكلم منذ البداية ، ويبدو أنها مما رأته في سلوكي في الصباح ، عرفت أنني بلا أي خبرة في هذا النوع من الأحاديث ، فتحدثت هي بدورها وسألتني فيما إذا كنت قد إتصلت بها لأتحدث معها عن أمور الهاتف ، فأجبتها بنعم ، فبدا لي بأنها حاولت اختصار المكالمة قائلة :

- ما رأيك ، إذا كان لديك وقت طبعا ، أن نلتقي في إحدى الكافتيريات لنتحدث هناك بشكل أفضل .

فأجبتها مسرورا على الفور :

- حسنا ، حسنا .

- هل تعلم مكان كافيتريا النجم؟

- نعم أعرف مكانها.

- إذن سنلتقي هناك الساعة السابعة .

- حسنا ، الساعة السابعة سأكون في إنتظارك داخل الكافتريا .

- إلى اللقاء.

- إلى اللقاء .

أغلقتُ الهاتف وتنفست الصعداء . ولكن فجأة تذكرت شيئا عكر مزاجي قليلا ، فرغم أنه قد حدث الإحتمال الثالث من قراري ، ومع ذلك كان هناك شيئا ما يقلقني ... لماذا عندما سمعت صوتي في أول مرة طلبت لحظة من الانتظار ...هل من المعقول أنها كانت مع زوجها لهذا لم تستطع أن تتكلم معي بحرية فاضطرت أن تذهب إلى غرفة أخرى لكي لا يسمع زوجها حديثنا؟ أم أنها كانت مشغولة بشيء آخر لهذا طلبت مني أنتظر قليلا ؟ .... هل من المعقول أن تكون متزوجة ؟ ... يجب علي أن أتأكد من ذلك من بداية لقائي بها .

هذا القرار أتخذته على نفسي وأنا عائد إلى بيتي لأجهز نفسي للقاءها .

....... البقية في الجزء الثالث إن شاءالله.

وسوم: العدد 846